د. محمد ناجي عباسي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_اعتبرت وزارة الخارجية الإيرانية، في 12 فبراير 2025، أن التفاوض مع الولايات المتحدة لن يحقق المصالح الوطنية للبلاد، مؤكدةً أنها تلتزم بالتفاوض المبني على العزة والحكمة والمصلحة. وقد استغلت إيران الاحتفالات الخاصة بحلول الذكرى السادسة والأربعين لنجاح الثورة الإيرانية في الإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي، في 10 و11 فبراير 2025، ليس فقط لتكوين حشد داخلي قوي مؤيد للنظام، وإنما أيضاً لإعادة تجديد رفضها للمبادرة التي سبق أن طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإجراء مفاوضات جديدة.
فبعد أن وصف المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية بأنها “غير كريمة” و”غير حكيمة”، اتهم الرئيس مسعود بزشكيان نظيره الأمريكي، في 10 فبراير 2025، بالسعي إلى “إخضاع إيران”، مضيفاً أن “إيران لن ترضخ أبداً للأجانب”. وقد قوبلت تصريحات الرئيس بزشكيان بقبول ودعم واضح من جانب تيار المحافظين الأصوليين، على نحو بدا جلياً في الافتتاحية التي كتبها رئيس تحرير صحيفة “كيهان” حسين شريعتمداري، في 11 فبراير 2025، والتي قال فيها إن “خطاب بزشكيان كان ذكياً؛ حيث سخر من الرئيس الأمريكي المجنون والغبي”.
رفض طهران
يمكن تفسير حرص إيران على رفض المبادرة التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإجراء مفاوضات جديدة في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- مخاوف إيران من تضمُّن التفاوض كل القضايا الخلافية: ترى إيران أن المفاوضات التي يقترحها الرئيس الأمريكي قد لا تنحصر بالضرورة في البرنامج النووي، رغم أهميته وخطورته بالنسبة إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. وفي رؤيتها، فإن ترامب سوف يسعى إلى توسيع نطاق التفاوض ليشمل الملفات الخلافية كافة، بداية من البرنامج النووي، مروراً ببرنامج الصواريخ الباليستية، وانتهاء بالنفوذ الإيراني لدى الميليشيات الشيعية في كل من العراق واليمن، وهي الميليشيات التي ما زالت توجه تهديدات مباشرة لأمن ومصالح واشنطن وتل أبيب، بعد أن تراجع مستوى تهديدات الميليشيات الأخرى، على غرار حركة حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني؛ حيث تم القضاء على القسم الأكبر من قدراتهما العسكرية واغتيال قيادات الصفوف الأولى، خلال الحرب التي شنتها إسرائيل داخل كل من قطاع غزة ولبنان، بداية من 7 أكتوبر 2023.
وقد انعكست هذه الرؤية الإيرانية السلبية في التصريحات التي أدلى بها رئيس مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) محمد باقر قاليباف، في 9 فبراير 2025، والتي أكد فيها أن المبادرة التي طرحها ترامب مرفوضة، ودعا حكومة الرئيس مسعود بزشكيان إلى العمل بتوصيات المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي بعدم الانخراط في مفاوضات مع واشنطن، مشيراً إلى أن الرئيس ترامب لا يريد وقف برنامج إيران النووي، بل يسعى إلى نزع أسلحة إيران، حتى التقليدية منها.
2- اهتمام ترامب ببرنامج الصواريخ الباليستية الإيراني: كان برنامج الصواريخ الباليستية محور اهتمام خاص من جانب ترامب خلال ولايته الأولى، وقد سعى، في أغسطس 2020، إلى استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بتمديد الحظر المفروض على إيران في مجال تطوير الصواريخ الباليستية، إلا أنه فشل في تحقيق ذلك، في ظل الرفض الواسع للدول الأعضاء في مجلس الأمن لمشروع القرار الأمريكي الذي طُرح في هذا الصدد، ولم يحظَ بتأييد سوى دولتين فقط هما الولايات المتحدة الأمريكية والدومينيكان.
إلا أن هذا الفشل في الولاية الأولى قد لا يتكرر في الولاية الثانية، خاصة أن ترامب ما زال في بداية ولايته، فضلاً عن أن الدول التي لم تؤيد السياسة الأمريكية إزاء إيران في هذه الفترة، على غرار بريطانيا وفرنسا وألمانيا، قد لا تتبنى السياسة نفسها في الفترة الحالية، في ظل اتساع نطاق خلافاتها مع إيران بشكل كبير، حول الملفات السابق ذكرها، بجانب قضايا أخرى، مثل الدعم العسكري الإيراني لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا، وملف المزدوجي الجنسية الذي بات ملفاً ضاغطاً على تلك الدول في ظل الاهتمام الداخلي به.
3- رفض اتجاهات إيرانية التفاوض مع “قاتل سليماني”: ما زالت هناك اتجاهات في إيران تصر على أنه لا يمكن التفاوض مع الشخص الذي أصدر القرار الذي أدى إلى اغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، في يناير 2020، وهي الضربة القوية التي لم تستطع إيران استيعابها حتى الآن.
وفي رؤية هذه الاتجاهات، فإن مجرد القبول بالتفاوض مع ترامب قد يُضعف صورة النظام الإيراني في الداخل، خاصة في المرحلة الحالية، التي يواجه فيها ضغوطاً داخلية قوية بسبب تراجع النفوذ الخارجي، نتيجة المعطيات الاستراتيجية التي فرضتها الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة ولبنان؛ إذ ما زالت بعض القوى المناوئة للنظام تعمل على استغلال هذه التطورات من أجل تأجيج الوضع الداخلي وتعزيز فرص اندلاع احتجاجات واسعة، على غرار تلك التي تصاعدت حدتها في منتصف سبتمبر 2022 ولم تتراجع إلا في بداية يناير 2023، على خلفية وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني على أيدي عناصر شرطة الأخلاق الذين اتهموها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب.
ومع ذلك، فإن هذه الرؤية تحديداً قد لا تفرض ضغوطاً قوية على قيادة النظام فيما يتعلق برؤيتها لمدى إمكانية إجراء مفاوضات مع ترامب في مرحلة لاحقة، خاصة إذا ما اعتبرت أن هذه المفاوضات تمثل الخيار الأنسب لتفادي الانخراط في حرب مباشرة أو التعرض لضربة عسكرية واسعة النطاق.
4- عدم ثقة طهران بالتزام واشنطن بأي اتفاق محتمل: لم تجد إيران حلاً بعد للمعضلة التي ما زالت تواجه احتمال الوصول إلى تسوية لأزمة البرنامج النووي؛ فحتى خلال ولاية الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن كانت هذه المعضلة هي العقبة الأساسية التي حالت دون الوصول إلى مثل هذه التسوية، وتتعلق بمدى الثقة بالتزام الولايات المتحدة الأمريكية بالاستمرار في الصفقة. وقد حاولت إيران في مفاوضاتها مع إدارة بايدن الحصول على التزام بعدم الانسحاب، إلا أن طلبها قوبل برفض حاسم، باعتبار أن الرئيس الأمريكي لا يستطيع إلزام أو تقييد سياسة الرئيس التالي بمثل هذا التعهد. ومن دون شك، فإن هذه المعضلة تتفاقم في حالة ترامب، الذي أصدر قرارات عديدة بالانسحاب من اتفاقيات دولية انضمت إليها الولايات المتحدة الأمريكية، في ولايتيه الأولى والثانية، ومنها الاتفاق النووي نفسه الذي انسحب منه في 8 مايو 2018.
5- غموض حول نوايا الحكومة الإسرائيلية تجاه إيران: رغم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أكد أكثر من مرة أن الوصول إلى تسوية لأزمة البرنامج النووي مع إيران سوف يمنع أي هجوم عسكري من جانب إسرائيل، فإن إيران لا ترى أن ذلك يمثل ضمانة يمكن أن تمنع الحكومة اليمينية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو من العمل على تنفيذ عمليات أمنية واستخباراتية داخل إيران وخارجها، تهدف إلى توجيه ضربات قوية للبرنامج النووي، واغتيال مزيد من القادة الرئيسيين في الحرس الثوري.
وقد نجحت تل أبيب بالفعل، قبل وخلال الحرب الأخيرة، في تصفية عدد من العلماء النوويين الإيرانيين، كان آخرهم محسن فخري زاده رئيس مركز الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع الذي تم اغتياله في نوفمبر 2020، بجانب مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية من الداخل، على غرار مفاعل نطنز الذي تعرض للهجوم مرتين في يوليو 2021 وأبريل 2022، كما اغتالت إسرائيل خلال الحرب الأخيرة عدداً من كبار قادة الحرس الثوري، مثل راضي موسوي الذي كان مسؤولاً عن الدعم العسكري للوكلاء، الذي قُتل في ديسمبر 2023، ومحمد رضا زاهدي قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان الذي تم اغتياله في أول أبريل 2024.
ختاماً، قد لا يمثل هذا الرفض نهاية المطاف؛ إذ يمكن القول إن إيران تسعى إلى إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو خيار اضطراري قد تلجأ إليه لاحقاً، إلا أنها تحاول في الوقت نفسه تحسين شروط التفاوض، على نحو دفعها إلى محاولة تأخير اللجوء إلى هذا الخيار لأقصى قدر ممكن، باعتبار أن التفاوض مع ترامب في اللحظة الحالية قد يكون “وصفة ممتازة” لتقديم تنازلات نوعية في الملفات الخلافية المختلفة. وحتى تأتي هذه اللحظة، فإن إيران سوف تواصل رفض دعوات التفاوض الأمريكية التي تتوازى مع تهديدات بإطلاق يد إسرائيل لـ”تصفية الحسابات” مع إيران.
انترريجورنال للتحليلات الاستراتيجية
Average Rating