حياة محي الدين ابن عربي الأدب والتصوف
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_لقد عانيت مشقة عظيمة في إعداد هذا الفصل؛ لأن شخصية ابن عربي معقدة أشد التعقيد، ومن العسير بيان الخصائص الأساسية لهذا العقل المحيط في فصل من كتاب، ولكن يعزِّينا أن منهج البحث لا يفرض الكلام على ابن عربي من جميع نواحيه في إفاضة واستقصاء، وإنما يوجب عرض الجوانب البارزة التي تركت أثرًا ظاهرًا في الأدب والأخلاق.
كيف أفادته الرحلات
وابن عربي هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي، من ولد عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم، يكنى أبا بكر، ويلقب بمحيي الدين، ويعرف بالحاتمي وبابن عربي بدون ألف ولام كما اصطلح عليه أهل المشرق، فرقًا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي.
ولد في مرسية من بلاد الأندلس في أواخر رمضان سنة ٥٦٠، ثم انتقل من مرسية إلى أشبيلية سنة ٥٦٨، فأقام بها إلى سنة ٥٩٨ ثم انتقل إلى المشرق حاجًّا ولم يعد بعدها إلى الأندلس، وقد دخل مصر وأقام بالحجاز مدة، ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم، وتوفي بدمشق ليلة الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة ٦٣٨.
صبوات ابن عربي
ويظهر من أخباره المبثوثة في تضاعيف مؤلفاته أنه اتصل بما مر به من البلاد اتصالًا قويًّا فكانت حياته سلسلة من التعرف إلى الرجال والآراء، ومن النقد والمصاولة في الميادين الفقهية والصوفية، وكان لذلك أبلغ الأثر في تكوين ذلك العقل الصوال.
وقد كانت الرحلات من التقاليد المصطفاة عند علماء الإسلام، وكان لها فضل عظيم في صقل العقول، وكان ابن عربي من أظهر من استفادوا من نظام الرحلات، ففي كتبه إشارات كثيرة إلى من عرف من الرجال، وفي أبحاثه صدى للمشكلات التي عرضت له وهو يحاور علماء المشرق وعلماء المغرب، وكذلك كان اسمه ملء الأفواه في أواخر القرن السادس وصدر القرن السابع، وكانت أفكاره وآراؤه شغل الناس في تلك الحقبة من الزمان، وليس ذلك بالأثر القليل.
فتنته بنفسه
لا نعرف كثيرًا من أخبار ابن عربي في صباه، ولكن يظهر أنه كان مرهف الحس والذوق، وأنه نعم بماض خصب في عالم المحسوس، والنعيم في عالم المحسوس يزيد الأنس بالمعاني في عالم المعقول، فالذين عرفوا «ليلى» في عالم المحسوسات يرون لها وجودًا مشرقًا في عالم المعقولات، والذين شهدوا «الكأس» في عالم الحس يتمثلون لها صورًا فتانة في عالم الوجدان، ومن أجل ذلك نرى أشعار ابن عربي أثارة من رقدة الشوق ولفحة الحنين.
إن التصوف في جوهره نوع من التسامي في الروحانية، والصوفية الأخيار كانوا في الأصل من عشاق الصورة الحسية، ثم ضاقت أمامهم دنيا الحس فتساموا إلى دنيا الروح، وهي دنيا حافلة بمعاني الحب والجمال.
إن الرجل لا يتصوف إلا بعد أن يصبح روحه أقوى وأعنف من أن يقف عند الجمال المحسوس، وهو جمال ينبت من الأرض ويتغذى من الأرض، ويرجع إلى الأرض، هو جمال يفتن به كبار الأطفال، فإذا نضجت أرواحهم استصغروه واستقلوه واحتقروه، ثم مضوا يبحثون عن جمال يوائم ما في أرواحهم من قوة وصفاء.
قوة شخصيته
ولكن من أين عرفنا أن ابن عربي كانت له صبوات في عالم الحس قبل أن تنقل صبواته إلى عالم الروح؟
إن القول بذلك لا يحتاج إلى دليل، فسنرى حين نتكلم عن الحب في باب الأخلاق أن الصوفية جميعًا بدءوا معارفهم الوجدانية بالصبوات الحسية، والتصوف ذاته هو انتقال من حال إلى حال، انتقال من عالم الأرض إلى عالم السماء.
على أن الدليل تحت أيدينا، سطره ابن عربي نفسه في مقدمة شرح ترجمان الأشواق، وإلى القارئ قصة تلك النفس:
وفد ابن عربي على الحجاز وهو في الثامنة والثلاثين، وهي سن محفوفة بالأشواك؛ لأنها صلة بين دنيا الشباب ودنيا الكهول، وكان ابن عربي في ذلك الوقت يقاسي مشقة الانتقال من عهد إلى عهد، فاتصل حبله برجل من أهل العلم في مكة، وكان لذلك الرجل بنية خفيفة الظل، عذبة الحديث، فملكت عليه أقطار روحه، وسارت به في شعاب الهوى العذري فلم يرجع إلا وهو أشلاء من الأسى والحنين.
ولنتركه يصف تلك الفتاة بقلمه الرشيق:
كان لهذا الشيخ (رضي الله عنه) بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العابدات العالمات، السابحات الزاهدات، شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلا مين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أتعبت، وإن أفصحت أوضحت، إن نطقت خرس قُسُّ بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموأل خطاه، وأغري بظهر الغرور فامتطاه، ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض؛ لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقة مختومة واسطة عقد منظومة، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم، عالية الهمم، سيدة والديها، شريفة ناديها، مسكنها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، أشرقت بها تهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فنمت أعراف المعارف بما تحمله من الرقائق واللطائف، علمها عملها، عليها مسحة ملك وهمة ملك، فراعينا في صحبتها كريم ذاتها، مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد، فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد، بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس ويثير الأنس، من كريم ودها، وقديم عهدها، ولطافة معناها، وطهارة مغناها، إذ هي السؤل والمأمول، والعذراء البتول، فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة، اهتمامًا بالأمر القديم، وإيثارًا لمجلسها الكريم، فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني.
وهذه العبارات صريحة كل الصراحة، وهي تفصح عن تعلقه بتلك الفتاة التي رأى في وجهها وحديثها نعيم السمع والبصر والفؤاد، ولا شك عندنا في نبل ذلك الهوى وطهارته، وبراءته من وضيع الأغراض؛ لأن ابن عربي يتحدث حديث الرجل العفيف، وهو عندنا صادق، ولكن ذلك العفاف هو الدرجة الأولى بين هوى الأرض وهوى السماء، هو بداية العزوف عن المتعة الحسية والإقبال على المتعة الروحية، هو طليعة الإيمان بأن للحب غاية غير نعيم الحواس.
وآية ذلك أن ابن عربي الذي يقول: «فكل اسم أذكره فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني» هو نفسه الذي يستطرد فيقول:
ولم أزد فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية والتنزلات الروحانية والمناسبات العلوية؛ جريًا على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى، لعلمها (رضي الله عنها) بما إليه أشير، ولا ينبئك مثل خبير، والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية المتعلقة بالأمور السماوية، آمين. بعزة من لا رب غيره، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الموازنة بينه وبين الغزالي
ولا يمكن أن تكون تلك العلاقة أول وآخر ما عرف من العلاقات، فنشأته الأولى في المغرب يوم كان متصلًا بأحد الملوك لها دَخْلٌ في رياضته على دنيا الحسن.٢ والتنقل من أرض إلى أرض يمنح العيون فرصة التنقل من فتنة إلى فتنة، وهَوَى الرجل المحترس المتحفظ هو من أخطر الأهواء، وكان ابن عربي بطبيعة ما ترامت إليه همَّته في الفقه والتصوف رجلًا يحب أن يتوقَّر ويتزمَّت، ويَلقَى طلائع الحسن بقلب بليد، ولكن التحرُّز لم يغنِ شيئًا، فانحلت عزيمته، حين عرف تلك الفتاة التي حكم بأن بيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، واضطر إلى أن يسأل الله العصمة لمن يقرأ قصائد ترجمان الأشواق، العصمة من سبق الخاطر إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية، المتعلقة بالأمور السماوية.
والتجارب علَّمَتْنَا أن الأرض ليست بعيدة من السماء كل البعد، فالأرض والسماء في عالم الأخلاق مقتربتان أشد الاقتراب، وقد تكون الظواهر ممَّا يجزم بقوة الصلة الأرضية، على حين تكون البواطن موصولة الأواصر بأقطار السماء.
ما أضيف إلى مؤلفات ابن عربي من الزيادات
ولكن لِمَ نمشي على الشوك ونحن نكتب هذا الكلام؟
لِمَ هذا التهيُّب؟ نقول بكل صراحة: إن ابن عربي كان رجلًا مقهور النزوات والأهواء، كان رجلًا محبوسًا عن اللَّذَّات الحسية فاندفع يطوف حولها في رحاب عقلية، لها رَوْنق ورُواء، وآية ذلك أنَّهُ أطلق لنفسه العنان في امتلاك ناصية المجد، والمجد له معسول يفوق طعم الشهوات، وهو المفزَع لكل نفس طامحة ضاعت حظوظها في ميدان الحواس.
إن ابن عربي في أبحاثه يفترع المعاني افتراع الفحول: فهو يشفي شهوة مقهورة عزَّ عليها أن يتنفس، ويداوي جوًى في الصدر عزَّ منه الشفاء.
وأكاد أجزم بأن حاله يشبه حال ساكنات الديارات: فالراهبة الجميلة لا تعرف الدير إلا بعد أن يطول شقاؤها بما تحمل من قلب ظامئ ممنوع من الورود. وهنالك تنتظر الشفاء بما تتلهى به من العظمة الكهنوتية، ومن التطلع إلى النعيم المرموق في عالم السماء.
كانت الشهوات الحسية تطارد ابن عربي أينما توجَّه، وكانت تطالعه في صور موشاة بالتهاويل، فكان يلتمس المخرج بالتعلُّق بأذيال التفسير والتآويل: لأنه كان انغمر في عالم المجد، وكان يحب أن تكون جميع النوازع تفسيرًا لما ينتظره في أودية المعقول.
وإليكم هذه الرؤيا، فهي وحدها شاهد على أنه يتناول المعاني بطرائق حسية ويواجه الدنيا بعين متشوقة إلى الصور والأشكال، إليكم هذه الرؤيا ففيها المقنَع لمن يزعم أن في مقدور المتصوف أن يخلص كل الخلاص من عالم الحسِّ، إليكم هذه الرؤيا التي غمرت ابن عربي في تيار الشهوات من حيث لا يريد، إليكم هذه الرؤيا لتعرفوا كيف كان رجل اقتحام، وكيف كانت غرائزه المقهورة تصور له العوالم القوية بصورة الخضوع المؤنث.
حدث عن نفسه قال:
رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية، ثُمَّ لمَّا أكملت نكاح النجوم أُعطيت الحروف فنكحتها، وعَرَضْتُ رؤياي هذه على مَن عَرَضَها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها، وقلت للذي عرضتها عليه: لا تذكرني، فلما ذكر له الرؤيا استعظمها وقال: هذا هو البحر العميق الذي لا يُدْرَكُ قعره، صاحب هذه الرؤيا يفتح له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه، ثم سكت ساعة وقال: إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذلك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها.
وأين هذه الرؤيا البهلوانية من رؤيا يوسف إذا قال لأبيه: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ.
إن الفرق بين هذين الخيالين كالفرق بين هذين الروحين، سواء بسواء وما كذب يوسف، وإنما استطال محيي الدين!
تحفظ واحتراس
والدعوى كانت تتَّسِعُ أمام الرجلين في كثير من الشئون، فقد نقل أن امرأة كانت تُرضِعُ صغيرًا لها فمر رجل ذو شارة حسنة وخَوَل وحَشَمٍ فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الرضيع الثدي ونظر إليه، وقال: اللهم لا تجعلني مثله. ومرت عليه امرأة وهي تُضرَب والناس يقولون فيها: زنت وسرقت فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه. فترك الصغير الثدي ونظر إليها وقال: اللهم اجعلني مثلها.
ثم يحدثنا ابن عربي أن رسول الله قال في ذلك الرجل: إنه كان جبارًا متكبرًا، وإنه قال في المرأة: كانت بريئة مما نسب إليها.
ثم قادهُ الغرور إلى التزيُّد فقال: «واتفق لي مع بنت كانت تَرضَع عمرها دون السنة. فقلت لها: يا بنية — فأصغت لي — ما تقولين في رجل جامع امرأته فلم يُنزِل، ما يجب عليه؟ فقال: يجب عليه الغُسل، فغُشِيَ على جدتها من نطقها. هذا شهدته بنفسي».
وقد مرت الأجيال الطوال ولم يشهد أحد بنفسه ما شهد ابن عربي بنفسه، فهي دعوى أعرض من الصحراء.
شعره ونثره
على أنه لا ينبغي أن نسرف في تعقب ابن عربي، فهذه الشطحات تُقْبَلُ من رجل مثله كان يملك ناصية العلوم الشرعية والعقلية، وكان الزهو يقوده إلى الغفلة في بعض الأحيان.
لا ينبغي أن ننسى أن شخصيته في البحث والاجتهاد كان لها جلال، وكان يستطيع أن يقول: «اتفق المسلمون على أن التوجه إلى القبلة — أعني الكعبة — شرط من شروط صحة الصلاة، فلولا أن الإجماع سبقني في هذه المسألة لم أقل: إنه شرط، فإن قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ نزلت بعده وهي آية محكمة غير منسوخة».
وهذه النظرة فيها ما فيها من قوة الشخصية، ولو مضينا نتعقب دراساته الفقهية لرأينا لهذه النظرة كثيرًا من الأشباه والأمثال، وهو في دراساته الفقهية يتلمس مسالك التصوف، ويجعل في كل مبحث مجالًا لأرباب القلوب.
انظر إليه وهو يتكلم في الطهارة تجده يلخص أقوال الفقهاء، ثم ينتقل إلى اعتبار ذلك في الباطن فيقول:
«اعلم أن الطهارة في طريقنا طهارتان: طهارة غير معقولة المعنى، وهي الطهارة من الحدث، والحدث وصف نفسي للعبد فكيف يمكن أن يتطهر الشيءُ من حقيقته، فإنه لو تطهر من حقيقته انتفت عينه، وإذا انتفت عينه فمَن يكون مكلفًا بالعبادة؛ وما ثَمَّ إلا الله؟ فلهذا قلنا: إن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى. فصورة الطهارة من الحدَث عندنا أن يكون الحق سمعك وبصرك وكلك في جميع عباداتك فأثبتك ونفاك، فتكون أنت من حيث ذاتك، وتكون هو من حيث تصرفاتك وإدراكاتك» إلخ
ومن هنا يمكن الحكم بأن ابن عربي كان يرى الشريعة من حظ العوامِّ، ويرى الحقيقة من حظ الخواصِّ، وكانت دراساته للشريعة تمهيدًا لشرح الحقيقة، وكان الفقه عنده مقدمة لدرس أحوال القلوب.
وهو في هذا المسلك مَسْبوق بالغزالي، فكتاب الفتوحات المكية صدًى لكتاب إحياء علوم الدين، والفرق بين الرجلين أن الغزالي يحترم الأحكام الفقهية ويدرُسها درس الفقيه، ثم ينتقل إلى المعاني الصوفية فيدرسها في حرارة وشوق، أما ابن عربي فيظهر بشخصية جارفة في البابين، فيقتحم في الفقه ويقتحم في التصوف، ولا يكاد مع عنفوانه ينير العقل أو يشرح الصدر، وهل تُشْرح الصدور بالغطرسة والكبرياء؟
إن كل صفحة من صفحات الإحياء ترسل إلى القلب أشعة من الأنوار الروحانية، أما كتاب الفتوحات فكل صفحة فيه تثير مشكلة أمام العقل.
وربما كان السر في ذلك أن الغزالي ألَّف كتابه بعد أن صفا وطاب، وأن ابن ألَّف كتابه وهو يتسامى إلى أن يكون خاتم الأولياء، كما كان محمد صلوات الله عليه خاتم الأنبياء.
ويوضح هذا السر أن الغزالي يملأ كتابه بالنُّقول كأنه يستمد معانيه من كرام الأسلاف، أما ابن عربي فيتكلم وحده، ولا يستأنس بكلام من سلف إلا في قليل من الأحايين.
وقد كان لمسلك ابن عربي أثر عنيف فيمن جاء بعده من الصوفية، فالعُنجُهيَّة التي نراها في الشعراني هي بالتأكيد عَدْوَى وصلت إليه من ابن عربي، والتطاول إلى معرفة ملكوت السموات جرأة خطرة لا تتيسر لكل مدَّعٍ، وإنما يملكها من يرى نفسه عنصرًا من الوحدة الكلية حين يؤمن بوحدة الوجود.
ترجمان الأشواق
وينبغي أن ننص على أن كتب ابن عربي أضيفت إليها زيادات جائرة بَدَّلت أغراضه بعض التبديل، يدل على ذلك ما حدث به الشعراني في مختصر الفتوحات، إذ قال:
وقد توقفتُ حال الاختصار في مواضع كثيرة منه لم يظهر لي موافقتها لما عليه أهل السنة والجماعة فحذفتها من هذا المختصر، وربما سهوت فتبعت ما في الكتاب كما وقع للبيضاوي مع الزمخشري، ثم لم أزل كذلك أظن أن المواضع التي حُذِفَتْ ثابتة عن الشيخ محيي الدين حتى قدم علينا الأخ العالم الشريف شمس الدين محمد بن السيد أبي الطيب المدني، المتوفى سنة ٩٥٥ فذاكرته في ذلك فأخرج إليَّ نسخة من الفتوحات التي قابلها على النسخة التي عليها خط الشيخ محيي الدين نفسه بقونية فلم أرَ فيها شيئًا ممَّا توقفت فيه وحذفته، فعلمت أن النسخ التي في مصر الآن كلها كُتِبَتْ من النسخة التي دسوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السنة والجماعة، كما وقع له ذلك في كتاب الفصوص وغيره.
ونحن نلمح في كلام الشعراني شيئًا من التكلُّف، فإنه يبعد جدًّا أن يكون ابن عربي وقف في تفكيره عند الحدود التي وقف في تفكيره عند الحدود التي وقف عندها أهل السنة والجماعة، وإن كنَّا لا نستبعد أن تكون كتبه ابتُلِيَتْ بمن أضاف إليها بعض الزيادات.
ولكن مَن هم الذين زادوا كتب ابن عربي فحمَّلوه ما لم يحمل؟
إن كانت الزيادات وقعت بالفعل فهي لم تقع من أهل السنة، وإنما وقعت من الصوفية، من طائفة منهم عجزوا عن الجهر بآرائهم فأضافوا أعباءها إلى رجل يحمل الجبال!
وتكون النتيجة أن تكون كتب ابن عربي مراجع صوفية وإن اختلفت شخصيات الكاتبين.
مزج الأدب بالتصوف
على أنه لا مندوحة من النص على أن ابن عربي كان يتحفظ فيما يكتب، وكان يطلب السلامة قبل كل شيء، فإن وُجد في كتبه شيء يتجاوز مألوف الحدود فهو مدسوس.
ومن شواهد هذا التحفُّظ ما جاء في الفتوحات حيث يقول:٧
إن أصحابنا اليوم يجدون غاية الألم حيث لا يقدرون أن يُرسِلوا ما ينبغي أن يُرسَل عليه سبحانه كما أرسلت الأنبياء عليهم السلام،٨ وإنما منعهم أن يطلقوا عليه سبحانه ما أطلقت الكتب المنزلة والرسل عدمُ الإِنصاف من السامعين من الفقهاء وأولي الأمر لما يسارعون إليه من تكفير من يأتي بمثل ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام في جنب الله، ويتركون معنى قوله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، كما قال له ربه عز وجل عند ذكر الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم: أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ، فأغلق الفقهاء هذا الباب من أجل المدَّعين الكاذبين في دعواهم، ونِعْمَ ما فعلوا، وما على الصادقين في هذا من ضرر؛ لأن العبارة والكلام عن مثل هذا هو ما هو ضربة لازِب، وفيما ورد عن رسول الله ﷺ في ذلك كفاية لهم فيوردونها ويستريحون إليها من تعجب وفرح وضحك وتبشش ونزول ومعية ومحبة وشوق وما أشبه ذلك مما لو انفرد بالعبارة عنه الوليُّ كُفِّرَ وربما قُتِلَ، وأكثرُ علماء الرسوم عدموا علم ذلك ذوقًا وشربًا، فأنكروا مثل هذا من العارفين حسدًا من عند أنفسهم.
وهذا الكلام قاله ابن عربي بعد أن شرح أطوار التجليات وانتهى إلى الموازنة بين من يقول:
وفي كل شيء له آيةٌ
تدل على أنه واحدُ
وقوله هو:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه عينُهُ
«فما في الوجود إلا اللهولا يعرف الله إلا الله، ومن هذه الحقيقة قال من قال: أنا الله».
وقد تأملت طويلًا في كتاب الفتوحات فرأيت ابن عربي يدور حول فكرة «وحدة الوجود» دورانًا لَبِقًا ولا يكاد يفصح عنها إلا عن طريق الإيماء.
ألفاظ ومصطلحات
ندع هذا مؤقتًا، ونأخذ في الكلام عن ابن عربي الأديب، فنقول:
يُعَدُّ هذا الرجل من طبقة الكتاب العظام، ويمتاز نثره بميزة عجيبة: هي أنه لا يشغلك بالألفاظ، وإنما يشغلك بالمعاني، ففي كل صفحة من كتبه معركة عقلية: فالقوة البيانية عنده قوة فكر لا قوة تهويل؟
ونثره يينقسم إلى قسمين: النثر العلمي، والنثر الفني.
وهو في نثره الفني رجلٌ مَرَنَ وَانْطَبَعَ على الكلام المطمع الممتنع، وما ترك من ألوف الصفحات يشهد أنه كان من أملك الناس لناصية البيان، ولا يؤخذ عليه غير التفريط في ربط الجمل بعضها ببعض، وربما كان من أسباب ذلك أنه يحاول ستر أغراضه الحقيقة في كثير من الأحيان، فالكلام يَتَّسِقُ له ما دام في حدود المألوف من آراء الناس، فإذا تفلسف تلوَّى واعتسف؛ لأنه يحاول اقتحام الوعر من مسالك العقول.
وهو لا يصطنع النثر الفني إلا في المواطن التي يقف موقف الواعظ أو الخطيب، ففي مقدمات كتبه وفي خطبه التي يحدِّث أنه ألقاها في حضرة الله أو حضرة الرسول نراه يوشِّي كلامه بأكثر فنون البديع من سجع وتورية وجناس وطباق.
ونثره في شرح ترجمان الأشواق هو من النثر الفني، وإليكم هذا الشاهد الذي يمثل ما يتفق لهذا الرجل أحيانًا من خفة الروح:
«كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي، وهزني حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس وطفت على الرمل، فحضرتني أبيات فأنشدتها أُسمع بها نفسي ومن يليني، لو كان هناك أحد، فقلت:
ليت شعري هل دَرَوْا
أيَّ قلبٍ ملكوا
وفؤادي لو دَرَى
أيَّ شِعبٍ سلكوا
أتراهم سَلِمُوا
أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى
في الهوى وارتبكوا
فلم أشعر إلَّا بضربة بين كتفي بِيَدٍ ألين من الخَزِّ، فالتفتُّ فإذا بجارية من بنات الروم لم أرَ أحسن وجهًا ولا أعذب منطقًا، ولا أرق حاشيةً، ولا ألطف معنًى، ولا أدقَّ إشارةً، ولا أظرف محاورةً منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفًا وأدبًا وجمالًا ومعرفة؛ فقالت: يا سيدي، كيف قلت؟ فقلت:
ليت شعري هل دروا
أيَّ قلبٍ ملكوا
فقالت: عجبًا منك، وأنت عارف زمانك، تقول مثل هذا!! أليس كل مملوك معروف؟ وهل يصح الملك إلا بعد المعرفة، وتمنِّي الشعور يؤْذِن بعدمها، والطريق لسان صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا؟ قل يا سيدي، فماذا قلت بعده؟ فقلت:
وفؤادي لو دَرَى
أيَّ شِعبٍ سلكوا
فقالت: يا سيدي، الشِّعب الذي الشَّغاف والفؤاد هو المانع له من المعرفة، فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة، والطريق لسان صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا؟ يا سيدي، فماذا قلت بعد؟ فقلت:
حار أرباب الهوى
في الهوى وارتبكوا
فصاحت وقالت: يا عجبًا، كيف يبقى للمشغوف فضلة يحارُ بها، والهوى شأنه التعميم يخدِّر الحواسن ويذهب العقول، ويدهش الخواطر، ويذهب بصاحبه في الذاهبين فأين الحيرة وما هنا باقٍ فيحار، والطريق لشان صدق، والتجوز من مثلك غير لائقٍ! فقلت: يا بنت الخالة، ما اسمك؟ فقالت: قرة العين؟ فقلت: لي! ثم سلمتْ وانصرفت. ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتها فرأيت عندها من لطائف المعارف، ما لا يصفه واصف».
ذلك طراز من نثره الفني، وهو نثر مقبول، لا تكلُّف فيه ولا افتعال.
ثروته اللغوية
أما شعره فهو فن قائم بذاته، هو الشعر الصوفي، وقد ترك من الشعر تركة ثقيلة، فله ديوان ضخم. وكتاب الفتوحات ذاته يقوم في الأغلب على شرح مقطوعات شعرية، ويعز علينا أن نصرح بأن هذا الرجل أضاع وقته في صوغ القريض، فديوانه الضخم مجموعة من الأحجار وضعت على غير نظام، وهو في ديوانه هذا رجل مزعج لا تكاد تستروح الإنس به حتى تعود فتنكره؛ لأنك لا تعرف أين يتوجه، ولا تكاد تلمس في أشعار الديوان لفحة من الشوق إلى العالم المجهول.
وإلا فأي روعة في أمثال هذه الأبيات:
إن لي ربا كريما أجده
كالذي نعلم أو نعتقدُه
هو مِنِّي وأنا منه به
ولذا في كل حال أجده
كل من نال الذي قد نِلته
من وجود قد تعالى مشهده
إن أستاذي الذي أدَّبني
هو شخص في وجودي يشهده
هو مني والدٌ معتبرٌ
وأنا منه كهو أو ولده
لا أسمِّيه لأني عالم
أنه يكره ذا بل يعبده
هذا شعر ضعيف، وكل ما فيه هو الطواف حول الإشارة إلى وحدة الوجود والأثر الشعري الحق لابن عربي هو قصائد ترجمان الأشواق: ففي هذه القصائد نفحات شعرية، وهو بهذا الديوان يستطيع أن يزاحم الأقطاب من شعراء الصوفية.
وأكبر الظن أن نجاحه في هذا الديوان يرجع الفضل فيه إلى تلك الإنسانة التي أذكت نار جواه، فهي وقدات حِسِّيَّة مشبوبة وجهها عند الشرح إلى معان علوية ليسير في ركاب أصحاب الأذواق.
وانظروا كيف يقول:
مرضي من مريضة الأجفان
عللاني بذكرها عللاني
هفت الورق بالرياض وناحت
شجو هذا الحمام مما شجاني
بأبي طفلةٌ لعوب تهادي
من بنات الخدور بين الغواني
طلعت في العيان شمسًا فلما
أفلت أشرقت بأفق جناني
يا طلولا برامة دراسات
كم رأت من كواعب وحسان
بأبي ثُمَّ بي غزال ربيب
يرتعي بين أضلعي في أمان
يا خليليّ عرِّجا بعناني
لأرى رسم دارها بعياني
فإذا ما بلغتما الدار حطا
وبها صاحبي فلتبكيان
وقفا بي على الطلول قليلا
نتباكي بل أبك مما دهاني
الهوى راشقي بغير سهام
الهوى قاتلي بغير سنان
عرِّفاني إذا بكيت لديها
تسعداني على البكاء تسعداني
واذكرا لي حديث هندٍ ولبنى
وسليمى وزينب وعنان
ثم زيدا من حاجر وزرودٍ
خبرًا عن مراتع الغزلان
واندباني بشعر قيس وليلي
وبميٍّ والمبتلى غيلان
طال شوقي لطفلةٍ ذات نثر
ونظام ومنبر وبيان
من بنات الملوك من دار فُرسٍ
من أجلّ البلاد من أصبهان
هي بنت العراق بنت إمامي
وأنا ضدها سليل يماني
هل رأيتم يا سادتي أو سمعتم
أن ضدين قط يجتمعان
لو ترانا برامة نتعاطى
أكؤسًا للهوى بغير بنان
والهوى بيننا يسوق حديثًا
طيبًا مطربًا بغير لسان
لرأيتم ما يذهب العقل فيه
يمنٌ والعراق معتنقان
كذب الشاعر الذي قال قَبْلِي
وبأحجار عقله قد رماني
أيها المنكح الثريا سُهَيلًا
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استهلت
وسهيل إذا استهل يماني
فهذه قصيدة جيدة والغرام فيها حسيّ؛ لأن الكلام موجه إلى تلك الفتاة الأصبهانية التي عرفها بمكة، ولكنه في الشرح يحول صبابته إلى معان روحية ولننظر كيف شرح المطلع:
مرضي من مريضة الأجفان
عللاني بذكرها عللاني
فقال:
المرض: الميل، يقول: لما مالت عيون الحضرة المطلوبة للعارفين من جانب الحق سبحانه بالرحمة والتلطف إلينا أمالت قلبي بالتعشق إليها، فإنها لما تنزهت جلالا وعلت قدرًا، وسَمَت جبروتًا وكبرًا، لم يمكن أن تُعْرَف فتحبَّ، فتنزلت بالألطاف الخفية إلى قلوب العارفين … إلخ.
ولننظر كيف شرح هذين البيتين:
طال شوقي لطفلة ذات نثر
ونظام ومنبر وبيان
من بنات الملوك من دار فرس
من أجل البلاد من أصبهان
فقال:
وصف هذه المعرفة الذاتية بأنها ذات نثر ونظام، وهما عبارتان عن المقيد والمطلق، فمن حيث الذات وجود مطلق، ومن حيث المالك مقيد بالملك، فإنهم ما أشرنا إليه في هذا فإنه عزيز ما رأينا أحدًا نبه عليه قبلنا في كتاب من كتب المعرفة بالله تعالى، وقوله: (منبر) يعني درجات الأسماء الحسنى، والرقيُّ فيها التخلُّق بها، فهي منبر الكون، والبيان عبارة عن مقام الرسالة، هذه المعارف كلها خلف حجاب النظم بنت شيخنا العذراء البتول شيخة الحرمين، وهي من العالمات المذكورات، وقوله: (من بنات الملوك) لزهادتها: فالزهاد ملوك الأرض. فستر ما يريده من المعارف بذكر دارها وأصلها، يشير من بنات الملوك يعني: أن هذه المعرفة لها وجه بالتقييد، وقوله: (من دار فرس) يقول: وإن كانت عربية من حيث البيان فهي فارسية عجماء من حيث الأصل؛ لأنه لا يمكن في الأصل بيان عزته وتعلق الحكم به … إلخ.
وهذا الشرح، كما ترون، كله تعمُّل واعتساف، والاطلاع عليه يقدم إلينا متعة من متع الأنس بالذكاء.
وأشعار ابن عربي كلها رمزيات، كما يريد أن تكون، وهي لا تخلو من طلاوة، وقد يقع فيها أحيانًا شيء من طريف الخيال، كأن يقول:
ذبت اشتياقًا ووجدًا في محبتكم
فآه من طول شوقي آه من كمدي
يدي وضعت على قلبي مخافة أن
ينشق صدري لما خانني جلدي
ما زال يرفعها طورًا ويخفضها
حتى وضعت يدي الأخرى تشد يدي
وحدة الوجود
ولا بد من الإشارة إلى أن ابن عربي زاد لغة الصوفية ثروة، فقد تفرد بتعابير واصطلاحات أوجبت أن يفرد لها بحث خاص،١٤ ولهذا قيمة من الوجهة الأدبية؛ فالرجل كان يعيش في جو خلقه بنفسه، وكانت له اقتحامات عقلية ولغوية تضيفه إلى المبتكرين في عالم الفكر والبيان.
يضاف إلى هذا ما صنعه في إذاعة الثقافة الصوفية، فقد هضم كل ما قرأ، ووعى كل ما سمع، وراح يهدر كالفحل في لغة قوية عاتية لا يعيبها غير ما كان يقصد إليه أحيانًا من الغموض.
ولنسجل أيضًا أنه راض اللغة على الجري في شعاب مجهولة، وانطلق يتحدث عن فروض غيبية جلاها قلمه في معارض شائقة فأصبحت وكأنها من الحديث المأنوس.
ولقد عرضتُ من قبل إلى الموازنة بين كتاب الإحياء وكتاب الفتوحات؛ فلنصف إلى ما سلف أن كتاب الإحياء جلا من التصوف ناحيته الروحية، أما كتاب الفتوحات فقد جلا من التصوف ناحيته العقلية. ويمكن الحكم بأن ابن عربي كان أصلب عودًا من الغزالي، فالغزالي ألف كتابه وهو مَمعود،أما ابن عربي فألف كتابه وهو في حيوية قوية، حيوية في الجسم وحيوية في العقل، ومن أجل هذا نراه يفترع الأفكار افتراع الفحول، وإن كان لم يفرغ من كتابه هذا إلا قبل موته بثلاث سنين.
ولقوة الشخصية أثر في الحيوية الأدبية، والأدباء لا يخدمون لغتهم بالبيان وحده، وإنما يخدمونها بالبيان المقتحم الذي يوقظ المشاعر والعقول.
ويمكن أيضًا أن نقول: إن كتاب الإحياء يصلح لكل قارئ، أما كتاب الفتوحات فيتسامى على أوساط القراء، فهو لون من الأريستوقراطية العقلية؛ لأنه يعز على من يرومه من سواد الناس، ويطول على من لم تؤهله ثقافته إلى المشاركة في مصاولة العقول.
دفاع العاملي
تلكم جوانب من ابن عربي تمثل شخصيته الأدبية والذوقية، ولكن بقي جانب مهم هو قوله بوحدة الوجود، وهذه المسألة لها أثر في طريقة فهمه لقواعد الأخلاق.
ونبادر فنذكر أن الإشارات إلى وحدة الوجود منبثة في كتاب الفتوحات، ولكن ابن عربي يتكلم في تحفظ واحتراس، وليس من همنا في هذا البحث أن نبين كيف وصلت هذه الفكرة إلى ابن عربي، فقد سبقنا الدكتور أبو العلاء عفيفي إلى ذلك في بحث نشره في مجلة كلية الآداب (مايو سنة ١٩٣٣)، وإنما يهمنا أن نشرح هذه الفكرة ونبين خطرها في الأخلاق.
والقائلون بهذه الفكرة يختلفون في تصويرها إلى فريقين: فريق يرى الله روحًا ويرى العالم جسمًا لذلك الروح، فالله هو كل شيء، وفريق يرى جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله فكل شيء هو الله.
ونظرية وحدة الوجود شغلت جمهورًا كبيرًا من علماء الإسلام، واصطنعها كثير من أقطاب الصوفية منهم ابن الفارض الذي يقول:
وفي الصحو بعد المحو لم أكُ غيرها
وذاتي بذاتي إذ تجلت تحلت
وما زلت إياها وإياي لم تزل
ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وقد شرح هذه النظرية بهاء الدين العاملي في كتيب أسماه «الوحدة الوجودية»، وهو كتيب يقرأ، وأهم ما فيه هو الدفاع عن ظهور الله بصورة محسوسة، فقد روى الحديث المأثور عن الرسولﷺ: «رأيت ربي على صورة شاب أمرد فوضع كفه بين كتفيذض فوجدت برده بين ثديي»، ثم قال:
فإذا جاز تجليه سبحانه وتعالى في صورة شخصية، فما المانع من أن تكون سائر الصور الأرضية والسماوية صور تجلياته، وشئون ظهور ذاته؟ فإن قلت: إن الصورة المذكورة التي تجلى الله تعالى فيها صورة حسنة فكيف يقاس عليها الصور التي بخلافها في الحسن والنورانية مثل الأشياء النجسة والمتقذرة؟ يقولون في الجواب: إن نجاسة الأشياء وتقذرها ليست وصفًا ثابتًا لها في أنفسها، فإن كل طبيعة متعينة لها ملاءمة بالنسبة إلى البعض ومنافرة بالنسبة إلى البعض الآخر وذلك من آثار ما به الاشتراك وما به الاختلاف الواقع من التعيين، فأيهما غلب ظهر حكمه من الملاءمة والمنافرة. والنجاسة الواقعة في بعض الأشياء إنما هي بالنسبة إلى ما يقابلها من الطبائع التي وقعت بينها أسباب المخالفة فهي لا تثبت لشيء إلا بالنسبة إلى ما يقابلها لا بالنسبة إلى الإطلاق والمطلق، فهي وما يقابلها مما سمِّي نظافة على السوية بالنسبة للمطلق.
وما حكم به العاملي على الصور المقبولة والمرذولة يحكم به على ساتر الأحكام الكونية كالألم والتلذذ والسعادة والشقاوة والحسن والقبح، فكل هذه لا يلزم منها نقص ولا شينٌ للحقيقة الكلية، إذ ليس الشين والنقص لشيء إلا كون ذلك الشيء في معرض الإمكان والحدوث.
«والوجود الحق الواجب في ذاته، الكامل بصفاته، السابق موجوديته على جميع حالاته، ممتنع أن يحوم النقص حول عظمة ذاته، فكل ما ظهر في الكون من الكمال فهو من لوازم ذي الجلال والجمال، وما طرأ من النقص والزوال، فهو من أحكام التعين والتنزل والإنزال».
وخلاصة المذهب أن لا موجود إلا الوجود الواحد، ومع ذلك يتعدد بتعدد التعينات تعددًا حقيقيًّا واقعًا في نفس الأمر، ولكن ذلك التعدد لا يوجب تعددًا في ذات الوجود، كما أن تعدد أفراد الإنسان لا يوجب تعددًا في حقيقة الإنسان.
أوجه من الحق في وحدة الوجود
وقد فكرت في هذا المذهب طويلًا، وهو عندي من الوجهة النظرية مقبول، على شرط أن نتجاهل جميع المصطلحات، فنحن إلى اليوم لا نعرف الله كما ينبغي أن يُعرف. ومن المحتمل أن نكون أضفنا إليه صفات لا نعرف حظها من الصدق، فنحن ننزهه عن كل ما يلابس الناس، ونقضي بأن ليس كمثله شيء، كما قضى القرآن، وهنا يبدأ الخطر؛ لأننا إن كذبنا القرآن فماذا تملك؟ وما الدليل على أن القرآن أسرف؟ القرآن يقضي بأن ليس كمثله شيء، فأين اليقين عندنا على أنه يشبه شيئًا أو يشبهه شيء؟
نحن نصف الله بالغنى المطلق، والفطرة هي التي هدتنا إلى ذلك، ولا نكاد نصدق أن واهب الوجود يحتاج إلى شيء، وإن احتاج كما نحتاج فأين تكون عظمته الذاتية؟
ونحن حين نقول بوحدة الوجود نقضي بأننا جزء من الوحدة الإلهية، ولا شك أن فينا شمائل روحية وخلقية تدعونا إلى القول بصحة ذلك الادعاء، ولكننا نتلفت فنرانا نعْرَى ونظمأ ونجوع، ونرى أكبر المتفلسفين لا يغنيه التفلسف عن طلب الرزق، وتمر بنا أحداث نرى الناس فيها صغارًا جدًّا لا يصلحون أبدًا للاتسام بالسمة الإلهية.
يضاف إلى ذلك أن القول بوحدة الوجود يجعل الثواب والعقاب من المشكلات، فمن الذين يثيبنا حين نحسن؟ ومن الذي يعاقبنا حين نسيء؟
ومن نحن حتى نحسن؟ ألسنا جزءًا من الله؟ ومن نحن حتى نسيء؟ ألسنا بضعة من واجب الوجود؟ أيحسن الله نفسه ثم يثيب، ويسيء ثم يعاقب؟ تلك مشكلة المشكلات.
مشكلة الثواب والعقاب
إن ابن عربي يحل هذه المشكلة حلًّا طريفًا، وهو ينصح للعوام بأن يكتفوا بالشريعة فيفهموا الثواب والعقاب على نحو ما يفهم جمهور المسلمين؛ ويحتفظ بذلك السمو الروحاني لأقطاب الواصلين، فمن سمت به التجليات إلى مقام الفناء عرف أن لا موجود إلا الله، واستطاع أن يقول: أنا الله.
ولهذا الرأي خطر عظيم من الوجهة الأخلاقية، فالعارف يرى الناس جميعًا مضللين، ولكنه يعذرهم وينظر إليهم كما ينظر الرجل إلى صغار الأطفال.
أتريدون الحق؟ إن القول بوحدة الوجود له وجه، فمنذ اكتشف اللاسلكي وأنا أعتقد أن العالم كله مربوط أوثق رباط بوحدة كهربائية لا تقبل الانفصام.
وأكاد أحكم بأن الخطأ والصواب، والهدى والضلال، لا يقع شيء منه إلا طاعة لتلك القوة الكهرابئية، فهي التي تبرم وتنُقض، وتأسو وتجرح، لأغراض مستورة قد لا يفهمها الإنسان بإدراكه الضعيف.
ولكن كيف يكون الحال لو وضعت القوانين على هذا الأساس؟
كيف يكون الحال حين يحكم بأن المجرم يجرم وهو غير مسئول؟
أتنفعني هذه الفلسفة التي أدونها في غرفة مغلقة النوافذ؟
ألا يكون من حق كل مجرم أن ينتهب مني ما يشاء، حتى هذا الرغيف الذي أعددته للغداء؟
إن القول بوحدة الوجود ليس إلا شطحة صوفية، وهو خطر كل الخطر في عالم الأخلاق.
فإن رابكم هذا القول فتأملوا أحوال الصوفية، فهم في الأغلب من الذين سقطت عنهم التكاليف، وعاشوا عيش التفكك والانحلال منذ أفلتوا من قيود الشرع الحنيف.٢٠
كيف جاء القول بوحدة الوجود
لقد أجهدت عقلي في البحث عن السبب الذي دعا إلى القول بوحدة الوجود، وانتهيت إلى أن هذه النظرية لم تنشأ إلا؛ لأن الإنسان بطبيعة تكوينه لا يتصور موجودًا بلا حيز ولا جهة ولا مكان، وهو حين يؤمن بوجود الله يسأل من حيث لا يشعر: وأين الله؟ ولا تزال الدنيا تعج بألوف الملايين ممن يتصورون أن الله في السماء فيرفعون إليها أبصارهم عند الدعاء.
والمؤمنون الصالحون يقولون: الله في كل مكان، والقرآن نفسه يقول: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ولست بهذا أقضى بأن القرآن يجعل الله في مكان، وإنما أحكم بأن هذه الآية تخاطب الناس بما يفهمون، فتصوروا الله موجودًا في كل مكان؛ لأنهم لا يعقلون وجودًا بلا حيز ولا مكان.
ولقد قلت: إن اللاسلكي هيأ ذهني للقول بوحدة الوجود، وإنما كان ذلك؛ لأني تبينت أن الحرية الذاتية قد تكون وهمًا من الأوهام، فأنا حين أتنفس، أو أتحدث، أو أحزن، أو أجذل، أو أسكن، أو أتحرك، أنا في جميع الأحوال موصول السرائر بالعالم كله، ومن آيات ذلك أني أتأثر بما لا أدرك من أحوال الوجود: فأسعد أو أشقى في سريرة نفسي بلا سبب معروف.
وقد حملني هذا الفهم على إقرار مبالغات الشعراء حين يحكمون بأن الشمس والقمر والنجوم جزعت لموت من يبكون من الأعزاء. وبدا لي أنه لا يبعد أن يجيء يوم يثبت فيه أنه لا تجف ورقة، ولا تسقط ثمرة، إلا ويتأثر الوجود كله تأثرًا يتناسب مع الموجود الذي يناله الجفاف أو السقوط.
وهذه القوة الكهربائية التي تربط العالم بعضه ببعض تنفي الحرية الذاتية، وتجعلنا مقرونين إلى القطار الخالد، قطار الموجودات من أراض وبحار وأنهار وجبال وكواكب ونجوم، وما لا نعلم من أشتات الوجود.
قد تقولون: إن الله هو الذي خلق العالم وربطه بذلك الرباط الكهربائي الوثيق.
وهو كذلك، ولكن أين الله؟ أين كان قبل أن يخلق هذا الوجود؟
تقولون: إنه منزه عن الحيز والجهة والمكان.
صدقتم، ولكن انتظروا حتى تخلق الأفهام التي تتصور موجودًا بلا حيز ولا جهة ولا مكان.
لا تظنوني أتسامى إلى حل هذه المشكلة حلًّا نهائيًّا، هيهات، وإنما أردت أن أبين كيف اضطر بعض الفلاسفة إلى القول بوحدة الوجود، والله وحده يعلم أين مكان الخطأ في هذه المسألة، وأين مكان الصواب.
تهافت من يقولون بهذه النظرية
والمهم أن نعرف الآن كيف يصح التكليف مع القول بوحدة الوجود.
ونسارع فنقرر أن الذين يقولون بوحدة الوجود يتهافتون كل التهافت حين يضعون قواعد الأخلاق؛ لأنهم لا يعرفون أين مناط الثواب والعقاب، وإن ظن العامليُّ أنه فصل في هذه القضية حين قال:
فإن قيل: فمن المثاب والمعاقب والمنعم والمعذب في الدار الآخرة إذا كان الوجود واحدًا؟ أجيب بأن في الدنيا غني وفقير وعزيز وذليل ومالك ومملوك فكذلك في الدار الآخرة.٢١
وهذا جواب ليس فيه شفاء.
وقد رجعت إلى سبينوزا أستفتيه فلم أجد عنده ما يقنع، فهو من القائلين بوحدة الوجود ومن الذين رفعوا علم هذه النظرية بين الفلاسفة الأوربيين، ولكنه يتهافت حين يتكلم عن الشخصية الخلقية، وكيف يكون للإنسان خلق وهو على حد تعبيره يحلم وعيناه مفتوحتان إن سبينوزا يقضي بأن الأشياء جميعًا تتعلق بإرادة الله، ولا يمكن تغيير ما تقوم عليه الأشياء إلا بتغيير إرادة الله وإرادة الله لا يلحقها تغيير؛ لأن هذا ينافي الكمال، وإذن لا يلحق الأشياء تعديل ولا تبديل.
إن غاية الأخلاق عند سبينوزا هي السعادة، والسعادة عنده ليست إلا طمأنينة النفس التي تنشأ من معرفة الله، والله هو كل الوجود، فأين الشخصية الإنسانية التي تحب وتبغض وتحسن وتسيء، في حرية واستقلال، حتى تصلح صلاحية واقعية للثواب والعقاب؟
إن القول بوحدة الوجود يأتي على قواعد الأخلاق من الأساس، ونحن لا نملك التفريط في قواعد الأخلاق، ولا نملك النيل من أصول القوانين؛ لأن أقل محاولة من هذا النوع تعرض المجتمع للفساد، وتسوق الفلاسفة أنفسهم إلى مهاوي الفناء.
هل قال ابن عربي بوحدة الوجود؟
ولكن هل قال ابن عربي بوحدة الوجود؟
يجب أن نعترف بأن أصول الأخلاق عند ابن عربي تقوم على قواعد الشريعة، وهو في هذه المسألة لا يوارب ولا يحتال، وكل ما في الأمر أنه يقسم الناس إلى قسمين: قسم العوام وقسم الخواص، فالعوام لهم ظاهر الشرع، والخواص ينقسمون إلى طبقات، ولهم أن يفهموا الحقيقة بحسب ما يملكون من قوة الاستعداد، وقد اتفق له أن يصرح بأن «العالم لا يقدرون أن يخرجوا عن الحق فهو وجودهم ومنه استفادوا الوجود، وليس الوجود خلاف الحق خارجًا عنه يعطيهم منه بل هو الوجود وبه ظهرت الأعيان. يقول القائل بحضرة رسول الله ﷺ:
والله لولا «أنت» ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
والنبي يعجبه ذلك ويصدقه في قوله، فنحن به وإليه، فإذا نظرنا إلى ذواتنا وإمكاننا فقد خرجنا عنه، وإمكاننا يطلبنا بالنظر إليه، فإنه الموجد لنا بوجوده من وجوده».٢٥
ومعنى ذلك أننا موجودون بوجود الله؛ ونشتاق إليه لأنه أصل الوجود.
واتفق له أن يحكم بأن «الظاهرين بأمر الله لا يرون سوى الله في الأكوان وأن الأكوان عندهم مظاهر الحق».
وهذا له تأويل، وليس من المحتم أن يكون نصًّا في القول بوحدة الوجود.
وقد صرح بأنه «إذا تخللت المعرفة بالله أجزاء العارف من حيث ما هو مركب فلا يبقى فيه جوهر فرد إلا وقد حلت فيه معرفة ربه فهو عارف به بكل جزء منه، ولولا ذلك ما انتظمت أجزاؤه، ولا ظهر تركيبه، ولا نظرت روحانيته طبيعته، فبه تعالى انتظمت الأمور معنى وحسًّا وخيالًا، وكذلك أشكال الإنسان لا تتناهى ولا ينتظم منها شكل إلا بالله».
ولهذا أيضًا تأويل.
وعند مراجعة الفتوحات نجد إشارات كثيرة إلى مقامات الأولياء ونرى ابن عربي يتحفظ ويحترس، فلا ينص صراحة على وحدة الوجود، وإن كان دفاعه عن الحلاج يؤذن بارتياحه إلى هذه النظرية، ويشعر بأنه يتحامى التصريح خوفًا من التعرض لحملات من يقفون عند الظواهر من الفقهاء.
ومن ذلك ما وقع له عند شرح هذين البيتين:
يا رب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
فقد نقل أن الرسول قال: «إن الله خلق آدم على صورته» بإعادة الضمير على الله في بعض محتملاته، ثم بين أن الناس يسمعون هذا من النبي فيصدقون، فإذا قال الولي شيئًا مثله أنكروا عليه وأباحوا دمه، مع أنه يمكن للولي أن يطلع على غوامض العلوم الإلهية كما يطلع الرسول.
وابن عربي شديد الولع بالمقارنات بين الرسل والأولياء، وعنده أن الرسل لا يتفردون إلا بمزية واحدة هي التشريع، أما الإطلاع على أسرار الوجود فهو من الحظوظ التي تتاح للأولياء.
وما أحسب الفرصة سنحت أبدًا لابن عربي، الفرصة التي تمكنه من أن يقول: أنا الله، كما قال أبو يزيد وكما قال الحلاج، وهو حين يروي هذه الكلمة يلتمس لها مخارج من مقبول التأويل.
دفاع الشعراني عن ابن عربي
وتحفظ ابن عربي مكن من جاء بعده من الدفاع عنه، فقد قال السراج البلقيني: «كذب والله وافترى من نسبه إلى القول بالحلول والاتحاد»٢٩ وصنف السيوطي كتابًا سماه «تنبيه الغبي في تبرئة ابن العربي» وقال الشعراني: «مما أنكره المتعصبون على الشيخ بحسب الإشاعة قولهم: إن الشيخ محيي الدين يقول بفساد قول: «لا إله إلا الله» وذلك كفر، والجواب بتقدير صحة ذلك عنه أن المراد أن الحق تعالى ثابت في ألوهيته قبل إثبات المثبت، ومن كان ثابتًا لا يحتاج إلى إثباتك، إذ ما ثم من تثبت ألوهيته من الخلق حتى ينفي، وإنما تعبد المؤمن بذلك علي سبيل التلاوة ليؤجره الله علي ذلك… ومن ذلك دعاوى المنكر أن الشيخ يقول في كتبه مرارًا: (لا موجود إلا الله) فالجواب أن معنى ذلك بتقدير صحته عنه أنه لا موجود قائم بنفسه إلا هو تعالى، وما سواه قائم بغيره، كما أشار إليه حديث: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) ومن كان حقيقته كذلك فهو إلى العدم أقرب، إذ هو وجود مسبوق بعدم، وفي حال وجوده متردد بين وجود وعدم لا تخلص لأحد الطرفين، فإن صح أن الشيخ قال: (لا موجود إلا الله) فإنما قال ذلك عند ما تلاشت عنده الكائنات حين شهوده الحق تعالى بقلبه، كما قال أبو القاسم الجنيد: «من شهد الحق لم ير الخلق»، ومن ذلك دعوى المنكر أن الشيخ رحمه الله جعل الحق والخلق واحدًا في قوله في بعض نظمه:
فيحمدني وأحمده
ويعبدني وأعبده
بتقدير صحة ذلك عنه، والجواب أن معنى يحمدني أنه يشكرني إذا أطعته، كما في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ. وأما في قوله: (ويعبدني وأعبده) أي: يطيعني بإجابته دعائي، كما قال تعالى: لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ أي: لا تطيعوه، وإلا فليس أحد يعبد الشيطان كما يعبد الله. وقد ذكر الشيخ في الباب السابع والخمسين وخمس مئة من الفتوحات المكية بعد كلام طويل ما نصه: وهذا يدلك صريحًا على أن العالم ما هو عين الحق تعالى إذ لو كان عين الحق تعالى ما صح كون الحق تعالى بديعًا.
ولولا تحفظ ابن عربي لما استطاع أن ينجو في حياته من القتل، ولما استطاع مريدوه من بعد أن ينفوا عنه القول بوحدة الوجود أو الحلول، وسنرى عبد الغني النابلسي يقبح من يقول: بالحلول أو وحدة الوجود، والنابلسي كان من المفتونين بابن عربي ومن الذين اهتموا بأشعاره فرووها وتعقبوها بالتشطير والتخميس.
صور من شقاء العلماء والأولياء
والشعراني مطمئن كل الطمأنينة إلى أن خصوم ابن عربي زوروا عليه مسائل كثيرة، وحدثنا أن شخصًا من اليمن اسمه جمال الدين بن الخياط كتب مسائل في درج وأرسلها إلى العلماء ببلاد الإسلام وقال: هذه عقائد الشيخ محيي الدين بن العربي وذكر فيها عقائد زائغة ومسائل خارقة لإجماع المسلمين، فكتب العلماء على ذلك بحسب السؤال وشنعوا على من يعتقد ذلك من غير تثبت، والشيخ عن كل ذلك بمعزل. ومن قبل الشعراني تعصب الفيروزآبادي صاحب القاموس لابن عربي ودافع عنه أحر دفاع.
وفي كتاب اليواقيت أسماء لطائفة من أعلام الفقهاء نفوا عن ابن عربي كل ريبة وأثنوا عليه أطيب الثناء.
وهذا كله يشهد بأن ابن عربي لم يمكن خصومه من مطاردته وهو حي، وإن كان من الممكن جدًّا أن يكون ستر آراءه حين اصطنع بعض الرموز والإشارات على نحو ما فعل أقطاب الصوفية الذين لم يروا فائدة في التعرض للقتل.
دوران ابن عربي حول وحدة الوجود
والإساءة إلى ابن عربي في دينه وعقيدته ساقت إلينا وثيقة أدبية قليلة الأمثال، وثيقة يجب تدوينها في هذا الكتاب؛ لتكون شاهدًا على أثر التصوف في الأدب، ولتكون عبرة لمن يسوءه أن يناله الأذى من الناس بسبب الحرية في الفكر والقول.
وهل من القليل في متعة العقل والذوق أن نتذكر أن أبا الدرداء قال: أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، إن كان في حسبه شيء عيروه، وإن كان عمل في عمره ذنبًا عيروه.
وأن كعب الأحبار قال: ما كان رجل حليم في قومه قط إلا بغوا عليه وحسدوه.
وأن الجلال السيوطي قال: ما كان كبير في عصر قط إلا كان له عدو من السفلة، إذ الأشراف لم تزل تُبْتَلَى بالأطراف، فكان لآدم إبليس، وكان لنوح حام وغيره، وكان لداود جالوت وأضرابه، وكان لسليمان صخر، وكان لعيسى بختنصَّر، وكان لإبراهيم النمرود، وكان لموسى فرعون، وهكذا إلى محمد ﷺ له أبو جهل.
وكان لابن عمر عدو يعبث به كلما مر عليه.
ونسبوا عبد الله بن الزبير إلى الرياء والنفاق في صلاته فصبوا على رأسه ماء حميمًا فزلع وجهه ورأسه وهو لا يشعر، فلما سلم من صلاته قال: ما شأني؟ فذكروا له القصة فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل! ومكث زمانًا يتألم من رأسه ووجهه.
وكان لابن عباس نافع بن الأزرق، كان يؤذيه أشد الأذى ويقول: إنه يفسر القرآن بغير علم.
وكان لسعد بن أبي وقاص جهلة من رجال الكوفة يؤذونه مع أنه مشهود له بالجنة، وشكوه إلى عمر بن الخطاب وقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي.
ولا يخفى ما قاساه الإمام أبو حنيفة مع الخلفاء، وما قاساه الإمام مالك واستخفاؤه خمسًا وعشرين سنة لا يخرج لجمعة ولا جماعة، وكذلك ما قاساه الإمام الشافعي من أهل العراق وأهل مصر، وكذلك لا يخفى ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل من الضرب والحبس، وما قاساه البخاري حين أخرجوه من بخارَى إلى خرتنك.
وقد نُفى أبو يزيد البسطامي سبع مرات من بسطام بواسطة جماعة من علمائها.
وشيعوا ذا النون المصري من مصر إلى بغداد مقيدًا مغلولًا وسافر معه جماعة من أهل مصر يشهدون عليه بالزندقة.
ورموا سمنُون المحب بالعظائم، ورشوا امرأة من البغايا فادعت عليه أنه يأتيها هو وأصحابه، واختفى بسبب ذلك سنة.
وأخرجوا سهل بن عبد الله التُّستري من بلده إلى البصرة ونسبوه إلى قبائح وكفروه مع إمامته وجلالته.
ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم وأفتى العلماء بكفره بألفاظ وجدوها في كتبه.
وشهدوا على الجنيد بالكفر مرارًا حين كان يتكلم في علم التوحيد على رءوس الأشهاد فصار يقرره في عُقْر بيته إلى أن مات.
وأخرجوا محمد بن الفضل البلخي من بلخ لكون مذهبه كان مذهب أهل الحديث من إجراء آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها بلا تأويل والإيمان بها على علم الله فيها، ولما أرادوا إخراجه قال: لا أخرج إلا إن جعلتم في عنقي حبلًا ومررتم بي في أسواق البلد وقلتم: هذا مبتدع نريد أن نخرجه من بلدنا، ففعلوا ذلك وأخرجوه. فالتفت إليهم وقال: يا أهل بلخ، نزع الله من قلوبكم معرفته! قال الأشياخ: فلم يخرج بعد دعوته عليهم تلك من بلخ صوفيٌّ أبدًا، مع أنها كانت أكبر بلاد الله صوفية.
وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع كثرة مجاهدته وتمام علمه وحاله وضربوه ضربًا مبرِّحًا، وطافوا به على جمل فأقام ببغداد إلى أن مات.
وشهدوا على الشِّبلي بالكفر مرارًا مع تمام علمه وكثرة مجاهداته وأدخله أصحابه البيمارستان؛ ليرجع الناس عنه مدة طويلة.
وأخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي مع فضله واستقامته في طريقته من المغرب إلى مصر، وشهدوا عليه بالزندقة عند سلطان مصر فأمر بسلخه منكوسًا فصار يقرأ القرآن وهم يسلخونه بتدبر وخشوع حتى قطع قلوب الناس وكادوا يُفتنون به.
ورموا الشيخ أبا مدين بالزندقة وأخرجوه من بجاية إلى تلمسان.
وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي من مصر، وشهدوا عليه بالزندقة.
ورموا عز الدين بن عبد السلام بالكفر وعقدوا له مجلسًا في كلمة قالها في عقيدته وحرشوا السلطان عليه.
ورموا تاج الدين السبكي بالكفر، وشهدوا عليه أنه يقول: بإباحة الخمر والفاحشة وأنه يلبس في الليل الغيار والزنار، وأتوا به مغلولًا مقيدًا من الشام إلى مصر، وخرج جمال الدين الأسنوي فتلقاه من الطريق وحكم بحقن دمه.
قال الشعراني: وإنما ذكرنا لك يا أخي محن هذه الأمة من المتقدمين والمتأخرين تأنيسًا لك، لتقبل على مطالعة كتب الصوفية، ولا سيما الشيخ محيي الدين؛ لأن هؤلاء الأئمة ثناؤهم عندنا كالمسك الأذفر، فكما لا يقدح في كمالهم ما قيل فيهم كذلك لا يقدح ما قيل في كمال الشيخ محيي الدين.
وهذه الوثيقة النفيسة صدرها الشعراني بقول السيوطي: ومما أنعم الله به علي أن أقام لي عدوًّا يؤذيني ويمزق عرضي: ليكون لي أسوة بالأنبياء والأولياء، وقد حدثنا أن النسيمي كان يقطع أهل حلب بالحجج فاحتالوا له. وكانت الحيلة أن كتبوا سورة الإخلاص في ورقة ورشوا من يخيط النعال وقالوا: هذه ورقة محبة وقبول فضعها لنا في أطباق النعل، ثم أخذوا ذلك النعل وأهدوه إلى الشيخ من طريق بعيدة فلبسه وهو لا يشعر،٣٦ ثم طلعوا لنائب حلب وقالوا له: قد بلغنا من طريق صحيحة أن النسيمي كتب قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وجعلها في طباق نعله، وإن لم تصدقنا فأرسل وراءه وانظر ذلك، ففعل، فاستخرجوا الورقة، فسلم الشيخ لله تعالى ولم يجب عن نفسه وعلم أنه لا بد أن يقتل على تلك الصورة.
قال الشعراني: وأخبرني بعض تلامذة تلامذته أنه صار ينشئ٣٧ موشحات في التوحيد وهم يسلخونه حتى عمل خمس مئة بيت، وكان ينظر إلى الذي يسلخه وهو يبتسم.
رأيه في نشوء الموجودات
قد يسأل القارئ: وهل لنقل هذه الوثيقة أهمية في بناء هذا الفصل غير العبرة والتأسي؟
ونجيب بأن لها أهمية أعظم من تلك، فإن الشعراني استطرد في ذكر ما ابتلي به الأئمة والأولياء وتجاهل شخصية واحدة لقيت الحتف في سبيل الحق، وتلك شخصية الحلاج الذي أُوذي أبلغ إيذاء، وإنما تجاهل الشعراني شخصية الحلاج؛ لأنه كان يقول: بوحدة الوجود، وذكره بالخير في مثل هذا السياق قد يعرض ابن عربي لتهمة لا يرضاها له صاحب اليواقيت.
الحقيقة المحمدية
قلنا: إن ابن عربي تحفظ واحترس ليسلم من القتل، فهل تكون سلامته من القتل هي الدليل على أنه لم يتورط في القول بوحدة الوجود؟
نعم، سلامة ابن عربي من القتل هي الشاهد على ذلك؛ لأن القول بوحدة الوجود كان من علائم الزيغ والضلال، وهذه النظرية تبدو لأول وهلة غاية في السخف، ومن الذي يتوسم العقل في رجل يقف على قارعة الطريق ويقول: «أنا الله» مع أنه لا يستطيع أن يقول: «أنا حاكم هذا البلد»، وقد يكون في حالة من المتربة لا تمكنه من أن يقول: «أنا صاحب هذا الثوب!!»
والفطرة الإنسانية تنكر أشد الإنكار أن يقول مخلوق: «أنا الله»، وكان القائلون بوحدة الوجود لا يحلو لهم غير هذا التعبير، وهو تعبير شائك، وكان جزاؤهم عليه أن يسلخوا أمام الناس.
أثر ابن عربي في الأدب والأخلاق
تهيب ابن أن يصرح بوحدة الوجود، ونفاها عنه كثير من أقطاب العلماء. ولكن هل تصرفنا هذه المناورات عن معرفة رأيه في وحدة الوجود؟
الواقع أنه يدور حول هذه النظرية ويكاد يفصح عنها بقوله في الفصوص:
فلولاه ولولانا
لما كان الذي كانا
فإنا أعبد حقًّا
وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم
إذا ما قلت: إنسانا
فلا تحجب بإنسان
فقد أعطاك برهانا
فكن حقًّا وكن خلقًا
تكن بالله رحمانا
وغذِّ خلقه منه
تكن روحًا وريحانا
فأعطيناه ما يبدو
به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسومًا
بإياه وإيانا
وهو في الفتوحات يصل إلى هذه النظرية عن طريق التدرج في ترتيب الموجودات فيقول:
اعلم أن المعلومات أربعة: الحق تعالى، وهو الموصوف بالوجود المطلق؛ لأنه سبحانه ليس معلولًا لشيء ولا علة، بل هو موجود بذاته، والعلم به عبارة عن العلم بوجوده، ووجوده ليس غير ذاته، مع أنه غير معلوم الذات، لكن يعلم بما هو عليه من صفات المعاني وهي صفات الكمال، وأما العلم بحقيقة ذاته فممنوع لا يعلم بدليل ولا برهان عقلي ولا يأخذها حد، فإن الله سبحانه لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء، فكيف يعرف من يشبه الأشياء وتشبهه من لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئًا، فمعرفتك به إنما هي أنه ليس كمثله شيء … ومعلوم ثان، هو الحقيقة الكلية التي هي للحق وللعالم، لا تتصف بالوجود ولا بالعدم، ولا بالحدوث ولا بالقدم، إذ هي في القديم إذا وصف بها قديمة، وفي المحدث إذا وصف بها محدثة، فلا تعلم المعلومات قديمها وحديثها حتى تعلم هذه الحقيقة، ولا توجد هذه الحقيقة حتى توجد الأشياء الموصوفة بها، فإن وجد شيء من غير عدم متقدم كوجود الحق وصفاته قيل فيها: موجود قديم لاتصاف الحق بها، وإن وجد شيء عن عدم كوجود ما سوى الله تعالى وهو المحدث الموجود بغيره قيل فيها: محدثة، وهي في كل موجود بحقيقتها فإنها لا تقبل التجزؤ فما فيها كل ولا بعض، ولا يتوصل إلى معرفتها مجردة عن الصورة بدليل ولا برهان، ومن هذه الحقيقة وجد العالم بوساطة الحق تعالى، ولم تكن بموجودة فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم يثبت لنا القدم، وكذلك لتعلم أيضًا أن هذه الحقيقة لا تتصف بالتقدم على العالم ولا بالتأخر عنه، ولكنها أصل الموجودات عمومًا، وهي أصل الجوهر وفلك الحياة والحق المخلوق به، وغير ذلك، وهي الفلك المحيط المعقول، فإن قلت: إنها العالم صدقتَ، أو إنها ليست العالم صدقت، أو إنها الحق أو ليست الحق صدقت، تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم، وتتنزه بتنزيه الحق. وإن أردت مثالها حتى تقرب إلى فهمك فانظر في العودية في الخشبة والكرسي والمحبرة والمنبر والتابوت، وكذلك التربيع وأمثاله من الأشكال في كل مربع مثلًا من تابوت وبيت وورقة، فالتربيع والعودية يحققانها في كل شخص من هذه الأشخاص، وكذلك الألوان كبياض الثوب والجوهر والكاغد والدهان والدقيق، من غير أن تتصف البياضية المعقولة بالانقسام حتى يقال: إن بياض الثوب جزء منها، بل حقيقتها ظهرت في الثوب كما ظهرت في الكاغد، وكذلك العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وجميع الأسماء كلها. ومعلوم ثالث وهو العالم كله، الأملاك والأفلاك وما تحويه من العوالم والهواء والأرض وما فيهما من العالم وهو الملك الأكبر. ومعلوم رابع وهو الإنسان الخليفة الذي جعل الله هذا العالم المقهور تحت تسخيره.
فهذا الكلام هو القول بوحدة الوجود، وإن لم يعبر عنه باللفظة الاصطلاحية، فالحقيقة الكلية هي العالم وهي الحق (فإن قلت: إنها العالم صدقت، أو إنها ليست العالم صدقت، أو إنها الحق أو ليست الحق صدقت).
والقائلون: بوحدة الوجود يقولون: إنها لا تنافي أحدية الحق؛ لأن ما صدر عنه ليس إلا ضربًا من التعيُّنات، وهذه التعينات تتكثر وتتغير، ولكن الحق في أحديته لا يتكثر ولا يتغير، يقول القاشاني: «فإن تجلى في صورة أحديته الذاتية كان الله ولم يكن معه شيء وبطنت فيه الأعداد الغير المتناهية بطون النصفية والثلثية والربعية في الواحد، فإنها لا تظهر إلا بالعدد… وإن تجلى في صورة تعيناته ومراتب تجلياته أظهر الأعداد وأنشأ الأزواج، وتلك مراتب تنزلاته، وليس في الوجود إلا هو».
وقال ابن عربي:
فلولاه ولولانا
لما كان الذي كانا
أي: أننا جزء أصيل من الوجود، ولو ذهبنا لا نعدم الجزء الظاهر من الوجود، وظهوره لا ينفي أنه أصيل… ويقول ابن عربي أيضًا في ختام الفصوص:
قال تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، أي: لا أظهر له إلا في صورة معتقده، فإن شاء أطلق وإن شاء قيد، فإله المعتقدات تأخذه الحدود فهو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء؛ لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه: يسع نفسه ولا يسعها.
ومعنى ذلك أن هناك إلهين — وهما إله واحد — الإله الأول إله المعتقدات، والإله الثاني هو المطلق، والأول يسعه قلب العبد، والثاني لا يسعه شيء؛ لأنه عين نفسه وعين الأشياء.
وبقليل من التصرف نستطيع أن نحكم بأنه يقول: بوحدة الوجود ما دام الله عين الأشياء، وما دام العالم من الأشياء.
وقد بدا لابن عربي أن يفصل نشأة الخلق فقال:
بدء الخلق الهباء، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي ولا أن يحصرها لعدم التحيز. وممَّ وُجِد؟ وُجِد من الحقيقة المعلومة التي لا تتصف بالوجود ولا بالعدم. وفيم وجد؟ في الهباء. وعلى أي مثال وجد؟ على المثال القائم بنفس الحق المعبر عنه بالعلم به. ولم وجد؟ لإظهار الحقائق الإلهية. وما غايته؟ التخلص من المزجة فيعرف كل عالم حظه من منشئه من غير امتزاج، فغايته إظهار حقائقه ومعرفة أفلاك العالم الأكبر وهو ما عدا الإنسان، والعالم الأصغر يعني الإنسان روح العالم وعلته وسببه وأفلاكه ومقاماته وحركاته وتفصيل طبقاته … فكما أن الإنسان عالم صغير من طريق الجسم كذلك هو أيضًا إله حقير من طريق الحدوث؛ وصح له التأله لأنه خليفة الله في العالم. والعالم مسخر له مألوه، كما أن الإنسان مألوه لله.
والحقيقة المحمدية هذه مدهشة؛ لأنه يرد إليها كل شيء، فهي الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني، وهي لا تتحيز فلا يحصرها أين، ومفهوم جدًّا أن هذه حالة إلهية، والإنسان إله ومألوه في وقت واحد؛ هو إله لأنه يتصرف في الكون؛ وهو مألوه لأنه نشأ عن الحق: أي: أن له درجتين، درجة العبودية ودرجة الألوهية، أفيكون هذا كل شيئًا غير القول بوحدة الوجود؟
إن القائلين بوحدة الوجود ليسوا من الحمق بحيث يتصورون أن النسبة واحدة بين جميع الموجودات، ولا مفر لهم من الاعتراف بأن الحقائق تختلف، وأن بعض الموجودات أعظم من بعض، والمجذوب الذي وقف وقال: «أنا الله» لم يكن يفهم إلا أنه جزء من الحقيقة الأبدية التي لا تتصور بغير ما نشهد من الوجود.
وخلاصة القول: أن ابن عربي لا يعرف النظرية البسيطة نظرية التوحيد التي تقضي بأن الله منفصل كل الانفصال عن العالم، وأن نسبة العالم إليه هي النسبة بين «كن فيكون» ابن عربي لا يعرف الأحدية الذاتية إلا عن طريق الفرض، أي: حين يغض بصره فلا يرى الوجود، ولكنه حين يشهد العالم يقسمه إلى طبقات بعضها معلول لبعض، ويجعل الحقيقة المحمدية أصل ما في الوجود.
وهنا عبارة مريبة وهي قوله: بأن غاية الخلق التخلص من المزجة فيعرف كل عالم حظه من منشئة بغير امتزاج.
فما سر هذه العبارة؟ أيكون معناها أن العالم كان في ضمير الحق على نحو ما تكون الأشجار البواسق في ضمائر البذور؟
إن ابن عربي يكاد يفصح عن ذلك حين يقول:
كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، لم يرجع إليه من إيجاده العالم صفة ما لم يكن عليها، بل كان موصوفًا لنفسه ومسمى قبل خلقه بالأسماء التي يدعوه بها خلقه، فلما أراد وجود العالم وبدءه على حد ما علمه بعلمه بنفسه انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجل من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية، حقيقة تسمى الهباء، هي بمنزلة طرح البناء الجص ليفتح فيه ما شاء من الأشكال والصور، وهذا هو أول موجود في العالم … ثم إنه سبحانه وتعالى تجلى بنوره إلى ذلك الهباء، ويسميه أصحاب الأفكار بهيولي الكل، والعالم كله فيه بالقوة والصلاحية، فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء على حسب قوته واستعداده كقبول زوايا البيت نور السراج.
ومن هذه الفقرة نفهم أن ابن عربي متأثر كل التأثر بمذاهب الحكماء، ونعرف أنه بعيد عن بساطة التوحيد كل البعد، ونفهم أنه يضمر القول: بوحدة الوجود.٤٥
النابلسي والشعراني والقاشاني
بقي أن ننص على أن هذه المناورات التي اصطنعها محيي الدين كان لها أثر بليغ في عمق الثقافة الصوفية، فلو أن هذا الرجل كان أفصح عن غرضه بمثل ما أفصح الحلاج لشفى الناس صدورهم منه بالقتل، ولكنه حين آثر الرموز والإشارات فتح الباب أمام الدارسين من الصوفية والفقهاء فكانت كتبه مبعث نهضة أدبية قليلة الأمثال، وهذا بيت القصيد: فإن تصوف ابن عربي كان بليغ الأثر في حياة الأدب وحياة الأخلاق، ومن أجل هذا صح أن تكون له منزلة عظيمة في بناء هذا الكتاب.
إن ابن عربي لا تعرف أهميته في عالم الأدب والأخلاق إلا إذا فكرنا جيدًا فيما ترك من الثروة الأدبية والأخلاقية، يجب أن نتذكر أنه ترك ألوف الصفحات ومئات القصائد، وأنه راض اللغة على الطواعية للرموز والإشارات، وأنه علم الناس كيف يخوضون في أخطر الأحاديث ثم يسلمون، وأنه هضم ما درس من الفلسفة اليونانية ومن أصول الديانة اليهودية والديانة النصرانية والديانة الإسلامية، ثم أحال ذلك كله إلى مزاج من الفكر الفلسفي الدقيق يعز على من رامه ويطول.
ويجب أن نتذكر خطر المؤلفات التي صنفت في الرد عليه، أو الدفاع عنه، فتلك حركة فكرية لا يمكن إغفالها عند تقويم أثر ذلك الباحث الجليل.
تأثير ابن عربي في البيئات النصرانية
ولا يتسع المجال لبيان أثر ابن عربي فيمن جاء بعده من المفكرين، ولكن لا بد من الإشارة إلى شخصيات ثلاث كان له عليها فضل أي فضل.
الأولى شخصية عبد الغني النابلسي، وسنتحدث عن أشعاره الصوفية، وابن عربي له أثر بليغ في تكوين هذه الشخصية، وإن كان النابلسي في ذاته أضعف من أن يدرك ابن عربي تمام الإدراك.
والحق أن النابلسي مدين للعصر الذي نشأ فيه، فقد كان عصر انحطاط يستكثر فيه القليل، ولولا ذلك ما أمكن أن يلتفت إليه الناس.
الشخصية الثانية شخصية الشعراني، وهي شخصية جذابة كان لها في مصر مقام ملحوظ.
وُلد الشعراني في قلقشندة سنة ٨٩٨، ونشأ بساقية أبي شعرة، وهي بلدة قريبة من سنتريس، وإلى ساقية أبي شعرة ينسب الشعراني، ثم تفقه على علماء القاهرة. وشغل نفسه بالتصوف ففتن فتنة عظيمة بأدب محيي الدين. وألف في شرح آرائه كتابًا طريفًا سماه «اليواقيت والجواهر: في بيان عقائد الأكابر» واختصر كتاب الفتوحات. وتوفي — رحمه الله — سنة ٩٧٣.
والشعراني يحرص كل الحرص على تبرئة ابن عربي من فتنة القول: بوحدة الوجود أو بالحلول، وهو يصر إصرارًا جازمًا على أن مؤلفات ابن عربي أضيفت إليها زيادات أراد بها الدساسون تشويه سمعته في العالم الإسلامي.
والذي نراه أن الشعراني أسرف بعض الإسراف حين جعل ابن عربي من أهل السنة والجماعة، وحين نفى عنه ما يصدر عن مثله من الشطحات الصوفية، ولكن إسراف الشعراني مقبول؛ لأنه صدر عن إخلاص.
الشخصية الثالثة شخصية القاشاني شارح الفصوص المتوفى سنة ٨٨٧، وهذا الرجل يختلف عن الشعراني كل الاختلاف، فهو يفهم أن ابن عربي يقول: بوحدة الوجود، وهو يشرح الفصوص على هذا الأساس. وشرح القاشاني يستحق الدرس؛ لأن مؤلفه من المفكرين؛ ولأن فيه حقائق لا يطوف بها إلا قليل من العقول.
ولنذكر على سبيل المثال ميلاد عيسى عليه السلام، فإن القاشاني يكاد يجعله ميلادًا طبيعيًّا ويوافق ابن عربي في أن جسم عيسى خلق من ماء محقق من مريم وماء متوهم من جبريل سرى في رطوبة ذلك النفخ، ويقرر أن جبريل لما دنا من مريم في صورة البشر تحركت شهوتها بحكم البشرية؛ لأن أكثر هيجان الشهوة في النساء وقت النقاء من الحيض، وكان انتباذها للاغتسال وقت انقطاع الدم، وكان الوقت وقت غلبة الشهوة ففرحت بدنو هذا الشاب المليح فاحتلمت وجرى ماؤها مع النفخ إلى الرحم النقي الطاهر فعلقت، وخلق عيسى من ماء محقق من مريم وماء متوهم متخيل من نفخ جبريل؛ لأن النفخ من الحيوان رطب فيه أجزاء لطيفة مائية بالفعل مع أجزاء هوائية سريعة المصير إلى الماء.
ثم يقول:
وأما كون عيسى على صورة البشر فلانتسابه إلى أمه ولتمثل جبريل في صورة البشر السوي، فكان تكونه على السنة المعتادة والحكمة المتعارفة؛ ولأن أشرف الصور هي الصورة الإنسانية المخلوقة على صورة الله تعالى المكرمة عند الله؛ ولأن الله لا يتجلى في الحضرات الإيجادية إلا في صورة النوع الذي يوجده؛ ولهذا لما خمر طينة آدم بيده أربعين صباحًا كان متجليًا في صورة إنسانية.
وبقليل من التأمل نفهم أنه يكاد يصرح بالامتزاج بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الإلهية، وذلك هو القول بوحدة الوجود.
وجملة الأمر أن القاشاني يساير ابن عربي مسايرة تامة، ابن عربي الذي يعرفه هو، لا ابن عربي الذي يعرفه الشعراني، فإن الفرق بين الشخصيتين بعيد.
تأثيره في الجيل الحديث
ولكن هل وقف تأثير ابن عربي عند البيئات الإسلامية؟
لا، فقد سرى روحه إلى البيئات المسيحية ولون أفكارها بعض التلوين.
ويؤكد بعض المستشرقين أن دانتي تأثر بابن عربي حين نظم الكوميديا الإلهية، وأن معظم ما جاء به دانتي كان ألفه ابن عربي من قبل، وأن الرجلين يتشابهان في الصور والأمثال والاصطلاحات والأساليب الفنية. ومن المعقول أن يتفق اثنان في فكرة عامة، فهذا من توارد الخواطر، أما اتفاق اثنين في الفكرة والصورة فأمر لا يفسر إلا بالنقل أو المحاكاة.
«فالله عند كليهما (نور)؛ ولذلك فكل منهما يستعمل الانعكاس والشعاع والبروق والنورانية للتعبير عن مراده. و(تجلي) هذا النور موصوف بنفس التشابيه والمجازات. كما أن مثل الدائرة ومركزها لإظهار علاقة الخلق بالخالق ومثل المرآة كعلاقة للحقير مع العظيم التي استعملها ابن عربي كثيرًا ما نراهما في الكوميديا الإلهية».
وقد نسج دانتي على منوال ابن عربي في خواص الأرقام، وقد خصها ابن عربي في الفتوحات بفصول طوال. وتفسير الأحلام على الطريقة الصوفية نقله دانتي عن ابن عربي، فقد رأى دانتي ربه في منامه على هيئة شاب جميل في ثياب بيض، وابن عربي تجسد له ربه كما تجسد جبريل للرسول، وإن كان يجعل ذلك من صنعة الخيال فيقول:
ولقد بلغ بي قوة الخيال أن كان حبي يجسد لي محبوبي من خارج عيني كما كان يتجسد جبريل لرسول الله ﷺ فلا أقدر أنظر إليه، ويخاطبني وأصغي إليه وأفهم عنه. ولقد تركني أيامًا لا أسيغ طعامًا، كلما قدمت إلي المائدة يقف على حرفها وينظر إليَّ ويقول لي بلسان أسمعه بأذني: أتأكل وأنت تشاهدني؟ فأمتنع من الطعام ولا أجد جوعًا، وأمتلئ منه حتى سمنت وثملت من نظري إليه، فقام لي مقام الغذاء، وكان أصحابي وأهل بيتي يتعجبون من سمني مع عدم الغذاء؛ لأني كنت أبقى الأيام الكثيرة ولا أذوق ذواقًا ولا أجد جوعًا ولا عطشًا، لكنه كان لا يبرح نصب عيني في قيامي وقعودي وحركتي وسكوني.
ومن ملاحظات نيكلسون التي نقلها الطيباوي أن الذي يقابل ما كتب دانتي وما كتب ابن عربي يشهد اختلاط الشعر بالنثر عند الكاتبين، وقد بين رغبته في شرح قصائده في الحب كما فعل ابن عربي حين عزم على شرح قصائد «ترجمان الأشواق».
وذهب دانتي بعد موت حبيبته بياتريس (Beatrice) إلى مكان منفرد فصادفته فتاة جميلة هام بها ولم يقدر على البوح بحبه فنظم فيها قصائد غرامية، ولما ذهب ابن عربي إلى مكة هام بفتاة أصبهانية فنظم فيها قصائده «ترجمان الأشواق».
وقد يمكن أن يقال: إن حرص المستشرقين على تعقب الأصول الفكرية هو الذي حملهم على تجسيم قوة ابن عربي في سيطرتها على دانتي.
ولكن الذي لا يمكن نكرانه أن ابن عربي شغل الناس في عصره وبعد عصره، وكان النصارى في الأقطار الإيطالية والفرنسية والإسبانية يتشوفون إلى المعارف الإسلامية؛ لأنها في الأغلب كانت تمس المسائل الميتافيزيكية، وكان النصارى في القرون الوسطى يهتمون بهذه المسائل ويجعلونها محور المجادلات في الكنائس والديارات.
قد تقولون: وأين ابن عربي اليوم؟ أين آثاره في الأدب والأخلاق؟
ونجيب بأن لابن عربي منزلة عظيمة في أوساط المستشرقين، وما كتب عنه في دائرة المعارف الإسلامية يشهد بأنه عندهم من أعاظم الرجال. أما في مصر فلم أر من كتب عنه بطريقة جدية غير الدكتور أبي العلا عفيفي، في بحثين نشرهما بمجلة كلية الآداب وهما بحثان جيدان لا يعاب عليهما غير الغموض. ولكن أثره في الجماهير الإسلامية خمد منذ زمان؛ ولم أسمع صداه إلا في مكانين، الأول: حين فتن به صديقي الأستاذ عبد الحفيظ خليفة، فقد حوله إلى رجل مجذوب، والثاني: حين اصطفاه أستاذنا الشيخ محمد شاكر فجعل فواتحه سجلًا لمواليد أبنائه النجباء، تيمنًا بما فيه من أدب ودين.
واقترحت مرة على الأستاذ الشيخ علي عبد الحميد مبارك أن ينتفع بكتاب الفتوحات في دروس الوعظ، فأجابني بأن مشيخة الأزهر تمنع ذلك: لأنها لا تريد أن تنقل إلى العوام دقائق علم التصوف، فقلت: انتفع بكتاب الإحياء، فقال: ولا كتاب الإحياء.
وهذا يشرح جانبًا من العقلية الدينية في مصر لهذا العهد، فالأزهر لا يريد أبدًا نشر الثقافة الصوفية، وهذه المقاومة هي في ذاتها مظهر من سلطة التصوف في عالم الأخلاق.
وقد حدث في العام الماضي (سنة ١٣٥٤هـ) أن فكرت مشيخة الأزهر في مقاومة التصوف مقاومة رسمية، وكتب فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي كتابًا في ذلك إلى وزير الأوقاف السابق سعادة عبد العزيز بك محمد، ولكن وقع أن رد عليه السيد عبد الحميد البكري بجواب فيه عنف، وكانت هذه المصاولة إحياء للاصطدامات القديمة بين الشريعة والحقيقة، وكانت بين المذهبين تراث سيرى القارئ بعض أخبارها في مقدمة القسم الثاني من هذا الكتاب.
أما بعد فقد آن أن نكتفي بما أسلفنا من الكلام في شخصية محيي الدين بن عربي؛ لأننا لا نكتب عنه كتابًا، وإنما نكتب فصلًا من كتاب، والإيجاز يطلب في بعض الأحوال.
ويكفي أن يتذكر القارئ أن ابن عربي سيشغل الناس ما دام في الدنيا إنسان يهمه درس التصوف الإسلامي، وسيشغل الناس ما دام في الدنيا إنسان يهمه الوقوف على ما صنع الذكاء في درس أسرار الوجود.
لا تقولوا: أخطأ ابن عربي أو أصاب، ولكن قولوا: إنه رجل قضى العمر كله في محاورة العقل ومناجاة الروح.
فإن لم يكن بد في ختام هذا البحث من شطحة أدبية تذكر بشطحات الصوفية، فإني أصرح بأن في آثار ابن عربي ما يقبل كل القبول، أو بعض القبول، إلا ديوان شعره فإنه فيما أرى لغو وفضول:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه
وسلام على ابن عربي بين أعلام الفكر وأقطاب البيان.
Hindawi