في عالم ما قبل -كورونا-: عودة إلى أطروحة التطور غير المتكافئ
محمد عبد الشفيع عيسى
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_كم هو متشابك هذا الاقتصاد العالميّ في عصر (ما قبل كورونا)، عصر توسع الرأسمالية العالمية بقيادتها الدولية الغربية ، بمركزها الأمريكي، على الصعيد الكوكبي، فيما يطلق عليه “العولمة. إنه عالم وعصر حركة التدويل المتعاظمة على نحو غير مسبوق. عالم وعصر المال الدوار الهائم بغير انقطاع على مدار الساعة، كما يقولون، سعيا إلى تعظيم الأرباح وفق القانون المعهود للنظام الرأسمالي فيما يقال له بالإنجليزية Profit Maximization . ومع الربح نزاعٌ ثم صراع، ومن بعده حرب وحروب. ذلك ديدن الرأسمالية منذ نشأتها الأولى اعتبارا من القرن السادس عشر، ومن ثم تحولها إلى نظام دولي أوربي، فنظام عالمي بانزياحها العنيف، عنفا اعتباطيا ثم منظما، على الصعيد العالمي وراء البحار باتجاه قارات آسيا وإفريقيا و أمريكا وكذلك الأوقيانوسيا (استراليا ونيوزيلندا). من الهند والصين إلى مصر والمنطقة العربية إجمالا، مضت الرأسمالية العالمية تشيد منظومتها الاقتصادية ذات القوة كليّة القدرة، عبر مئات السنين، من “التجارة البعيدة” في عصر الرأسمالية الزراعية و التجارية الناشئة، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلى الرأسمالية الصناعية المبكرة فالمتقدمة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ممتزجة في طورها المتقدم بالرأسمالية المالية منذ آخر القرن التاسع عشر حتى أعقاب الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن العشرين. تلك الرأسمالية المالية، رأسمالية المصارف الكبرى المشتغلة على نطاق كوني، بالإقراض الربوي، هي التي أطلق عليها “لينين” مسمّى “الامبريالية”؛ وهي التي كانت سمة الاستعمار الكلاسيكي، و من أبرز محطاته التاريخية في القرن التاسع عشر استعمار مصر بالرأسمال والديون و تأسيس الشركات.
و انظر إلى قصة إنشاءالسويس ثم احتلال مصر تدريجيا في عصر الخديوي إسماعيل والخديوي توفيق، تحت وطأة أزمة الديون، وصولا إلى فرض الحماية البريطانية عليها، وسلخها من رابطتها الرسمية مع الدولة العثمانية، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، إلى بقية التاريخ المعروف. ولم ينقذ مصر من مصيرها كمستعمرة ثم شبه مستعمرة بريطانية سوى قيام ثورة 23 يوليو 1952، كما هو معروف أيضا.
مع ما يمكن تسميته بالرأسمالية التكنولوجية، خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، انطلق التوسع الرأسمالي، على النطاق الكوكبي، ليتكيف مع “عالم ما بعد الحرب”، حيث انبثق مكوّنان آخران: المنظومة الاشتراكية السوفيتية، و مجموعة البلدان المستقلة حديثا في القارات الثلاثة لآسيا وإفريقيا و أمريكا اللاتينية، ذات الزعامات التاريخية الناهضة، على غرار جواهر لال نهرو و جمال عبد الناصر و أحمد سوكارنو و كوامي نكروما. ومنذ أول السبعينات أخذت تعتمل متغيرات في غير صالح معسكر التحرر الوطني ذاك والمنظومة السوفيتية، في نفس الوقت الذي أخذت فيه المنظومة الرأسمالية العالمية تستغل قوة التقدم التكنولوجي، وتوظف قوة الدولة الاجتماعية وفق المذهب الكينزي، لتحقيق القوة بمعناه الشامل وتذهب بها، في نفس الوقت، باتجاه التدخل العسكري خارج الحدود و الحرب. ثم أن هذه المنظومة الرأسمالية الغربية بقيادتها الأمريكية أخذت تتحول منذ منتصف السبعينات بعيدا عن “الكينزية” باتجاه “الليبرالية الجديدة”-النسخة الرديئة من الرأسمالية- وتنشرها في عموم البلدان النامية، تحت مسمى “الإصلاحات” الموصى بها من صندوق النقد الدولي وقرينه البنك الدولي. في نفس الوقت، أخذت مسيرة التداعي السوفيتي تفعل فعلها، ومعها تراجع الصين ناحية الفوضى بُعَيْد وفاة ماو تسي تونج، وقبل وفاته. ويصبح المسرح مهيأ للانهيار التدريجي للسوفييت وخاصة منذ اواخر الستينات، و كذا لانزياح الصينيين –المتنازعين مع السوفييت منذ 1957 برغم وحدة المذهب الإيديولوجي- باتجاه الوقوع في (حِجْر) الأمريكيين بقيادة (نيكسون-كيسنجر) في 1972-1973. حينذاك، تفاعلت قوة التكنولوجيا في الغرب الرأسمالي، مع قوة آلة العنف العسكري والحرب، لتصنع واقع الزعامة على الصعيد العالمي، في خضم التآكل السوفيتي –الصيني، وتصاعد النفوذ الإسرائيلي في أحد أهم مسارح الصراع القطبي على الصعيد العالمي، المسرح العربي والشرق الأوسطي، بعد حرب أكتوبر 1973، ليتكون من كل ذلك نسيج للقوة جديد. وبالسقوط (الرسمي) للاتحاد السوفيتي عام 1990، والتحول الجذري، ولكن التدريجي، للصين باتجاه التحالف الفعلي مع الغرب، تهيأ الظرف “الجيوبوليتيكي” لتقدم الولايات المتحدة الأمريكية و لتحتلّ موقع كرسيّها على العرش، بوصفها القوة العظمى الوحيدة Lonely super Power .
وعن طريق صيرورة النظام الرأسمالي النظام الوحيد على سدّة القيادة للاقتصاد العالمي، تجارةً ومالاً واستثماراتٍ وغير ذلك، وصيرورة الولايات المتحدة، قوة عظمى وحيدة، في ظل اختفاء السوفييت، و في ظل خاص لاستمالة الصين حت تحولت من عدو سابق جدا ومن خصم بعد ذلك إلى شريك استراتيجي تُضخّ نحوه “الاستثمارات الأجنبية المباشرة” في شطرها الأعظم على الصعيد العالمي، وتُصوّب ناحيتها أعين الشركات العملاقة عابرة الجنسيات، تنقل إليها من عقر ديار أمريكا وأوربا مرافقها الإنتاجية والتكنولوجية، ثم لتصير قوة تصديرية عظمى باتجاه الغرب –القديم الجديد، وتحلّ، بمعنى معين، محلّ شريكه وحليفه العتيد: اليابان.
هكذا، أصبح المسرح الاقتصادي-السياسي العالمي جاهزا تماما للتوسع غير المسبوق في التجارة متعددة الاتجاهات، والاستثمارات المعقدة تكنولوجيًّا، عبر مسار لم يكن سابقا يخطر على بال : مسار الصين-أمريكا، فيما قيل له من جانب البعض في لحظة ما: Chin America.
امتدت منذئذ سلاسل للعرض السلعي والخدمي بين أمريكا و آسيا وأوربا، أو “سلاسل الإمداد” في تعبير آخر؛ و لكن آسيا هي في المركز والمنتصف، آسيا الشرقية بالتحديد، و قلب آسيا الشرقية الصين، ومن حول الصين ترتفع رؤوس أبرزها اليابان، وحواليْها تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافوره وغيرها عديد. وهذه آسيا تحتكر لنفسها الشطر الأعظم من حركة المبادلات التجارية والمالية وتدفقات “الرساميل” والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة. و مع توسع السلاسل تنتقل التكنولوجيا، ويرتفع معدل النمو، في تلك المناطق والبلدان من آسيا الشرقية دون غيرها حصرا إلى حدّ بعيد. فكأن السلاسل تحرر البعض من القيود، بينما تسجن البعض الآخر وراء أسوار تحجب الاستثمار ومنافع التجارة وتدفقات التكنولوجيا، ومع كل هذا: ضعف النمو.
إنه اقتصاد جديد إذن، ولكنه لم يوجد من العدم، وإنما سبقه تاريخ طويل رعته الرأسمالية العالمية كما أشرنا على امتداد قرون وعقود، لتعمم اقتصاد المبادلة، وتطور من خلالها “مراكز” Centers بينما يتكرس التخلف النسبي للأطراف Peripheries، بعيدة كانت او قريبة. هذه إذن نظرية “المركز والمحيط” التي أقامت بنيانها كوكبة من مدرسة فكرية نُعِتت بمدرسة “التبعية” و معها “المركز والأطراف” و “التبادل غير المتكافيء”، من قبيل أعلام في مقدّمهم راؤوول بريبيش و و إيمانويل والرشتاين و سمير أمين، ولفيف قليل. ولم لا؟ و قد حدّثت الرأسمالية عتادها المادي والمعنوي بالتكنولوجيا والابتكارات و “البحث والتطوير”؛ جددت نفسها كما قال فؤاد مرسي. فليس بمستغرب أن يستعاد تجدد الأفكار من جانب اليسار العالمي ليعيد عرض أطروحة “التشابك” الاقتصادي الدولي من مدخل “التطور غير المتكافيء” ذاته، الذي طالما تسيّد ساحة الفكر التنموي الدولي كأطروحة قابلة لاختبار الصدق الأكيد.
في هذا العالَم الاقتصادي إذن، عالم الربح، و من منطق الرأسمال، عبْر منطلق الهيمنة الكونية، واللاتعادل، ترعرع عالم “الليبراليين الجدد” الذين لا يبالون في سبيل تعظيم الأرباح بالبيئة أو الإصحاح البئي، و بالمحيط الحيوي لعيش الإنسان، ولو تناوشت هذا الإنسان أخطار التغير المناخي، ونهشته مخاطر الأوبئة والمجاعات.
في هذا المحيط المسموم، نبتت وكبُرت ثم انتقلت فانتشرت، فيروسات “الإنفلونزا الآسيوية” و “إنفلونزا الطيور والخنازير” و عائلة الفيروسات التاجية من “سارس” إلى “كورونا”، فلمذا يكون العجب..؟ ولكن لا عجب هنالك؛ فمن فيروس الرأسمالية الرديئة، تولد جميع الفيروسات.
الحوار المتمدن