عبد الله جمال
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_شهدت أوروبا في السنوات الأخيرة تحولات جذرية في سياساتها الدفاعية والأمنية، مدفوعةً بتصاعد التوترات الإقليمية، ولا سيما الصراع الروسي–الأوكراني؛ ما أجبر العديد من الدول الأوروبية على إعادة النظر في استراتيجياتها الدفاعية، ومن بين ذلك مراجعة القرارات التي أدت إلى تقلص جيوشها بعد انتهاء الحرب الباردة، وشملت هذه المراجعات إعادة فرض نظام الخدمة العسكرية الإلزامية، الذي كان سابقاً جزءاً أساسياً من السياسات العسكرية الأوروبية قبل أن يُلغَى تدريجياً في أواخر القرن العشرين، لكنه أصبح اليوم محوراً للاهتمام الأوروبي، باعتباره وسيلةً لتعزيز القدرات الدفاعية للدول الأوروبية، بهدف تحقيق الاستقرار الإقليمي في ظل الظروف الأمنية المتغيرة في شرق أوروبا.
مؤشرات التجنيد
مع عودة السياسات الدفاعية التوسعية رداً على الحرب في أوكرانيا، أعادت العديد من الدول الأوروبية دراسة إعادة نظام التجنيد العسكري الإجباري أو توسيع نطاق تطبيقه، باعتبار ذلك جزءاً من مجموعة من السياسات التي تهدف إلى تعزيز الدفاعات الأوروبية. ومن أهم مؤشرات التحركات الأوروبية ما يلي:
1– التوسع في الدعوة إلى عودة سياسات التجنيد الإجباري: عقب اندلاع الحرب مباشرةً، عاد الحديث عن القوات المسلحة الأوروبية وآفاقها إلى مركز المناقشة في أوروبا؛ وذلك استعداداً لأي حرب شاملة في أوروبا، مثلما حدث إبان الحربين العالميتين. ومن بين الحلول المطروحة لإعادة تقوية الجيوش الأوروبية، إدخال التجنيد الإجباري مجدداً، الذي لا يزال مقتصراً في الوقت الراهن على تسع دول أوروبية؛ هي: قبرص واليونان والنمسا وليتوانيا وإستونيا وفنلندا والسويد والدنمارك ولاتفيا؛ إذ تعد الأخيرة أحدث دولة أوروبية تُطبِّق هذا النظام في أبريل 2023، بعدما ألغته في عام 2007.
ومن المتوقع أن تلتحق بتلك الدول حليفتُها الكرواتية؛ حيث أعلن وزير الدفاع الكرواتي إيفان أنوسيتش، عن إعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية لمدة شهرين اعتباراً من يناير 2025، بعد تعليقها في عام 2008. وقد سبق أن اقترح حزب المحافظين في المملكة المتحدة فرض خدمة وطنية إلزامية لمدة 12 شهراً، حال فوزه في الانتخابات العامة في يوليو 2024، بيد أن تفوق حزب العمال ووصوله إلى الحكومة في هذه الانتخابات، قد عرقل تنفيذ هذا المقترح.
من جانبه، قدم وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس في يونيو 2024، نموذجاً جديداً لإدخال نظام الخدمة العسكرية الإلزامية للشباب، بهدف المساعدة في ملء صفوف الجيش المستنزفة، مع إمكانية انضمام الشابات طوعاً، واصفاً قرار إنهاء التجنيد الإلزامي في عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل عام 2011، بأنه “خطأ” في السياسة الدفاعية الألمانية. ومع ذلك، رفض المستشار الألماني أولاف شولتز اقتراح بيستوريوس، لكنَّ تراجع عدد المتقدمين للانضمام إلى الجيش الألماني، ساهم في تصاعد الدعوات من أجل إجراء مناقشة وطنية حول هذا الموضوع؛ حيث اقترحت مفوضة الجيش في البرلمان الألماني إيفا هوجل من الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم، مناقشة فرض عام إلزامي من الخدمة في المؤسسات العسكرية أو المدنية.
2– إدخال أنظمة إشراك النساء في الخدمة العسكرية: اقترح المفتش العام للقوات المسلحة الألمانية إشراك النساء في الخدمة العسكرية الإلزامية عند إعادة تقديمها؛ بهدف تحقيق المساواة بين الجنسين، واصفاً الفكرة بأنها “خدمة عسكرية انتقائية”. من جانب آخر، أعلنت الحكومة الدنماركية عن خطتها لتجنيد النساء في الخدمة العسكرية، لتصبح واحدة من الدول القليلة التي تفرض الخدمة العسكرية على النساء؛ حيث أوضح وزير الدفاع ترويلز لوند بولسن، خلال مؤتمر صحفي في مارس 2024، أنه “يجب أن يسهم التجنيد الأكثر صرامةً، بما في ذلك تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين، في مواجهة تحديات الدفاع والتعبئة الوطنية وتزويد قواتنا المسلحة بالكوادر اللازمة”. ويُذكَر أن النساء في الدنمارك يُشكِّلن نحو ربع المجندين في عام 2023، لتصبح بذلك الدنمارك الدولة الثالثة في أوروبا التي تُطبِّق التجنيد الإجباري للإناث، بعد النرويج والسويد اللتين بدأتا تطبيقه في عامي 2015 و2017 على التوالي.
3– تنامي خطط زيادة حجم القوات الأوروبية: تأمل العديد من الحكومات الأوروبية زيادة عدد قواتها المسلحة على مدار السنوات المقبلة؛ فعلى سبيل المثال، تسعى بولندا إلى زيادة أعداد القوات إلى أكثر من 300 ألف بحلول عام 2035؛ إذ يرى المسؤولون العسكريون أن السياسات الروسية في شرق أوروبا، تشكل دافعاً قوياً للتجنيد الإلزامي. وبدورها، تعهدت الحكومة الألمانية بزيادة تعداد الجيش إلى 203 آلاف بحلول عام 2030، مقارنة بنحو 181.5 ألف في عام 2023، وكذلك فرنسا التي تسعى إلى زيادة أعداد جنود قواتها المسلحة إلى 275 ألف جندي، مقارنةً بنحو 240 ألف جندي في عام 2023.
4– تقديم إغراءات مالية للعاملين في القوات المسلحة: تلعب الحوافز المالية دوراً في إقناع المجندين بالبقاء في القوات المسلحة؛ لذلك حرصت العديد من الدول على إعداد برامج مالية تحفز الشباب على الانضمام إلى صفوف قواتها المسلحة؛ فعلى سبيل المثال، أعلنت الحكومة البولندية عن زيادات في الأجور بنحو 20%، في محاولة للاحتفاظ بالجنود؛ حيث ارتفع الحد الأدنى للراتب الشهري للجندي من 4960 زلوتياً (1150 يورو) إلى 6000 زلوتي. وفي فرنسا، تعمل الحكومة على إعداد خطة لتحسين الأجور وتعزيز معاشات التقاعد العسكري؛ حيث تتضمَّن الخطة الفرنسية نحو 40 بنداً، وهي جزء من الميزانية العسكرية المتعددة السنوات (2024 – 2030)؛ إذ تم تخصيص 500 مليون يورو من أجل تنفيذها؛ وذلك بهدف دعم الاحتفاظ بالأفراد العسكريين.
5– التوسع في اعتماد أنظمة التجنيد الانتقائية: تتجه دول مثل ألمانيا وهولندا نحو اعتماد أنظمة تجنيد انتقائية مشابهة للنموذجَين السويدي والنرويجي؛ إذ يقوم النظام في السويد على فحص أكثر من 100 ألف شاب سنوياً، ويتم استدعاء نحو ربعهم لإجراء فحوصات بدنية وعقلية قبل اختيار الثلث الأفضل للخدمة بين تسعة أشهر وخمسة عشر شهراً في الجيش. وبناءً على ذلك، تخطط وزارة الدفاع الألمانية لإرسال استبيانات إلى نحو 400 ألف شاب سنوياً لاستقصاء مدى استعدادهم لأداء الخدمة العسكرية، بينما تقوم هذه الفكرة في هولندا على أساس تسجيل 2000 شاب سنوياً لقضاء عام من الخدمة؛ وذلك بناءً على استبيان إلزامي يُرسَل إلى الشباب فوق السابعة عشرة.
في المقابل، يرى الخبراء أن التجنيد الإجباري – حتى النماذج الانتقائية الناجحة – لن يكون الحل الأمثل بتاتاً، بل يتعين على المسؤولين العسكريين تبني وجهة نظر أوسع نطاقاً بشأن كيفية جعل الحياة المهنية العسكرية أكثر جاذبيةً للشباب، مثلما يُطبَّق بشكل ناجح في كلٍّ من النرويج والسويد.
6– دراسة إمكانية إدماج المهاجرين في الجيش: تعكس هذه النقطة حالة القلق التي تعاني منها الجيوش الأوروبية بشأن انخفاض أعداد المجندين؛ ما يدفعها إلى محاولة جذب المهاجرين للانضمام إلى الخدمة العسكرية. بعض الدول، مثل إسبانيا وفرنسا والبرتغال، تدرس بالفعل سبل تمكين المهاجرين من الانضمام إلى الجيش والحصول على الجنسية بعد بضع سنوات من الخدمة. في ألمانيا، تدرس الحكومة إمكانية تجنيد مواطنين أجانب في الجيش لمعالجة نقص المجندين، خاصةً في التخصصات التقنية والطبية، بيد أن هذا المقترح لا يزال يُواجِه اعتراضات سياسية واجتماعية؛ حيث يعتبره البعض تهديداً للهوية الوطنية ووحدة الجيش.
أما في فرنسا، فقد أعلنت الحكومة عن خطة لجذب المهاجرين للانضمام إلى الجيش؛ حيث سيتم منحهم الجنسية الفرنسية بعد ثلاث سنوات من الخدمة؛ إذ تأمل باريس أن تسهم هذه الخطوة في تعزيز عدد القوات المسلحة، وتوفير تنوع أكبر داخل الجيش، ولكن يواجه هذا التوجه أيضاً معارضة من قِبَل بعض الأحزاب السياسية التي ترى فيه خطراً على الانسجام الوطني. وفي إسبانيا، تم تعديل القوانين للسماح للمهاجرين من دول أمريكا اللاتينية بالانضمام إلى الجيش والحصول على الجنسية بعد عامين من الخدمة.
7– تأهيل الأطر القانونية والمؤسسية لإعادة نظام التجنيد الإجباري: لم تكن هذه التحركات نحو إعادة التجنيد الإجباري خاليةً من التحديات القانونية والتشريعية؛ حيث قامت العديد من الدول بتعديل القوانين الوطنية لدعم عودة التجنيد الإجباري وضمان توافقه مع المعايير الحديثة، مثل احترام حقوق الإنسان والمعايير الدولية؛ فمثلاً قامت السويد بتمرير قوانين جديدة لضمان تطبيق التجنيد الإجباري، بما يتماشى مع المتطلبات الحديثة، كما عدَّلت ليتوانيا قوانينها لضمان توافق التجنيد الإجباري مع التزامات الدولة في إطار الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وبما أن فكرة إعادة فرض الخدمة العسكرية الوطنية تكتسب أرضية جديدة في أوروبا، فمن المتوقع أن نشهد المزيد من التعديلات في الدساتير والقوانين الأوروبية في هذا الصدد، بجانب زيادة الميزانيات الدفاعية لتغطية التكاليف الإضافية المتعلقة بتدريب وتسليح وتسكين عشرات الآلاف من المجندين الجدد.
محفزات التحرك
إن تزايد التهديدات للأمن القومي في أوروبا، قد دفع العديد من الدول إلى التفكير في إعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية، كوسيلة لتعزيز الدفاع الوطني وتعزيز الروح الوطنية بين الشباب؛ لذلك تتعدد الأسباب التي تدفع إلى هذا التوجه، ومنها:
1– الاستجابة للمخاوف الأمنية: تُشكِّل التحديات الأمنية الإقليمية، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا، أحد الدوافع الرئيسية لإشعال النقاش الأوروبي حول إعادة التجنيد الإجباري في أوروبا؛ حيث دفعت هذه التحديات الدول الأوروبية إلى زيادة إنفاقها العسكري وتعزيز دفاعها، في إطار سعيها إلى عكس اتجاه انكماش جيوشها الذي حدث على مدى العقود الثلاثة الماضية، خاصةً أن روسيا باتت تهديداً محتملاً للأمن الأوروبي؛ هذا بالإضافة إلى تهديدات أخرى مثل الإرهاب والهجمات السيبرانية التي شكَّلت ضغطاً إضافياً على الحكومات لإعادة النظر في استراتيجياتها الدفاعية.
هذا وقد أدركت دول حلف شمال الأطلسي ذات الأغلبية الأوروبية، الحاجة الملحة لزيادة أعداد قواتها المسلحة العاملة والاحتياطية؛ فعلى الرغم من أن قوى الحلف الأوروبية تمتلك نظرياً 1.9 مليون جندي تقريباً، فإن الواقع يشير إلى وجود صعوبة كبيرة في تعبئة أكثر من 300 ألف جندي لأي صراع محتمل؛ حيث يتطلب ذلك شهوراً من التحضير؛ الأمر الذي يعكس حقيقة أن التكنولوجيا العسكرية المتقدمة لا يمكنها أن تحل محل الجنود في الحروب البرية الكبرى؛ حيث يبقى الجنود ضروريين لتشغيل المعدات الثقيلة، مثل الدبابات والمدفعية، وكذلك توجيه الطائرات والطائرات بدون طيار، واحتلال الأراضي والحفاظ عليها.
2– معالجة النقص في أعداد الجيوش الأوروبية: تواجه دول أوروبا الشرقية، خصوصاً المجاورة لأوكرانيا، مثل بولندا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا، تحديات كبيرة في تجنيد الشباب للجيش، ولا سيما الاحتفاظ بالجنود ذوي الخبرة؛ ما أدى إلى نقص كبير في أعداد الوحدات العسكرية، وتراجع جاهزيتها القتالية، حتى جاءت الحرب الروسية–الأوكرانية على حدود هذه الدول، لتكون بمنزلة تذكير صارخ بالتهديد الذي تشكله موسكو؛ ما زاد أهمية تعزيز القوات المسلحة، حتى إن اضطرت إلى تنفيذ ذلك بالوسائل الإجبارية.
ولم تكن أوروبا الشرقية الوحيدة التي تعاني وحدها من هذه المشكلة؛ إذ تواجه دول أوروبا الغربية الأعضاء في الناتو تحديات مماثلة؛ إذ أشارت عدة تقارير حديثة إلى أن الناتو بحاجة إلى 35–50 لواءً إضافياً لتنفيذ خططه الدفاعية بالكامل؛ فعلى سبيل المثال، يقضي أفراد الجيش في فرنسا مدة أقل بعام واحد في المتوسط مقارنةً بما كانوا يفعلونه في السابق، في حين واجهت المملكة المتحدة عجزاً سنوياً في التوظيف بلغ 1100 جندي؛ أي ما يعادل نحو كتيبتين من المشاة؛ وذلك على الرغم من تعاقد الحكومة البريطانية مع شركة خاصة تدعى “كابيتا” بهدف مساعدتها في تجنيد المزيد من المجندين العسكريين.
وعلى الرغم من الاستثمارات الجديدة لتجنيد القوات، أعلنت ألمانيا مؤخراً أن أعداد قواتها قد انخفضت خلال العام الماضي، بنحو 1500 جندي، ليصل إجمالي عدد جنودها إلى نحو 181.5 ألف رجل وامرأة بحلول نهاية عام 2023؛ وذلك بالرغم من خططها لزيادة قواتها المسلحة إلى نحو 203 آلاف جندي بحلول عام 2030. وتبدو الأمور أسوأ في أيرلندا؛ حيث غادر من قواتها الدفاعية في عام 2022 أكثر من ضعف عدد المنضمين إليها؛ إذ كشفت بيانات نشرت رداً على سؤال برلماني أيرلندي، أن 435 مجنداً جديداً فقط انضموا إلى الجيش في البلاد عام 2022، مقابل مغادرة نحو 891 جندياً، وهو العدد الذي يُمثِّل نحو ضِعْف نسبة مَن غادروا في عام 2021، الذي شهد مغادرة 25% فقط نسبةً إلى المنضمين إلى الجيش الأيرلندي.
3– تفاقم التحديات الديموغرافية: تعاني القوات المسلحة الأوروبية من صعوبة كبيرة في العثور على مجندين محتملين، خاصةً في ضوء انخفاض عدد سكان القارة، بجانب زيادة فئة الشيخوخة في المجتمعات الأوروبية؛ ما أدى إلى حدوث انخفاض حاد في عدد السكان في سن العمل على مدى السنوات الماضية. وفي ظل هذه الظروف، قد تضطر الجيوش إلى قبول مجندين بمعايير أقل صرامةً من تلك التي اعتادت فرضها لعقود؛ الأمر الذي قد يُثير القلق بشأن قدرة الجيوش الأوروبية على الحفاظ على جاهزيتها القتالية في المستقبل؛ فعلى سبيل المثال، شهدت ألمانيا انخفاضاً في أعداد المتقدمين للجيش، على الرغم من الجهود المبذولة لزيادة التجنيد، بما في ذلك استخدام مراكز التوظيف العسكرية والحملات الإعلانية.
4– إعادة بناء الاحتياطيات العسكرية: يمثل التجنيد الإجباري وسيلة هامة لتعزيز الاحتياطيات العسكرية في العديد من الدول الأوروبية؛ فهو ليس وسيلة لتعزيز القوات العسكرية الحالية فقط، بل أيضاً لبناء قدرة المجتمع على الصمود في وجه الأزمات؛ حيث إنه من خلال التجنيد الإجباري، يمكن للحكومات ضمان وجود قوة جاهزة للتدخل في حالة حدوث طوارئ.
ليس هذا فحسب؛ فقد باتت الدول الأوروبية تشعر بخطورة عملية تقليص أعداد جيوشها، التي سبق أن انتهجتها عقب انتهاء الحرب الباردة؛ فبالنظر إلى الحالة الألمانية، نجد أن ألمانيا الغربية كانت وحدها تمتلك 215 كتيبة مقاتلة عام 1990، بيد أنه بحلول عام 2023، وعلى الرغم من إعادة توحيد ألمانيا، انخفض هذا العدد إلى 31 كتيبة فقط، وهو انخفاض مذهل، تصل نسبته إلى نحو 84%، كما شهدت إيطاليا والمملكة المتحدة انخفاضات مماثلة؛ إذ انخفض عدد الكتائب الإيطالية بنسبة 67%، في حين انخفض عدد الكتائب البريطانية إلى النصف تقريباً.
5– انتشار حالات رفض الانضمام الطوعي إلى الجيش: اصطدمت جهود الدول الأوروبية لتعزيز جيوشها في مواجهة التهديد المتزايد من روسيا، بعدم رغبة الشباب الأوروبيين في الانضمام إلى القوات المسلحة؛ حيث تواجه عدد من القوات العسكرية في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي صعوبةً في جذب المجندين، على الرغم من الحملات الإعلامية المتعددة الأطراف. وفي الوقت نفسه، هناك نقاشات واسعة حول إعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية؛ حيث يعكس هذا النقاش التردد بين حقوق الأفراد واحتياجات الأمن القومي؛ فبينما يرى البعض أن التجنيد الإجباري يتعارض مع الحريات الفردية؛ حيث قد يؤثر على حجم القوى العاملة، يعتبره آخرون ضرورة لضمان أمن الدولة.
هذا وتشير عدة دراسات إلى أن المدنيين الشباب يعارضون فكرة الحروب بشكل كبير، ومن ثم يتبنون أفكاراً مضادةً لزيادة الإنفاق على الجيش والعمليات العسكرية في الخارج، كما أنهم أكثر فرديةً وأقل وطنيةً من الذين يخدمون في القوات العسكرية. كما أصبح العمل في الجيش بمنزلة وظيفة مثل أي وظيفة أخرى، ومن ثم تتنافس القوات المسلحة مع القطاع الخاص للحصول على المجندين، لكنها فعلياً في وضع غير مُؤاتٍ في عملية جذب الشباب.
خلاصة القول: في ضوء التحديات الأمنية الحالية في أوروبا، تُشكِّل معالجة مشكلة نقص القوات المسلحة تحدياً أكثر تعقيداً؛ حيث لا يمكن لزيادة حجم الإنفاق الدفاعي لدى الدول الأوروبية أن تعالج المشكلة إلا في نطاق محدود؛ حيث إن هذه البلدان لطالما عانت من انخفاض معدلات التجنيد؛ الأمر الذي جعل عودة التجنيد الإجباري خياراً استراتيجياً للعديد من الدول، خاصةً أنه يعد أداة فعالة – من حيث التكلفة – لحماية حدودها الوطنية؛ وذلك على الرغم من التحديات القانونية والاجتماعية التي قد تواجهها هذه السياسة. ومن ثم فإن من المتوقع أن تستمر الدول الأوروبية في مناقشة وتقييم أهمية التجنيد الإجباري باعتباره جزءاً من استراتيجياتها الدفاعية، مع التركيز على تحقيق التوازن بين حقوق الأفراد واحتياجات الأمن القومي.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية
Average Rating