نوار الصمد
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_في التاسع من يناير 2025، انتهى الفراغ الرئاسي الذي استمر لأكثر من عامين في لبنان، بانتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيساً للجمهورية، في عملية انتخابية أثارت جدلاً دستورياً واسعاً. حصل عون على 99 صوتاً من أصل 128 نائباً في الجولة الثانية من التصويت، بعد أن نال 71 صوتاً فقط في الجولة الأولى؛ ما عكس تحولاً حاسماً في مواقف بعض الكتل النيابية خلال فترة قصيرة. هذا الجدل الدستوري نبع من المادة 49 من الدستور اللبناني، التي تمنع انتخاب كبار موظفي الدولة خلال فترة توليهم مناصبهم أو خلال أقل عامين من انتهاء خدمتهم؛ ما تطلب تعديلاً ضمنياً للدستور لتجاوز هذه العقبة.
وتم حسم هذا اللغط الدستوري نتيجة التوافق السياسي على القبول بدستورية فوز جوزيف عون إذا تجاوزت أصواته أغلبية الثلثين (86 صوتاً)؛ حيث لا يمكن حينها جمع عدد النواب المطلوب، المحدد بالثلث لتقديم طعن في نتائج الانتخابات إلى المجلس الدستوري. هذا الحل السياسي يُبرز الدور الذي لعبته القوى الداخلية والخارجية لضمان تمرير هذا الاستحقاق الرئاسي دون عراقيل، بهدف إنهاء الفراغ الرئاسي وتعزيز استقرار البلاد في ظل أزماتها المتعددة.
توافق سياسي
جاء انتخاب الرئيس جوزيف عون نتيجةً لعدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية تضافرت بعضها مع بعض لتنهي فراغاً رئاسياً هو الثالث منذ عام 2007:
1– الضغط العربي والدولي لإنهاء الفراغ الرئاسي: لعبت القوى الإقليمية والدولية دوراً حاسماً في تحقيق التوافق على اسم جوزيف عون لرئاسة الجمهورية اللبنانية. بعد فراغ رئاسي دام أكثر من عامين، تدخلت الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية بشكل مباشر للضغط على الأطراف اللبنانية من أجل الوصول إلى حل ينهي الأزمة السياسية. وأرسلت هذه الدول مبعوثين خاصين، مثل المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين، والمبعوث الفرنسي جان إيف لودريان، بالإضافة إلى المبعوث السعودي الأمير يزيد بن فرحان. أجرى هؤلاء المبعوثون سلسلة من اللقاءات مع القادة السياسيين اللبنانيين، حاملين رسائل واضحة مفادها أن المجتمع الدولي لن يدعم لبنان اقتصادياً وسياسياً ما لم يتم التوافق على رئيس جديد، كما ألمحوا إلى أن المساعدات الدولية والإقليمية، وخاصةً في مجال إعادة الإعمار بعد الحرب مع إسرائيل، ستكون مشروطة بانتخاب رئيس قادر على قيادة الإصلاحات. هذه الضغوط الدبلوماسية المكثفة جعلت القوى السياسية اللبنانية تدرك أن استمرار الفراغ الرئاسي لم يعد خياراً مقبولاً.
2– ضعف بعض القوى التقليدية في لبنان: في ظل التغيرات الإقليمية المتسارعة، شهدت بعض القوى السياسية التقليدية في لبنان تراجعاً في نفوذها، خاصةً بعد الخسائر التي تعرَّض لها حزب الله في الحرب الأخيرة مع إسرائيل. هذا التراجع أضعف قدرة الحزب على فرض مرشحه للرئاسة أو الاعتراض بشكل فعال على المرشحين الآخرين. واستغل المجتمع الدولي والإقليمي هذا الضعف لتعزيز فرص جوزيف عون؛ حيث رأى فيه شخصية توافقية يمكنها إعادة التوازن إلى المشهد السياسي اللبناني من دون إقصاء أي طرف. ويمكن القول إن تراجع نفوذ حزب الله وحلفائه فتح الباب أمام الأطراف الأخرى للمضي قدماً في دعم عون دون خوف من تعطيل العملية الانتخابية، كما أن الحاجة الملحة إلى إعادة الإعمار واستعادة الثقة الدولية حفَّزت القوى السياسية على تجاوز خلافاتها والاستفادة من الفرصة السانحة.
3– قدرة “عون” على خلق إجماع مرحلي بين الخصوم: تمكن جوزيف عون من تحقيق تقاطع مصالح بين قوى سياسية متعارضة تقليدياً، مثل القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، وحركة أمل بقيادة نبيه بري، وحتى حزب الله. هذا الإجماع المرحلي لم يكن ناتجاً عن تحالفات استراتيجية بقدر ما كان استجابةً للحاجة الملحة إلى ملء الفراغ الرئاسي وتجنب مزيد من الانهيار في البلاد. ولقد أظهر عون براعة في التواصل مع مختلف الأطراف، مقدِّماً ضمانات وتطمينات لكل منها بشأن مخاوفها وهواجسها؛ فبالنسبة إلى القوات اللبنانية، كان وصول جوزيف عون يمثل فرصة لتعزيز سيادة الدولة واستعادة دور المؤسسات، واستطاعت وعوده بالحفاظ على الاستقرار الأمني وعدم اتخاذ قرارات تستفز أي طرف، طمأنة حزب الله وحركة أمل (المعروفَين بالثنائي الشيعي). هذا النهج البرجماتي ساهم في بناء ثقة مؤقتة بين الخصوم؛ ما أتاح تمرير انتخابه بسلاسة نسبية، مع إدراك الجميع أن التعاون هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة.
4– تحييد تأثير القوى المسيحية المعارضة: على الرغم من أن التيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل، عارض ترشيح جوزيف عون بقوة، فإن هذا الاعتراض لم يؤثر بشكل كبير على سير العملية الانتخابية؛ حيث تمكنت الضغوط الدولية والإقليمية القوية، بالإضافة إلى توافق معظم القوى المسيحية – أي حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، وحزب الكتائب بقيادة سامي الجميل، وتيار المردة الذي يتزعمه سليمان فرنجية – على دعم عون، من تحييد تأثيرات معارضة التيار الوطني الحر، كما أن الرأي العام المسيحي كان يميل إلى إنهاء الفراغ الرئاسي وتحقيق الاستقرار. وكان ينظر إلى معارضة باسيل لوصول جوزيف عون إلى سدة الرئاسة على أنه خلاف شخصي؛ لرفض قائد الجيش التعامل بقسوة مع ثوار 17 تشرين، وعدم الانصياع لرغبات وزير الدفاع المحسوب على باسيل. ومن ثم، لم يتمكن التيار الوطني الحر من حشد دعم شعبي وسياسي كافٍ لعرقلة الانتخاب.
5– دفع المتغيرات الإقليمية نحو تسريع انتخاب رئيس جديد: جاء التوافق على انتخاب جوزيف عون في توقيت حساس للغاية على الصعيدين الداخلي والإقليمي؛ فبعد اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل في نوفمبر 2024، كان هناك فراغ قيادي في التعامل مع تبعات الحرب وإعادة الإعمار، كما أن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا أحدث تغييرات جوهرية في التوازنات الإقليمية؛ ما أثر على التحالفات الداخلية في لبنان؛ فعلى سبيل المثال، أعلن بعض النواب المستقلين الذين كانوا يدورون سابقاً في فلك قوى الثامن من آذار، كفيصل كرامي وحسن مراد وطه ناجي وعدنان طرابلسي وبعض المنشقين عن التيار الوطني، مثل ألان عون وسيمون أبي رميا؛ دعمهم لجوزيف عون، كما أن مرشح حزب الله الأساسي للرئاسة الوزير السابق سليمان فرنجية انسحب من التنافس، معلناً دعمه لجوزيف عون. وأدركت القوى السياسية أن التأخير في انتخاب رئيس سيجعل لبنان عرضة لمزيد من التدخلات الخارجية وربما الانهيار الاقتصادي الكامل.
6– نجاح “عون” في تقليل مخاوف حزب الله وحلفائه: لقد لعبت اللقاءات المباشرة بين جوزيف عون وقيادات من حزب الله وحركة أمل دوراً حاسماً في تأمين دعم هاتين القوتين لانتخابه، خاصةً بين جولتَي الانتخاب؛ حين التقى عون النائب علي حسن خليل عن حركة أمل، ورئيس كتلة الوفاء المقاومة النائب محمد رعد. وخلال هذه المفاوضات، يقال إن عون قدم ضمانات تتعلق بتعزيز دور الدولة ومؤسساتها دون استهداف أي طرف. هذه التعهدات ساهمت في تبديد مخاوف حزب الله وحلفائه من أن يكون انتخابه خطوة لاستهدافهما، كما تناولت المفاوضات قضايا إعادة الإعمار للمناطق التي تضررت أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والتعاون في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
هذا التفاوض الداخلي أظهر قدرة جوزيف عون على بناء جسور التواصل والتفاهم مع مختلف الأطراف؛ ما عزز فرصه في الحصول على دعم واسع وتأمين النصاب الدستوري اللازم لانتخابه بعد أن ارتفعت الأصوات التي نالها بمقدار 28 صوتاً في الجولة الثانية؛ علماً بأن كتلتي الثنائي الشيعي تضم 30 نائباً. وكانت هاتان الكتلتان قد صوتتا بأوراق بيضاء في الجولة الأولى.
عقبات محتملة
ستواجه انطلاقة العهد الجديد ورئاسة جوزيف عون، تحديات كبرى؛ ما سيضع القدرة على الإصلاح أمام اختبار صعب:
1– استمرار الانقسام الداخلي: يمثل استمرار الانقسام السياسي الداخلي واحداً من أبرز التحديات التي ستواجه الرئيس جوزيف عون في بداية عهده. ويعاني المشهد السياسي اللبناني من انقسامات حادة بين القوى السياسية والطائفية؛ حيث تستمر التنافسات والصراعات بين الأحزاب والتيارات من دون وجود رؤية موحدة لإدارة شؤون البلاد. هذا الانقسام يجعل التعاون بين الأطراف المختلفة صعباً، خاصةً في القضايا الحساسة، مثل الإصلاحات الاقتصادية وإعادة الإعمار.
ومن المحتمل أن يواجه عون صعوبة في حشد الدعم البرلماني اللازم لتمرير القوانين والمبادرات المطلوبة لإخراج لبنان من أزماته، كما أن المعارضة، التي تضم قوى مسيحية، مثل التيار الوطني الحر، التي قد ينضم إليها حزب الله لاحقاً (بعد انتهاء فترة السماح)، ستسعى إلى عرقلة أي مبادرات إصلاحية تعتقد أنها لا تخدم مصالحها السياسية أو الطائفية. هذه البيئة المنقسمة تهدد بتحويل أي خطوات إصلاحية إلى معارك سياسية طويلة الأمد؛ ما يعطل التقدم المطلوب.
2– الصلاحيات المحدودة للرئيس اللبناني: أشار الرئيس جوزيف عون، في خطاب القسم في 9 يناير 2025، إلى عزمه العمل لتعزيز استقلالية القضاء، وإطلاق إصلاحات اقتصادية وسياسية. ومع ذلك، فإن الصلاحيات التي يمنحها الدستور اللبناني لرئيس الجمهورية تجعل تنفيذ هذه الإصلاحات يتطلب تعاوناً وثيقاً مع رئيس الوزراء ومجلس النواب. ويكمن التحدي الأبرز في تشكيل حكومة فعالة قادرة على التفاعل مع رؤية الرئيس وتنفيذ وعوده، كما أن عون في خطاب القسم قد ركز على احترام الدستور وفصل السلطات، وهو ما يُبرز إدراكه لهذا التحدي، وسعيه إلى التعامل معه في إطار الصلاحيات المتاحة. ويندرج ضمن هذا الإطار تحديده بشكل عاجل يوم 13 يناير 2025 موعداً للاستشارات النيابية من أجل تسمية رئيس جديد للحكومة.
3– التعرض لضغوط خارجية: يعد التعامل مع الضغوط الخارجية تحدياً رئيسياً آخر سيواجه جوزيف عون في بداية عهده. ويعاني لبنان في الحقبة الأخيرة من تدخلات قوى إقليمية كإيران؛ ما أدى إلى إضعاف استقلالية قراره السياسي. ومن المتوقع أن يستمر النفوذ الإيراني، متمثلاً في حزب الله، في ممارسة الضغوط الداخلية ذات الأبعاد الخارجية لدفع لبنان إلى اتخاذ مواقف سياسية تخدم الأجندة الإيرانية على حساب المصلحة الوطنية؛ ما يضع الرئيس الجديد أمام تحدٍّ مستمر لتحقيق توازن دقيق بين هذه الضغوط والحفاظ على سيادة البلاد.
وفي جهة مقابلة، تضمَّن خطاب القسم لجوزيف عون إشادة بأهمية تعزيز العلاقات مع الدول العربية كجزء من استراتيجية إعادة بناء الثقة مع المحيط الإقليمي، كما أكد جوزيف عون التزام لبنان بإقامة أفضل العلاقات مع الدول العربية، والعمل على تصدير أفضل ما لديه إليها. وتؤكد هذه الدعوات التي أطلقها وعيه بالدور المحوري للدول العربية في تقديم الدعم الاقتصادي والسياسي للبنان، وهو ما يشكل دلالة على أهمية التكامل الإقليمي في تجاوز الأزمات الراهنة.
4– إعادة إعمار الضاحية والجنوب والبقاع: ستواجه بداية فترة جوزيف عون الرئاسية تحدياً هائلاً يتمثل في إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب مع إسرائيل، مثل الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. وتحتاج هذه المناطق إلى دعم مالي كبير لإعادة بناء البنية التحتية والخدمات الأساسية التي دمرتها الحرب. وفي ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة التي يعاني منها لبنان، سيحتاج عون إلى تأمين دعم خارجي لهذه الجهود. ومع ذلك، فإن الحصول على هذا الدعم قد يكون مشروطاً بإصلاحات سياسية واقتصادية قد تواجه معارضة من القوى الداخلية، خاصةً إذا تضمنت محاولات لتقليص نفوذ حزب الله في الجنوب اللبناني.
5– التعامل مع حزب الله: كما أكد عون، في خطاب القسم، ضرورة تعزيز سيادة الدولة وحصرية السلاح بيدها؛ ما يضعه أمام تحدٍّ مباشر مع حزب الله الذي يمثل قوة سياسية وعسكرية رئيسية في لبنان، كما دعا جوزيف عون إلى سياسة دفاعية متكاملة “تمنح الدولة اللبنانية وحدها دور إزالة الاحتلال الإسرائيلي ورد عدوانه عن كافة الأراضي اللبنانية”. بالإضافة إلى ذلك، سيشكل تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي ينص على وقف إطلاق النار ونزع السلاح من منطقة جنوب نهر الليطاني، تحدياً محورياً في التعامل مع حزب الله.
ولقد تعهد عون في خطاب القسم بالتزام لبنان باتفاق الهدنة مع إسرائيل، مشدداً على دور الجيش اللبناني، بعقيدته القتالية الدفاعية، في الانتشار بالمناطق الحدودية للحفاظ على الاستقرار ومنع أي خروقات للهدنة. هذه الخطوات وإن كانت تهدف إلى تعزيز سلطة الدولة، ستواجهها تعقيدات كبيرة بسبب نفوذ حزب الله في الجنوب؛ ما يجعل تنفيذ القرار 1701 اختباراً فعلياً لقدرة عون على تحقيق التوازن بين التزامات لبنان الدولية والاستقرار الداخلي.
ختاماً، يثير التقاطع الذي أفضى إلى انتخاب جوزيف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية تساؤلات حول مدى تعبيره عن توافق داخلي حقيقي؛ فعلى الرغم من إنهائه فراغاً رئاسياً دام أكثر من عامين، فإن الانتخاب جاء مدفوعاً بضغوط دولية وإقليمية مكثفة أكثر من كونه نتاج إرادة لبنانية خالصة. ويعكس انضمام الثنائي الشيعي إلى هذا التقاطع في مراحله الأخيرة التزاماً ظرفياً لتحقيق مكاسب وضمان دورهما في المعادلة الداخلية. وتبقى المرحلة المقبلة اختباراً لقدرة الأطراف اللبنانية على تحويل هذا التقاطع الظرفي إما إلى توافق وشراكة وطنية فعلية تدفع لبنان إلى تخطي أزمته الحالية، وإما إلى فرصة مهدرة تنضم إلى سلسلة الإحباطات السابقة.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية
Average Rating