لماذا انهارت الأحزاب الشيوعية !؟
فؤاد النمري
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_من المفترض، حسب لينين، أن الأحزاب الشيوعية هي هيئة رئاسة أركان ألطبقة العاملة تقود حربها المتواصلة ضد الطبقة الرأسمالية حتى النهاية فلماذا انهارت والقانون العام لا يجيز انهيارها طالما أن البشرية جمعاء لا تحافظ على بقائها بغير الإعتماد على إنتاج العمال تخصيصاً . صحيح أن الطبقة العاملة خلال النصف الثاني من القرن العشرين تهشمت وتهمشت جرّاء “الأخطاء الحربية” الفظيعة التي قارفتها هيئة رئاسة أركانها، ولكن ذلك لِما ينبغي أن يؤدي إلى الانهيار الكلي للأحزاب الشيوعية حتى باتت جماعات ضيّقة في طور التحلل والاضمحلال تشحد سياساتها من البوجوازية الوضيعة وتنادي بالمساكنة الطبقية وبالعدالة الإجتماعية دون خجل أو حياء !؟
كان واضحاً أن تَراجع الأحزاب الشيوعية رافق تراجع الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، لكن تلك المرافقة ناجمة عن قصور في الوعي بالقانون العام للماركسية وهو نفس القانون العام للحركة في الطبيعة “المادية الديالكتيكية” فبغض النظر عن علاقة النظام السوفياتي بالإشتراكية التي تجوز نسبتها لماركس – علما بأن ماركس لم ينبس ببنت شفة عن الاشتراكية سوى اشتراطها بدولة دكتاتورية البروليتاريا – فقد أحاقت بالاتحاد السوفياتي جملة أخطار حقيقية تهدد الثورة الإشتراكية بالإنهيار أكدها ستالين في المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي في أكتوبر 52 حين كان الاتحاد السوفياتي أقوى قوة في الأرض حتى باعتراف القادة التاريخيين للعالم الرأسمالي، تشيرتشل وروزفلت . ذلك ما يتجاهله المتفرجون إن بقصد أم بغيره .
صاغ ماركس وإنجلز قوانين الماركسية كنظرية علمية للتطور الاجتماعي في البيان الشيوعي (Manifesto) قبل سبعين عاماً من وجود اتحاد سوفياتي، فهل لو لم يخلق الاتحاد السوفياتي بظروف خاصة تمثلت بمجريات الحرب العالمية الأولى التي كانت طارئة واستثنائية بمختلف المقاييس، وبتشكيل البورجوازية الروسية الهشة تآلف عريض يضم مختلف القوى الرجعية وإعلان حرب إبادة على البلاشفة في مارس 1918 وهم الذين انتفضوا في أوكتوبر 1917 بهدف استكمال الثورة البورجوازية في فبراير 1917، فهل كانت الماركسية على خطأ قبل أن يخلق الاتحاد السوفياتي!؟
الماركسية هي قراءة التاريخ كما هو، قراءة النفاذ الفعلي لقانون الطبيعة في المجتمعات البشرية فهي “كلية الصحة” قبل الاتحاد السوفياتي وبعد الاتحاد السوفياتي – يقرأ بعضهم التاريخ قراءة خاطئة وينسب خطأه لماركس !!
إذاً، لماذا انهارت الأحزاب الشيوعية بترافق وثيق مع انهيار الاتحاد السوفياتي ؟
نعم، بدا الترافق وثيق الصلة لأن الاتحاد السوفياتي في الخمسينيات وما بعدها لم يعد اشتراكيا والأحزاب الشيوعية المرافقة لم تعد شيوعية . وزير أمن الدولة لافرنتي بيريا دس السم في شراب ستالين على العشاء في 28 فبراير 53 وكانت التحقيقات تشير إلى تورطه في تنظيم الأطباء اليهود في مشفى الكرملين المتآمرين على صحة وحياة قادة الحزب والدولة، دس السم بالتعاون مع جورجي مالنكوف المرشح لخلافة ستالين ونيكيتا خروشتشوف المسؤول عن تنظيم الحزب، وهم الثلاثة الأقوياء في المكتب السياسي، ولما قاوم جسم ستالين التسمم لخمسة أيام أمر بيريا بحقن ستالين بحقنة الأدرينالين لتقتله في الحال في مساء 5 مارس . في اليوم الثتالي 6 مارس قرر المتآمرون خلافاً للقانون إلغاء انتخاب 12 عضواً جديداً في المكتب السياسي كان ستالين قد أصر على انتخابهم ؛ وفي يونيو خشي شريكا بيريا في جريمة اغتيال ستالين على نفسيهما من أن ينجح بيريا في تصفيتهما فدبرا اعتقاله ومحاكمته سرياً خلافاً للقانون وإعدامه حال النطق بالحكم . وفي سبتمبر 53 اجتمعت اللجنة المركزية وقررت إلغاء الخطة الخمسية الخامسة وتم حينذاك استبدال الأمين العام للحزب مالنكوف برجل الجيش المتعاون خروشتشوف . وفي يونيو 57 قام الجيش بانقلاب عسكري تم بموجبه طرد سبعة أعضاء من المكتب السياسي كانوا قد صوتوا على سحب الثقة من خروشتشوف . وفي العام 61 قرر مؤتمر الحزب إلغاء دكتاتورية البروليتاريا وتشريع المرابحة في دورة الإنتاج الداخلية .
في العام 1962 لم يبق في الاتحاد السوفياتي أي ملمح من ملامح الإشتراكية ومع ذلك استمرت الأحزاب الشيوعية على ولائها للحزب “الشيوعي” السوفياتي مما يعني أنها لم تعد أحزاباً شيوعية وحقَّ أن بنتظرها الفناء كما انتظر الاتحاد السوفياتي في العام 1990 – ولي أن أدكر هنا تأكيدي للرفيق الأمين العام المساعد الراحل فهمي السلفيتي في مايو 1965 أن ولاء حزبهم لعصابة خروشتشوف الحاكمة في الكرملين سيجعل منهم أعداء للشيوعية، وعليه تركت الحزب، الحزب الذي يعادي دكتاتورية البروليتاريا كما خروشتشوف .
انهيار الإتحاد السوفياتي حتى القاع في العام 1991 أكد دون لبس أو إبهام انهيار الأحزاب الشيوعية المرافقة وإفلاسها الفكري التام . غير أن الأحزاب التي تصر على انتحال اسم الشيوعية رفضت الاعتراف بهذه الحقيقة الدامغة متجاهلة مبدأ النقد الذاتي المقدس لدى لينين وظل يكذب بعضها بادعاء أنه في طريق تحقيق الشيوعية بعيدا عن النظام الدولي القائم، والبعض الآخر الذي رأى استحالة تحقيق الاشتراكية في ظل النظام الدولي القائم تحول إلى أحزاب إصلاحية تنادي بنفس أهداف البورجوازية .
الأحزاب الشيوعية وقد أخذت تنادي بـ “دولة الشعب كله” منذ العام 1961 لم يعد لها أدنى علاقة بالماركسية اللينينية التي تبدأ فعلها بمحو الطبقات المحظور بالطبع في ظل دولة الشعب كله . وهكذا تكون الأحزاب الشيوعية قد كتبت نهايتها المأساوية بأيديها .
التكوين العضوي للحزب الشيوعي هو أولاً تبني الحزب للفكر الماركسي الأمر الذي يدعوه للتعاون الوثيق مع مركز الثورة الإشتراكية العالمية موسكو وحزبها الشيوعي . النجاحات الباهرة التي حققها الاتحاد السوفياتي في الثلاثينيات وفي الحرب العالمية عملت على تبديل أولويات التكوين العضوي للأحزاب الشيوعية فبات الولاء للحزب الشيوعي السوفياتي له الأولوية على الإلتزام الفكري بالماركسية وساعد دون شك في مثل هذا التغير غير الطبيعي القصور الفكري الذي عانت منه عامة الأحزاب الشيوعية وهو القصور الذي لم يسعفها في اكتشاف خيانة الحزب الشيوعي السوفياتي لقضية الشيوعية رغم أن خيانته وصلت إلى حد إلغاء دكتاتورية البروليتاريا رسمياً في العام 1961 وهي شرط الإشتراكية الوحيد الذي اشترطه ماركس .
خيانة الحزب الشيوعي السوفياتي للثورة الإشتراكية بدءاً باغتيال ستالين في 28 فبراير 53 أدت إلى تآكل نفوذ الأحزاب الشيوعية وانهيارها التام مع انهيار الاتحاد السوفياتي , هروبا من مثل هذا المصير المأساوي من جهة، واستكمالاً لخيانتها الثورة الاشتراكية انتصاراً للخونة السوفييت من جهة أخرى إنتقلت هذه الأحزاب من مسار الثورة الإشتراكية إلى مسار التنمية البورجوازية حتى في بلاد لا يتواجد فيها طبقة بورجوازية حقيقية كالبلدان العربية .
صحيح أن النظرية الماركسية تتأسس على افتراض أن النظام الرأسمالي هو أول نظام عالمي تنتهجه البشرية ذو وحدة عضوية واحدة ذات مركز وأطراف وعليه فإن أي نظام اجتماعي بديل له لا بدّ وأن يكون نظاماً عالمياً ذا مركز وأطراف أيضاً الأمر الذي يقتضي بطبيعة الحال أن تكون الثورة الشيوعية موحدة عالمياً ذات مركز وأطراف . حدث لأمور خاصة واستثناية أن يكون مركز الثورة في موسكو بقيادة الشيوعيين البلاشفة فلا بدّ إذاً أن يعمل الحزب الشيوعي في أي طرف من أطراف الدنيا في تنسيق وتكامل وحدوي مع البلاشفة مركز الثورة في موسكو يوحدهما إنتهاج الثورة الشيوعية حيث تنتفي نفياً قاطعاً شبهات الولاء والعمالة حيث أن كليهما، المركز والطرف، يعملان لخير البشرية جمعاء .
الخطب الجلل الذي نزل بالمشروع اللينيني في الثورة الشيوعية العالمية هو خيانة الحزب المركز للثورة . قد يتحجج قادة الأحزاب الشيوعية في الأطراف أنهم لم يعلموا عن قيام أعضاء المكتب السياسي بجريمة اغتيال ستالين بالسم – قد نصدقهم لولا أن قادة فلول الأحزاب الشيوعية حتى اليوم لا يعترفون بتلك الجريمة – لكنهم علموا قطعاً كما علمت أنا من راديو موسكو في سبتمبر 53 أن اللجنة المركزية اجتمعت وقررت إلغاء الخطة الخمسية لأجل الإنفاق على التسلح وهو خيانة بلجاء إذ لا يجوز لأي جهة سوفياتية إلغاء مقررات المؤتمر العام للحزب كما أن إنتاج الأسلحة يتم على حساب التنمية الإشتراكية . كما علموا من راديو موسكو في يونيو 57 قرار اللجنة المركزية بطرد أربعة أعضاء من المكتب السياسي – وهم في الحقيقة سبعة – وهو مخالف للنظام . وإلغاء دكتاتورية البروليتاريا وهو بمثابة قطع رأس الثورة كان قرار المؤتمر الثاني والعشرين للحزب في العام 61 .
خيانة الحزب الشيوعي السوفياتي البلجاء للثورة جعلت من الأحزاب الشيوعية في الأطراف عملاء موالين خونة . هذا ما كنت قد أكدته في اجتماعي مع القائم بأعمال الأمين العام للحزب الراحل فهمي السلفيتي في مايو 65 . رغب السلفيتي أن أبقى في الحزب محتفظاً برأيي عن عصابة خروشتشوف ومناقشته مع القيادة فقط وليس مع كوادر الحزب ورفضت ذلك من غير أن يقطع الحزب موالاته لعصابة خوشتشوف واتخاذ موقف كموقف الحزب الشيوعي في رومانيا وهو ما رفضه السلفيتي مؤكدا أن ” الحزب الشيوعي في الأردن هو ليس أكثر من جمعية أصدقاء للإتحاد السوفياتي بغض النظر عن ماهية قيادته، هكذا بدأ الحزب وهكذا سيبقى ” . وكان جوابي له تحملت الكثير أنا وعائلتي من أجل أن أكون عضواً في حزب شيوعي وليس في جمعية أصدقاء ؛ وبذلك تركت الحزب وهو ما جرّ علي المحاصرة والإذلال والجوع والسجن ثانية دون أن أستنكر الحزب الشيوعي الذي أنكرني كما استنكره العديدون من رجال الصف الأول في الحزب في العامين 66 و 67 .
وأخيراً حكم لينين بأن “الحزب الشيوعي يخون الثورة مرة واحدة فقط” وأحكام لينين برهنت دائماً على أنها أحكام قاطعة في التاريخ .
الحوار المتمدن