كلمة وفاء .. في .. حق وفاء
عزالدين عبدالكريم
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_كلمة وفاء .. في .. حق وفاء الرفيقة العزيزة جميلة الشاشة الفراشة المنسية
بوح مؤجل منذ أيام ….
ليس لي مزارع للنخيل ، و لا أملك ــ بعد ــ على الأقل ، حتى نخلة ، وبالتالي ، لا عراجين عندي لأعلقها على قبور المتوفين ، كما أقرأ أحياناً لبعض المتحذلقين قولهم ، الذي يلقونه في غير موضعه ، ” لما عاش مشتاف في بلحه و لما مات علقوله عرجون ” … فلا أملك إلا الشجون …
كما أنني لا أعتصر إلا مرارة الفقد بين الحين و الآخر كمُحب لزملاء و زميلات ورفاق ، حتى و إن فرقت بيننا شُعَبُ الطريق في الحياة ، فقد نحتوا في الذاكرة مآثر تحتفظ بها النفس مخلفة فصولاً للسعادة ، غطت الوجدان و ترسخت لتبقى كمخزون يُستدعي عند الحاجة ، و هي في مجملها من أثمن مما ” قد ” يمتلكه المرء في سنين عمره ، إذ نحتاجها عندما تأتي أزمانٌ ، تحضر فيها بقوة بعضُ أبيات للجواهري ، تلك التي قال فيها :
لم يــبقَ عنـــــديَ ما يــبــتـزّهُ الألـــــــمُ
حسبي من الموحشاتِ الهمُّ والهرمُ
لم يبقَ عندي كفاءَ الحادثاتِ أسـى
ولا كــفـــاـءَ جــراحـــاتٍ تـضـــــجُّ دمُ
وحينَ تطغَى على الحـرَّان جــمــرتُـــهُ
فالصمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليهِ فمُ
لكن جدران الصمت تتفتت أمام حجم الصدمات ببعض حالات الفقدان أو حتى الشعور بالخذلان أحياناً ، فكما حصل معي منذ أيام ، إذ و أنا أتصارع مع ألم فقدان رفيقة عزيزة على القلب ، و إذا بأخرى تلحق بها …
المختلف هنا هذه المرة ، يتمثل في أن الصديقة و الرفيقة اللاحقة ، لم تنل حظها من التنويه بمغادرتها ، رغم مفصلية حضورها لزمن في العمل الإذاعي المرئي و المسموع …مع مأساوية مغادرتها الحياة …
إنها المذيعة ” وفاء بهاء الدين ” الليبية التي أطلقتها نسمات الشام و هي صبية ، آذنةً لها بمعانقة وطنها الأم ليبيا ، لنراها في السبعينات تتمختر بزهو كالفراشة بين أروقة الإذاعة بمقرها في شارع الشط ، و كنتُ حينها مشتعلاً بالحماس ، أقضي جُلَّ وقتي في الإذاعة بين عمالقة ، أستشعر في أحايين كثيرة ، حجم النعمة التي منحها لي الله ، بمزاملتهم و مراقبتهم للتعلم منهم …
قبل الاستطراد ، لابد و أن أجيب عن أسئلة أخمِّن تطايرها في البال عند البعض ، و أشير إلى أن ليبيين كُثر ، استقر بهم المقام في دول أخرى ، و لأسباب مختلفة ، لكنها أسباب في غالبها تبعث على الفخر ، و تستدعي حتى الاحترام و التبجيل ، فإما أنهم ومنذ العهد التركي ، شكَّل بعضهم خبرات في مجالاتهم ، لتختارهم الدولة العثمانية لقيادة مرافق مختلفة في بلدان أخرى غير ليبيا ، كانت وقتها خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية ، أو النموذج الآخر الذي برز لاحقاً و تحديداً في زمن الاستعمار الإيطالي ، ليبيون من أولئك الأفذاذ الفارين من بطش أحكام الفاشيست عندما صدرت أحكاماً بالإعدام بحقهم ، لمناوئتهم للاستعمار الفاشيستي و تصديهم له ، صحبة رموز جهادية ليبية أخرى معروفة أسماءها ….. بعضهم فلت من القبض عليهم ، وهناك من نجح في كسر الأطواق وهم في السجون الإيطالية …
في دمشق كان تمركز الليبيين في سوريا في مناطق لعل أبرزها و أكثرها شهرة حينها ، منطقة الصالحية و تحديداً حي المغاربة – لعله نسبة الى ليبيا ـــ و بالنسبة للعزيزة وفاء بهاء الدين فأصولها ترجع الى مدينة الخمس ، و كذلك من بقى هناك في دمشق كابنة خالها الفنانة المعروفة ، السيدة / نجاح عبدالرحمن حفيظ ، و المشهورة في الوطن العربي عبر مسلسلات دريد لحام “غوار” و التي عُرفت بشخصية ” فطوم حيص بيص ” … وشخصياً ، أذكر بعض الزملاء الذين جاءوا قديماً من هناك كالمصور الذي لم أنفك عن مشاكسته بشكل يومي و متعمد و هو العزيز : ” محمد بوشينه ” و الأستاذ المصور و المخرج ” محمود عياد دريزة ” غفر الله لهما ، إلى جانب العزيزة جداً و الرفيقة لسنين و الملقبة بسيدة المسرح الليبي الفنانة ” سعاد الحداد ” غفر الله لها ، و آخرين ….
بالعودة إلى وفاء بهاء الدين ، فقد أضفى حضورها على الإذاعة روحاً تدغدغ المشاعر ، و أعطت وهجاً حتى للحيطان ، فقد جاءت متحررة من كثير من العُقَدْ ، دون فقدان الالتزام بخاصيات الأدب و الحشمة واللياقة …
حينها ، عندما تساءلنا و ” قصقصنا ” و هي سمة لازمة للشخصية البشرية عموماً وخاصة عند شعوبنا ، عرفنا أنها أتت ضمن عملية استقطاب لسيدة المسرح الليبي العزيزة ” سعاد الحداد ” غفر الله لها … و الحقيقة أننا سُعدنا بتواجدها ، كون أي إضافة الى المجال خاصة من العنصر النسائي ، حتماً ستعطي وهجاً جديداً ، المرفق في حاجة له ….و يبقى أمر استعدادها و قابليتها ، وهو ما سيوضحه الزمن …
اللحظة الفارقة في هذا الزمن جاءت بسرعة البرق ، إذ بعد أيام قليلة جداً من وصولها للإذاعة ، و كان ذلك عام 1974 تقريباً ، و أنا أتوجه للأستوديو لتسجيل برنامجي اليومي الذي كان مثيراً لاهتمام كثير من المستمعين حينها ، التقيت مصادفة بوفاء صحبة كبير المذيعين ورئيس القسم ، الأستاذ ” ناصر عبد السميع ” ليستوقفني ، و بشخصيته التي يغلفها الحزم و الجدية قال لي وهو يقدم لي وفاء :
وفاء مذيعة جديدة و أريدك أن تهتم بها و تدربها …خذها معك ، و اتفقا معاً على الكيفية و الوقت … !!!
كما قلت فالابتسامة ووفاء وجهان لشخصية واحدة ، و كياستها و حسن خلقها ، قادها بعد السلام ، لأخذ خطوات بعيدة عني و عن الأستاذ ناصر ، حتى لا تحرجني بقول شيء – قد – لا يمكنني قوله في حضورها … اقتربتُ من الأستاذ ناصر محاولاً الخروج من هذا المأزق المفاجئ ، و همستُ له متمتماً ، كيف أدربها ؟ أنا أصلاً أحتاج من يدربني … و بعنجهيته الأبوية ، أردف :
” لا لا لا …تقدر ، انت خليها زيك بس ، و وجهها ” ، و أقفل الحوار … و تركني الأستاذ و اختفى وقد بلعه رواق من أروقة الإذاعة …
من هذه اللحظة أصبحت وفاء متدربة عندي …….حاولت الإسراع للملمة الموقف – المربك و المفاجئ – ، و كانت الابتسامات منقذه لتوزيعها لحين ، مع عبارات الترحيب البروتوكولية ، معطياً إيحاء بإبعاد المخاوف عنها و تسهيل المهمة و دافعاً لها ، كلُّ هذا و أنا متسمرٌ معها في الرواق ، و أتيت على كل ما يمكن أن يقال ، و هي تنتظر ما الذي سأوجه به ، وأنا أفكر في كيف سأباشر تدريبها .. ؟ و يبدو بأن هذا الموقف هو ما زرع جنين مرض الألزهايمر أو ما يشبهه عندي ، لينمو مع السنين ، فإذا وقفت في منتصف الطريق ، تضيع مني الخريطة أين كنت أنا ذاهب و ما كنت أنوي فعله … لزمن على الأقل …
فجأة… تذكرت أنني كنت متوجه للأستوديو فقررت اصطحابها معي للأستوديو الرئيسي ” S..A..R ” لتراقب تحضيري للبرنامج اليومي ، و لأنه لا منهج محدد للتدريب كان حاضراً ، و لأنني لا اؤمن بكثرة التنظير ، عمدت لشرح كل حركة أو ترتيب أقوم به بالتفصيل الممل ، ثم قررت إشراكها في تقديم البرنامج بشكل يومي و بحضور زمني متدرج في الطول ، و غيرت حتى اللحن المميز للبرنامج ، ليستمع المستمعون إلى أن البرنامج من تقديم : ” عزالدين عبدالكريم و وفاء بهاء الدين ” ، بعد زمن … و كأن المستمعين قد ترسخت عندهم حتمية المشاركة في تقديم البرامج بيننا ، لعله لموسيقية الاسمين ، فأصبح تواجدي مع وفاء يومياً ، وحتى في برامج أخرى ، مسألة معتادة لدى المستمعين ، و أصبح اللقاء العملي لإنتاج البرامج هو المنهج التدريبي الرسمي ، مع ما يصحب الإنتاج التنفيذي من توجيهي – الحريص – لإتمام مهمتي و ذلك في الأمور الفنية التفصيلية ، المتعلقة باللغة و الوقفات و الإلقاء الخ … و سرعان ما تشبعت هي بالأساسيات و أصبحت أكثر سلاسة ، و انطلقت وفاء بهاء الدين لاحقاً ، لتقتحم حتى الشاشة الصغيرة كمذيعة ربط ، و شكلت روحها الودودة و المرحة التلقائية عنصر جذب لدى المشاهدين ، حتى أُطلق عليها ” جميلة الشاشة الليبية ” فقد استطاعت و لسنوات أن تُحدث إضافة للعمل الإذاعي ، و خيار حاسم للبرامج الإذاعية المسموعة و المرئية …. ثم وبعد سنين ، أخذت الحياة كلٌ منا في طريق ، و غادرتُ البلاد، وكنا نلتقي لاحقاً بالمصادفة …
في هذه الفترة الحالية وهذه الأيام ، بشوق كنتُ أنتظر اتصالها ، خاصة ً و أنها فوجئت و سُعدت بوجودي في البلاد مرة أخرى و معرفتها لمخططي الاستقرار ، لكن ظروف الحياة مع توعك صحتها مؤخراً كما قيل لي ، حال دون ذلك ، و اختار لها الله الانفكاك من هذه الحياة … و كأني أراها كما كانت فراشة مزهوة على الأرض ، ما زالت حيث هي تسبح في الملكوت وعوالمه الخفية كالفراشة ، فلا يليق بها إلا الخُيلاء ، أما هنا وما تركت على الأرض ومع حالتي ، فما زالت آثار ابتساماتها و ضحكاتها محفورة في الوجدان ، و نشاطها المتقد ينبض في الفؤاد مذكراً بضرورة عدم الاستكانة ، و لتبقى بحضور ذكراها ، تلك الإنسانة التي زرعت في صحراء النفس شجرة بهجة ، تُلطف من هول المعاناة ، و تخفف من أوجاع الأيام ، باستذكار ما تحقق من سعادة شاملة بصحبتها أمام المايكرفون و الكاميرات …
إلى جنة الخلد أيتها العزيزة … و ستبقين إضافة لا تُنسى لزمن لا يُنسى …