رحلة معسيدةالمجاز،عميقةالحرف،سماويةالروح، ديكارتية الفكر والنظرالشاعرة د. سكينة مطارنة فيسفرها-لنسج خيوط نصوصها الشعرية،فيديوانها “سفر وحرف”
بوسلهام عميمر-كاتب وناقد من المغرب
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_بعد ديوانيها “بريق روح” باعتبار الروح هي أساس الوجود لا تحقق سموها إلا في عليائها بعيدا عما يعج بها كوكبنا من ضجيج، كما ورد على لسانها في أحد حواراتها القيمة. و ديوانها الثاني “إيقاع بوح” مستوحى من إجادتها العزف على البيانو، وما قصائده سوى معزوفات كامنة تصدر عنها وكأنها نوتات موسيقية برقتها وعذوبتها، تطل علينا الشاعرة والقاصة والمفكرة د.سكينة يوسف المطارنة في ديوانها الثالث “سفر وحرف”، من شرفة حديقتها الروحية، بقصائد تمتح من نبع روحاني شفيف. تتجول بنا على صهوة حروفها بين أرجائها، نتفيأ بظلالها، وننعم برمال شواطئ محيطاتها، ونكابد مد بحرها وجزره وهي تنسج خيوط حروفها الباذخات، لتؤكد أن السفر ليس ضرورة بالأميال و المسافات على متن وسائل النقل المعروفة،في غنى عنختم الجوازات بالمطارات، وفي غنى عن سين وجيم رجال الجمارك ونسائه، بقدر ما هو سفر في ملكوت الروح، حيث الصفاء والنقاء والبهاء، بعيدا عن ضوضاء الحياة المعيشة وضجيجها. تقول بشاعرية لافته في ص82”سفر بلا جواز سفر،، سفر عبر محطات القدر“. فسفرها ليسكأي سفر. إنه سفر في عمق الفكر بمحطاته الراقية الخاصة به، تقطع الأميالعلى دربنظم الشعر، “وكأن الدهر أهداني ،، جواز سفر متعدد ،، الجهات أمضي به ،، يحمل ختم أيامي ،، العابرة ،، ولا زلت في محطات ،، العمرمسافرة“16
و لا أحد فيها ينغص عليها متعتها بسؤالها عن وجهتها،ولا بطلب هويتها،ولا أحد يشوش عليها باعتراض سبيلها،ولا بتفتيش محتويات أمتعتها. تقول في قصيدة “سافرت”، بجمالية لا تخطئها العين”سافرت عبر محيط ،، الفكر غصت في ،، محبرتي القريبة وصلت ،، لأعمق بقعة ،، واجتزت أميالا ،، عديدة ،، غصت في أعماق ،، حكايتي وروايتي ،، وقصيدتي ،، قطعت الطريق ،، بألف وسيلة ،، ،، سافرت عبر مدارات ،، الغيب ،، مررت بألف محطة ،، ولم أختم جواز السفر ،، لم تطالبني الدنيا،، بأختام كثيرة..”89-90.
إنه سفر لا مجال فيه حتى لتوقيتنا العادي المعمول به في حياتنا اليومية على أرضنا الطينية، تقول “بتوقيت الروح ،، أمضي ،، لا بتوقيت “كرينتش” ،، ولا أتبع لساعة (بج بن) ،، ولا أنظمة الوقت ،، ولا قيد السنين“12. هذا سفر الشاعرة،وهذه رحلتها، وهذا موطنها سر أسرارها، منه تمتح أفكارها وتنثره حبرا على بياضات صفحات دواوينها، “ويمضي الحبر ،، في رحلة اللاوعي ،، نحو الوعي في ،، سر الحكاية ،، يجتاز أميالا من ،، طرق التفادي ،، والتغاضي ،، لا يأبه بفوضى ،، الحروف ،، ،،،، سفر في شتاء العمر ،، رغم مطرالحرف ،، المنهمر بشكل مستنير ،، ،، أي تصافح بين أيدي ،، المعاجم لتولد حرارة ،، المغزى من السر الدفين ،، وأي عمر يحمل بين ،، طياته تجارب السنين ،، أي سؤال يفوز بالإجابة ،، أي إجابة؟ ،، تحظى بأسرار اليقين” 76-77-78. تفاصيل دقيقة بصور بديعة، تناولت فيها عملية ولادة نصوصها، تقولفي سياق آخر “ويحدث أن يسير ،، المرء في مساحات روحه ،، يقطع المسافة ،، بخطى الروح لا القدم ،، يخطو برقة الفكر ،، نحو منصة الحياة ،، ،، تدنو الخواطر من عقل صانعها ،، وتقترب القوافي ،، من قلب شاعرها ،، يسير المرء على جسر الحروف ،، يقطعه للضفة الأخرى ،، تحمله الحروف على أكف ،، من رقة البوح“
إنه عالمها الخاص، تؤثثه على هواها و بذوقها، بما يوفر لها أجواء الكتابة والإبداع. فالكاتب (ة) وهو منزو في ركن ما، يحسبه الرائي نسيا منسيا، مهملا، جامدا، لكن لو اطلعت على دواخله وما تعج به نفسه، لوليت منه فرارا و لملئت منه رعبا. إنه وإن تراه جسدا ساكنا، فروحه وفكرهبركان هادر، دائب الحركة لا يفتر دماغه عن التجذيف في خضم أمواج بحر عاتية، بحثا عما يوشي به أشعاره من زينة القول وجماله. إنه كما تقول الشاعرة”محلقا بفكرته ،، يقلب أوراقه ،، يقلب أفكاره ،، يقلب دفتره ،، يقلب سنين العمر ،، يقلب من الدهر أكثره ،، ويجمع بعضه ،، وكله في أسطره“91.وبمهارة المتمكن من صرة صنعته، تمضي في الكشف عن ميلاد قصائدها الشعرية. إنها رحلة شاقة، محال أن يدركبعض معاناتها غير المكتوي بنارولادتها. إنه مخاض لا يقل معاناة عن الولادة العاديةمن قبض وطلق وآلام مخاض، تقول واصفة حاله المأساوية وهو ينظم قصائده وهي لا تزال في طور التشكل والتخلق،”يجمع الحرف حينا ،، حينا يلقي به ،، ليبعثره ،، وأمامه يجلس الورق ،، بجواره يجلس ،، فنجان قهوته ،، وللحن روحه يجلس،، منصتا ،، يغيب عن الوعي ،، بعض الشيء،، ثم يعود الوعي،، شيئا فشيئا،، لسريرته,, هو وحده يجلس ,, هو جالس في حضرة ,, الروح ,,,والروح ماغادرت,,,دقيقته جلسته,, “92
فأي خيال شعري جامح هذا؟فنظم الشعر على امتداد صفحات الديوان قرابة المائة صفحة، ظلت الشاعرة خلالها في انسجام تام مع عتبة الديوان الرئيسية، “سفر وحرف” لتكون من القلائل ممن نلفي عناوين منجزاتهم الأدبية تمثل فعلا واجهتها الإعلامية، تنبئ بشكل بارز عنمضامين نصوصها. فتيمة السفر والحرف في ديوانها،يشكلان الخيط الناظم بين كل قصائده الأربعة والأربعين. عملية إحصائية بسيطة تؤكد هذه الخلاصة.أكاد أجزم أنه ما من نص نص إلا و نسجل ورودهما حرفيا بمختلف الصيغ التركيبية بين الإفراد والجمع، أو من خلال مستلزماتهما كالقلم والمحبرة والورق والتنقل والمحطات وغيرها.
إنها بقداسة لافتة تتحدث عن الحرف، وهي تنظم لا تطلق العنان للقلم يسرح ويمرح كيفما يشاء. إنها تعرف قيمته وجلالقدره.فالحرف عندها، وهو أصغر وحدة عضوية، كما لو أنه خطوات، لا تقدم على الخطوة اللاحقة إلا بعد أن تثبت السابقة. قمة الدقة. فالحروف لديها ليسوا على شاكلة واحدة. إنها لها طبائع كالبشر كما تقول بفنية عالية. فالحروف بالنسبة إليها محطات، لا تنتقل بينها اعتباطا. هي عمليات تحليلية دقيقة، مراعية ما بينها من فروقات.فالحروف عندها ليست لبنات بناء متشابهة ومتطابقة. إنها تدرك جيدا أن الحروف أساس الألفاظ والكلمات. فأي تنافر بين الحروف، أكيد سيختل ميزان ما تريد قوله والتعبير عنه.
إنها تستحضر أن الانتقال من حرف إلى حرف يقاس بمسافات بعيدة لا بد من قطعها على صهوة الفكر والنظر وإعمال العقل بتعبير الفلاسفة. فنظم الشعر لدى الشاعرة أمر جلل لا عبث فيه، ولا شيء فيه يترك للصدف. تقول”أنتقل بين الحرف ،، والحرف ،، بخطى دقيقة التكوين ،، أراعي حدة بعضها،، فطرف الحرف .. ،، حاد بهيبته رزين…. ،، وقار في سر صنعته ،، أنيق في شكل هيئته ،، كما السحر المبين“3.
إنها تدرك جيدا ماذا يعني قول الشعر. إنها تدرك أنه ليس سياحة في سهول منبسطة مفروشة بالورود. إنه ليس،كما يتصوره البعض، من السهولة بمكان نظمه واقتحام عقبته.تقول إنه “يلازمني عصف الحرف ،، رغم هدوئه ،، يلازمني الهدوء رغم ،، ضجيج السطر ،، في منحنيات فكر ،، رزين ..،، ينفض السطر عنه ،، غبار السنين ،، وحبرا سال على ،، ورق المعاني يلقي ،، بالمعنى من شرفة ،، التعبير عن ارتفاع ،، تجاوز طول السنين“86. يرحم الله أحدهم يقال إنه الفرزدق “إن خلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر في بعض الأوقات“. و من قصيدة “هروب” ص52، تقول ” هروب الحرف من ورقه ،، هروب الورق من ،، الحبر ،، هروب الدمع من الجفن ،، هروب الجفن من الدمع ،، هروب يترك أثر” تشبيه بديع للهروب رهيب. وتعضد هذه المعاناة عن تفلت الحرفوجموحه، قبل أن تتمكن من ترويضه، ما نجده مرقونا على الصورة المصاحبة لهذا النص ب ص52″يهرب الحرف من نصه”.
وهي تتحدث عن نظمها للشعر، فإنها تقطع الشك باليقين، لتفصح عن مذهبها الشعري. فالشعر عندها رسالة. صحيح لا مساومة في التنازل قيد أنملة عن مقومات بنائه الأساسية، تميزه عن بقية فنون القول، لكنها تحرص أن تكون بقدر الملح في الطعام. لا تسمح لها أبدا أن تضحي من أجلها بمعاني شعرها، وبما تريد إيصاله لمن يهمه الأمر، ممن لا تزال الأفكار البائدة تحكم مواقفه، وكأن الزمن ثابت لا حركة فيه ولا سكون. من هنا كان موقفهاصارما من السجع ومن المجاز ومن الكنايات وإجمالا من كل زخرف القول والأوزان والغموض. فالشعر وفقها ليس تهويمات وحذلقة كلمات ورص بعضها بجانب بعض في حلل قشيبة. للشعر غائيته،وله دلالاته وإشاراته،لا بد أن تصل للمعنيين بها.تقول في واحدة من طوال قصائدها بنوع من الشدة لا رحمة فيها. فالأمر جد لا مساومة بشأنه،ص 62-63-64″على بعد بيتين ،، لا أكثر ،، ركنت أدوات اللغة ،، ومضيت أنظم ،، قصيدتي من ،، غير أداة ،، أخذت السجع ،، جانبا ،، ألقيت بالمجاز من شرفة ،، الكلمات ،، واحتجت الكناية ،، وهي الأخرى لحقت بالمجاز ،، من نافذة الذات ،، جردت السطر من ،، زخرف القول ،، ألبسته العادي ،، من وشاح الحركات ،، الوزن كسرته ،، وجبرت آخره ،، جعلته يمشي ،، لبضع خطوات ،، نثرت بعض الوضوح ،، في وجه النص ،، تركت غموضه ،، يغادر الساحات”.ومع تشديدها على موقفهاهذا من الشعر باعتبار قصديته، فإنها تدرك جيدا فرادته وتميزه. ومع كل ما سبق التأكيد عليه،فالشعر يبقى أحد أعرق الفنون يتميز عن غيره بجمال صوره و جزالة لفظه و بديع لوحاته. لنتأمل معها هذا التعبير الراقي الجميل، فضلا عما يتضمنه من عمق فلسفي “ما كنت أعرف ،، أن الشمس في ،، إشراقها إعلان ،، غيب يحمل في ،، جنباته سرادفينا ،، بل كنت أعرف أن ،، الصبح يغادر ،، ليله في فحوى ،، أسرار الأنين ،، ما كنتأعرف أن ،، الليل في حضوره ،، تلغى طقوس الراهبين ،، بل كنت أعرف أن النجميسامر ليله ،، والقمر يعتلي عرشا ،، رزين“35
قبل الختملا بد من الوقوف مليا على مجموعة من القضايا نوردها كالآتي:
أولاها،الشاعرة وهي تتفنن بيانا وبديعا ولغة شاعريةسلسة منسابة كشلال رقراق،جعلتنا نتابع معهاأطوار تشكل نصوصها الشعرية ابتداء من لاوعيها إلى وعيها مستوية على عودها، في أبهى حللها مبنى ومعنى، بعد مخاض عسير قاطعة أميالا بين محطات الفكر، لم يفتها أن تسجل مجموعة مواقف. فالشاعر فاعل في مجتمعه ومنفعل. متأثر بما يعتمل في دواخله ومؤثر فيه.بلغة شديدة اللهجة، يبلغ بها الغضب مبلغه لتعلنها مدوية،بصريح العبارة “قد ضاقت بنا البلدان ،، لم يعد فينا ،، شغف البقاء ،، لم يعد البقاء يطلبنا ،، هروب من مسامات الجلد ،، من ضلوع الصدر ،، من بؤبؤ العين ،هروب الحرف من ورقة , هروب الورق من الحبر ..، هروب الدمع من الجفن ،، هروب الجفن من الدمع ،، هروب يترك أثر” 50-51. ليس هذا وحسب، مباشرة بعد هذا النص،أعقبتهبنص آخر أشد من سابقه غيظا وأسىبعنوان “لعنت الكوكب“، نقتطف منه قولها المعبر”لعنت الكوكب ،، والتاريخ والجغرافيا ،، واللحظة الحاسمة ،، وأسباب العيش ،، وطقوس الحياة ،، البائسة ،، لعنت الفكرة الأولى ،، والحرف والدفتر ،، والمحبرة الجاثية ،، لعنت سنين لا ،، جدوى من تواجدها ،، في دفتر العمر ،، وسجل العافية ،، لعنت العيش وخضوع المرء ،، للقمة خبز يابسة”53-54. لم يتوقفتذمرها عند هذا الحد.قمة الغضب. فهل هناك أقسى على النفس أن يصبح وطنه منفاه ومغتربه، تقول “هروب آسر ،، من هنا من الكوكب ،، ضاقت بنا الأرض ،، ضاقت رغم اتساع ،، مساحات العمر ،، بل أكثر ،،،،، الأرض ما عادت الأرض ،، ما عادت الأوطان ،، أوطان .. منفى ،، يدعو إلى المهرب“59
ثانيها،الشاعرة وهي تتجول بنا في حديقتها الروحية، مجال تخلق فسيفساء قصائدها، لا يمكن أن يفوتناتسجيل حضور الموسيقى في ديوانها حضورا لافتا، ابتداء من لوحة واجهته مؤثثة بنوتات موسيقية. فالفتاة وهي متوجهة بصدر عار نحو البحر مرفوعة الهامة، تمشيبخطى ثابتة على نغمات موسيقى تبعث في نفسها الحماس، لتواصل تقدمهابعنفوان، غير آبهة بعتي أمواج البحر وخطورته. فعنوانها التحدي وركوب الأخطار من أجل تحقيق طموحتها.
فما نيل المطالب بالتمني لكن الدنيا تؤخذ غلابا
بل إنها تتحدى البحر نفسه، وتعلمه أسرار الغوص. تقول بشاعرية رفيعة“تجاوزت البحر ،، أعلنت التمرد ،، لم يقيدني مده ،، لم يربكني جزره ،، كنت أعلم البحر ،، أسرار الغوص ،، لم أكن يوما غريق” 13. فحضور الموسيقى في الديوان بالزخم الذي عليه، ليس اعتباطا تزين بنوتاتها لوحة الغلاف، أو كلمات من قاموسهاتحضر في جل صفحاته. ففي الحروب للموسيقى كلمتها الفصل في تحقيق النصر، لما لها من تأثير في النفوس.فضلا عن كونها اليوم شكل من أشكال التعبير الجميلة. تنقل المشاعر والأحاسيس برقي نادر. فحضورها لافت بشكل مباشر أو بما يلزمها. ولنا أن نستحضر روح العازف الموسيقي ووجدانه في تفاعله مع قوله و فعله. إنه السمو بكل معانيه. في أكثر من صفحة تتحدث عن العزف، وعن الإيقاع، وعن اللحن، وعن آلات موسيقية كالجيتار والكمان والبيانو بمفاتيحه، وعن النوتات الموسيقية وعن المايسترو. وهي تكتب الشعر وكأنها تعزف ألحانا تشعر بوقعها وأنت تردد مقاطعها. فجرس كلماتها لا تخطئه أذنصاغية علاوة على وقعها في النفس. الديوان حافل بالأمثلة،نورد مقتطفات منها على سبيل التمثيل لا الحصر. قصيدة “و مضيت أنا”، تقول في ص24”العزف في سره ،، واللحن لم يظهر بشكله ،، العادي ،، إيقاع الروح مسلكه ،، وسلم الموسيقى ،، دو ري مي بترتيبه الحالي ،، بيني وبين اللحن انسجام ،، لست أدركه ،، والبيانو مفاتيحه الأسود ،، والأبيض تعشق اعتباراتي ،، الجيتار يرافق كتفي في ،، تألقه يأتي ،، على مقاس آفاقي“
ثالثة الأثافي، فالشاعرة في خضم ما تنثره من درر،كانت تأملاتها الحياتية من العمق بمكان، تنم عن بعد نظر،و عمق تجربة، ورجاحة عقل، لما تلتحم مع جزالة اللفظ والعاطفة الجياشة يكون الإبداع في علاه. تقول في إحدى هذه التأملات جديرة بالتدبر،“تكتظ المحطات بالمسافرين ،، وقد يفوت البعض ،، قطار عمره وقد يدرك القطار ،، بعد فوات الأوان ،، كل شيء محتمل ،، في رحلة العمر الطويلة ،، في قصة حياتنا التي ،، تبدو قصيرة”6، وفي أخرى تقول،“لا أجادل في حقيقة ،، اللاوعي وإن كنت أعرفها ،، ولا أدعي الوعي ،، في مداركه وإن كنت ،، أدركها” 37.نماذج كثيرة يزخر بها الديوان، نصادفها في ثنايا نصوصها. هو الشاعر(ة) ليس كغيره، قد يرى ما لا يراه عامة الناس، ويسمع ما لا يسمعون، ويستشف من حادثات الأمور ما لا يستشفون. إنه يكلم كما البشر، الشجر والحجر. تقول “في هذا العالم ،، ثمة صوت عمييييق ،، من السماء آت ،، يؤكد لي أن السماء تنصت ،، وأن القدر في خفايا ،، الغيب حاااااااصل ،، صوت رغم الضجيج ،، واضح ،، صوت رغم تخبط الكوكب ،، صااااااااارخ”72.
كما لا يفوتنا ونحن نعدد ما يزخر به ديوانها من تأملات، أن نشير إلى ما جاء عفوا من حِكمعميقة آية في التعبير، نقتطف من حديقتها الغناء إحداها للتمثيل، في قصيدة“لا تسألوا الواثق”ص84 مؤكدة على أمر غاية في الأهمية قلما ننتبه إليه، إذ عادة ما لا تجذبنا غير النتائج ونقط الوصول، أما كيف يتم الوصول، وكيف يتم التتويج، وبأي ثمن فقلما نهتم به، تقول “لا تسألوا الوااااثق ،، عن خطاه ،، بل اسألوا ،، كيف اجتاز الصعب ،، لمبتغاه ،، لا تسألوا الخيل الجامحة ،، عن جموحها ،، بل اسألوا ،، عن إصرارها وسر ،، العنفوان في مدااااااها”.وفي سياقانسجامها مع تيمة الديوان الرئيسية “سفر وحرف”أشادت أيما إشادة بالكتب والكتاب ببلاغة متناهية. إنه من أجمل ما يمكن الوقوف عنده مليا تقديرالما أسدوه للبشرية. إنها بعض من أرواحهم، تقول“وكتب تعج بحكايا ،، أرواح تركت من روحها ،، أثرا عالقا في سجل ،، التاريخ منقوشا ،، على جدران ذاكرة ،، الزمن بشكل مبين ،، وبعضا من بقايا الفكر ،، وبعضا من قضايا العمر ،، وبعضا من الوجع الكامن ،، في خصر الزمن”87
تيماتأخرى جديرة بالوقوف عندها مليا، لها علاقة بما سبقفي سياق اهتمام الشاعرة بصناعة كتابة الشعر والمهارة في نسج خيوطه، كتيمة الروح، تقول”هو وحده يجلس ،، مع وحده ،، هو جالس في حضرة ،، الروح ،، والروح ما غادرت ،، دقيقة جلسته ،، يبث الله الروح في ،، الجسد ،، ولا تفارق الروح ،، جسدها إلا ،، بأمر ربها ،، يشاء الله للروح ،، عمرا، والعمر ،، في اللوح محفوظ ،، إنه لطف الله وحكمته“92-93،و كذا تيمة الليل على دربكبارالشعراء،لما تدْلهِم عليهم الخطوب ليلا، فيتمنون انقشاعه وانبجاس صبحه، تستحضره وهو ينزل بكله وكلكله،لتقول “ليل يخطو ببطء ،، مفرط ،، وكأنه يحبو ،، رغم أقدامه الأربعة ،،،، أيها الليل الحاملعلى ظهرك أعباء ،، الساهرين الجالسين ،، على شرفتك الواسعة ،، أما آن للفجر أن يأتي ،، أم الإذن منك لم ،، تعط إشارة فارقة ،،،،، ليل ثقيل أودى ،، بالوقت لسكة ثانية ،، لا العين تعشق نومها ،، ولا النوم زارها بصفة ،، جازمة“40، وتيمة السر في علاقته بالبحر تضفي على الروح قدسيتها، وتيمة البحر بأسراره تقول “لماذا السر يستتر؟ ،، لماذا غموض البحر يأسرني؟ ،، هل عانق المد الأفق؟ ،، أم الجزر عاد يسحبني“47
رابعها، الشاعرة د. سكينة بحكم تكوينها الأكاديمي المعمق شهادة الأستاذية باللغة الإنجليزية التخصص الدقيق لغويات تطبيقية، تدرس طالباتها في الجامعات مادة علم المعاني وهي أشد المواد صعوبة لأنها قائمة على الفهم العميق لمعنى النص كما تدرس كل أنواع الترجمة وقضايا اللغة وأشدها تعقيدا، وبحكم ازدواجية لغتها بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية وما يلازم ذلك من تلاقح ثقافتينزاخرتين بشتى أنواع العلوم والمعارف، انعكس كل ذلك على نظمها للشعر، مما جعله على مستوى عال من العمق الفلسفي. فما الفلسفة غير بعد النظر والسؤال وإعمال العقل، و التعمق في فهم كنه الأشياء وحب الحكمة، وهو ما نجده تصريحا أو تلميحا في جل قصائد ديوانها. فالإبحار في يم شعرها ليس كأي إبحار. فديوانها هذا كغيره من دواوينها، عادة ما تسكب فيها خلاصة حياتها، وعصارة تجاربها، مفعمة بالمشاعر والأحاسيس. إنها ليست كأية شاعرة، أشعارها مفعمة بعمق رؤيتها للأمور. أشعار تعكس فلسفتها في الحياة. فنجدها مثلا تؤكد على تيمة السفر عبر محطات القدر، باعتبارنا مسافرين لا مقيمين، فليختر كل منا ما سيخلفه من آثار. من هنا كانت إشادتها بما خلفه الأسلاف من تأليفات في مختلف المجالات، وكان اهتمامها بسر الأسرار، واهتمامها بالأرواح.بالمثال يتضح المقال. قصيدة “تفاصيل سفر” تحكي عن تواجد الروح عبر الحروف فوق مساحات الورق، حيث يسافر المرء عبر مساحات روحه، ويلقي علينا بعض الخطب كما ورد على لسانها في أحد حواراتها. تقول في ص5-6-7“ويحدث أن يسير ،، المرء في مساحات روحه ،، بخطى الروح لا القدم ،، يخطو برقة الفكر ،، ،، تدنو الخواطر من عقل صانعها ،، ،، يسير المرء بخطى الوجد ،، وتجليات صنع القدر ،، ،، ثم يتخذ البصيرة مسلكا ،، ثم يواصل المسير في رحلة عمره ،، حاملا حقائب الزمن ،، وتصاريف السنين ،، في رحلة العمر الطويلة ،، في قصة حياتنا التي ،، تبدو قصيرة ،، في تشعب الطرق الكثيرة ،، في أدق تفاصيلها وإن ،، كانت صغيرة”، و في ص64، تقول“،، وجمعت بعض ما ،، تفرق ما من دواعي ،، الفكر جعلته في ،، أعالي البوح ،،يصعد درجات ،، قرأت في قرارة ،، نفسي بلوغ ،، عمق الفهم ،، تجاوزت بقاء ،، نهايات الأشياء ،، مفتوحة دون غايات”
ويبقى ديوان الشاعرة د. سكينة مطارنة لزخمه المعرفي، وعمقه الفلسفي، وجموح خياله جموع جهابذة الشعر وفحوله،ولجمال بنائه،بانسيابية لغته وجزالة لفظه وببديع صوره، أكبر من أن تحيط به دراسة واحدة. إنه من الغنى بمكان. فما أحوجه لدراسات أخرى، تتناوله بمناهجأخرى مختلفة ومن منطلقات مغايرة.
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_
Average Rating