محمّد الحمدي _تونس .. سوسة
و قالت ” سرابْ “..
و قد لاح في مقلتيها مسؤالٌ ..
و بانت على صوتها نبرة من عتابْ .. :
أيا- أبتاه -..
لماذا أراك كسيرا..
كطير القطا أرهقته اليبابْ..؟
لماذا أراك حزينا..
ك” دقلاية ” في الشّمال البعيد..
تئنّ من البرد..
تشكو من اليتم و الاغترابْ..!!
أبي أيّ شيء دهاكَ..؟
و ماذا اعتراكَ..؟
فأنت قريب و لكنّك لست منّي قريبَا..
و أنت أبي غير أنّك تبدو إليّ غريبَا..!!
2
” سرابْ “..
أيا بلسم الرّوح في سنوات العذابْ..
أبوكِ تزعزعَ..
هدّمه الزّمنُ العربيّ اللّقيطُ..
و أرجعه شبحا في بلاد يعشّش فيها الخرابْ..!!
3
” سرابْ “..
أبوكِ هواؤهُ ذلٌّ..
طعامه ذلٌّ..
شرابه ذلٌّ..
قيامه ذلٌّ..
و نومه ذلٌّ..
و تاريخُهُ العارُ و القهرُ و الاستلابْ..!!
4
” سرابْ ..”
أبوك يحبُّ الحياةَ..
و شوقَ الحياة..
و تُربــِكُ قلبَه زفرَةُ نايٍ..
و بسمةُ طفل..
و قطرةُ غيث..
و ومضةُ برق يشقّ السّحابْ..
و لكنّهم مُهرَه قيّدوا ..
و أرماحَه كسّروا ..
و أشعارَه أحرقوا..
و أحلامَه بخّروا ..
فصار كأطلال قصر ينوح عليه الغرابْ..
5
” سرابْ “..
أبوكِ سليلُ الرّجالِ..
سليلُ الفوارسِ و الشّعراءِ الغضابْ..
أبوكِ لقد مرّغوا وجههُ في التّرابْ..
أبوكِ رأى ما تخرُّ لهولهِ شمُّ الرّواسي..
و تجزع منه البروقُ ، الرّعودُ ، الزّوابعُ..
حتّى البراكينُ..
حتّى العُبابْ..!!
6
” سرابْ “..
حبيبةَ روحي..
رفيقةَ دربي..
و مُؤنستي في ليالي العَذابْ..
أبوكِ رآهم ب”بغداد” ذاتَ مساءٍ يهدّون قصرَ ” الرّشيدِ “..
ينامون في المسجدِ الحنفيِّ..
و يلقون في نهر دجلة أغلى كتابْ..
أبوكِ رأى المتنبّي مسجّى..
و حوله لا شيء غيرُ الذّبابِ و غيرُ الذّئابْ..
أبوك رأى “ليلى” مذعورة دون “قيسٍ”..
تنادي..
تنادي..
و لا من يردّ الجوابْ..
لقد ساد صمتٌ رهيبٌ من البحر للبحرِ..
ما سُمع حتّى صوتُ الكلابْ..
7
” سرابْ “..
أيا قرّةَ العينِ..
ريحانة الرّوحِ..
في زمن العُقمِ و الجمرِ و الاحترابْ..
أبوكِ رآهم ب” تونسَ ” ذاتَ صباحٍ..
و قد بزغوا من جُحورِ الرّدَى..
و قد شعِثَ الشَّعْرُ منهمْ..
و قد غبِرَ الوجْهُ منهمْ..
و لا شيءَ كانوا ..سوى لحيةٍ أو نقابْ..
و لا شيءَ كانوا سوى موسمٍ للخرابْ..!
أبوكِ رآهم..
على رأسهم رايةٌ من سوادٍ..
و في يدهم خطبةٌ من كتابْ..
رآهم يهدّون صرح الحضارةِ..
يمتشقون السّيوف الرّديئة..
كانوا يجزّون رأس الأسودِ..
و رأسَ الظّباءِ العِذاب..
رآهم و قد ثملوا بالدّماءِ..
رآهم و قد هتفوا لليبابْ..!
” سرابْ “..
ترى كيف جاؤوا..؟
و من أيّ قبر أتوا..؟
و كيف تسلّلوا بين الجلود و بين الثّيابْ..؟
أجيبي..
أجيبي..
” سُريْبُ “..
فإنّي فقدت الصّوابْ.
8
” سرابْ “.
حبيبة قلبي..
رفيقة دربي.
أبوكِ لقد سملَ ناظريهِ..
فقوديه بوصلة في الفيافي..
و بوصلة في الشِّعابْ..!
9
تقول ” سرابْ “..
و آلمها أن تراني كسيرَا..
و أفزعها أن تراني ضريرَا..
و صارت سمائي بدون شهابْ.. :
أبي لن تهونَ..
(سنقتلع الموت من أرضنا ..
و لو أشعلوا النّار في جسمنا..
و لو مزّقتنا سياط الكلابْ )..!
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_