السياسات العربية/الإسرائيلية بين طموح المنام العميق و أوهام اليقظة المعكوسة

محمد عبد الشفيع عيسى

شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_نعرف أن مشروعا استعماريا استيطانيا قام غصبا في قلب الوطن العربي –فلسطين- عام 1948، ونعرف أنه وجد أمامه من بعد قيامه صخرة صلبة صلدة ممثلةً في مصر العربية و قد قامت على ارضها ثورة، يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952، بدأت بحركة (مباركة) للجيش، وشرعت في تمامها عبر مراحل متدرجة وخطوات واثقة، و إن واجهتها في عديد الأحايين عثرات ثقال.

وضع المشروع الكياني (ذلك الصهيوني) نصب عينيه هدفا ثابتا، أن يعرقل خطى الحركة الثورية الناشئة في مصر العربية، نواة مثمرة لحركة للتحرر الوطني-القومي على الامتداد العربي العميق، من حولها شرقا وغربا وجنوبا. و عَمَد ( الكيان) إلى ضربها بطرق متنوعة، وجها لوجه، عبر سلسلة من المواجهات المباشرة، بدأت بالغارة الإسرائلية على غزة مساء 28 فبراير من عام 1955، و أخذت قسماتها الكالحة في بورسعيد عام 1956(العدوان الثلاثي بالاشتراك مع قطبيْ “القارة العجوز” بريطانيا وفرنسا). وما لبث الكيان الصهيوني أن عاجل مصر الثورية (بنجاحاتها الجليّة وعثراتها الثقال) بضربة مباغتة هجومية الطابع، على المطارات الحربية المصرية صبيحة الخامس من يونيو/حزيران 1967 عدوانا موصوفا. و أعقب الضربة انسحاب (كيفيّ) غير منظم للقوات المصرية من صحراء شبه جزيرة سيناء، بعد نزع الغطاء الجويّ عنها بعد ما حدث، فأسموها حرب يونيو أو حزيران..! و أُطلِق عليها تعبير ذائع، “النكسة”، تعبير ذو دلالة سلبية أكيدة، جاء في لحظة معينة، على لسان القائد في (خطاب التنحّي) الشهير أمسية التاسع من يونيو مباشرة، ربما لتوصيف الواقع اللحظي المأساوي آنذاك شحذا للهمم. وما لبثت أن (التصقت) التسمية بالعمل العربي سلبا لعشرات السنين، حتى الآن، برغم تجاوزها غير مرة. و لكن تلاعبت بها شرائح من النُّخَب العربية تلاعباً، ربما لتبرّر سلبيتها القائمة مع شيء من “الانهزامية” المزمنة. وما هي إلا أيام أو عدة أسابيع حتى نشب مسلسل المعارك العربية-المصرية المجيدة لبضع سنين، بدء بمعركة “رأس العش” قرب (بور فؤاد) يوم 1 يوليو 1967 حينما قامت “قوة الصاعقة” المصرية بالمنازلة البطولية لمحاولة احتلال الموقع من طرف المدرعات الإسرائيلية المهاجمة. على ذلك بدأت (حرب الاستنزاف) على مدى أربع سنوات (1967-1970). وفي غمار حرب الاستزاف تمّ إعداد العدّة لحرب دفاعية كاملة بدءً بالتسليح و إعادة بناء الهيكل البشري للقوات المسلحة من المقاتلين “المؤهّلين”، انتهاء بوضع خطة عبور المانع المائي لقناة السويس (الخطة جرانيت1)؛ كل ذلك أثناء حياة جمال عبد الناصر و حتى قُبيْل الوفاة عام 1970. و قد خيضت الحرب بالفعل، بعد ذلك، يوم السادس من أكتوبر 1973. و بعد 1974 حاولت إسرائيل أن تأخذ في ظرف (السلام) ما لم تستطع أخذه في ظرف الحرب، وشرعت في مداورة ومناورة الديبلوماسية و الإعلام والدعاية الخالصة. وهكذا كان، طوال عشرات السنين في (حقبة السادات-مبارك) المتطاولة، حتى قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011.

ولما قام الإرهاب الداعشي في سيناء لخمس سنين على الأقل (2014-2019)، كان للكيان دور خفيّ، خلال مواجهة متعددة الرؤوس والأبعاد، مستثمرا في ذلك، الواقع المفروض في سيناء بمقتضى (معاهدة السلام) لعام 1979 من حيث وضع شرائح أو مناطق متتابعة تبعا لمدى التسليح المفترض: حيث المنطقة” أ”: تعتبر مخفضة التسليح شرقيّ القناة (فرقة مشاة ميكانيكية حتى 230 دبابة و480 مركبة مدرعة وحتى 22 ألف فرد)- و المنطقة “ب” في الوسط تعتبر محدودة التسليح تتمركز بها وحدات الحدود- ثم المنطقة ” ج” التي تعتبر خالية من السلاح “العسكري” بمحاذاة الحدود وتنتشر بها قوات من الأمم المتحدة و قوات الشرطة المصرية. رغم ذلك، ويدها كانت مغلولة من قبل، إلى حدّ، كان لمصر ما أرادته من التسليح اللازم في مواجهة الإرهاب الداعشي؛ في محاولة مضنية لتعويض القصور الناجم عن أحكام “معاهدة السلام”.
بالتوازي مع ذلك، و بالتزامن مع ما يشبه “فض الاشتباك” مع الجانب الإسرائيلي بعد التخلص من التهديد الرئيسي للإرهاب الداعشي حوالي 2019، لم يعد لدى الكيان من ورقة يستطيع محاولة استعمالها في مواجهة الجانب المصري، فتحررت اليد المصرية على سيناء إلى أبعد حدّ ممكن.

حاولت مصر بعد ذلك الاستفادة من اكتشافات الغاز الخاص بها، قبالة الشاطيء المتوسطي، عبر تأسيس “منتدى الغاز لشرق المتوسط”، على أن تكون مصر بمثابة “مركز لوجيستي إقليمي للغاز” بين أعضاء المنتدى على الجانب الأوْسطيّ ¬-المتوسطيّ، بالمشاركة بعد ذلك مع قبرص واليونان، قبالة تركيا من الزاوية الاستراتيجية. ولم لا نقول أيضا قبالة إيران حيث تصعيد التنافس على الطرف الأقصى للخليج قريبا من العراق، بل و بالقرب من حليف خليجي لتركيا هناك؟ وكان الغرض المصريّ أن يقوم المركز الإقليمي اللوجيستي للغاز، بتجميع و إسالة الغاز الطبيعي ونقله وبيعه في الأسواق الأوربية و المتوسطية منها بالذات. ولكن إذا بالطرف الإسرائيلي في الفترة الأخيرة أخذ، فيما يبدو لنا، ينأي و يُعْرِض بجانبه، من وجهة نظرنا.

ولما لم تعد ثمة حاجة فيما يبدو لنوع من “الشركة” أو “الشراكة” مع مصر من وجهة النظر الإسرائيلية، فقد تلفّتت إسرائيل باحثة عن شريك أو شركاء في معركة تراها حاسمة ضدّ عدوّ لها بالذات، عدوّ حالّ و مفترَض معا، على رقعة الصراع الشرق –أوسطي بأوْجُهِه الاستراتيجية و العقائدية، و الاقتصادية أيضا (من بوابة النفط والغاز). هذا العدوّ هو إيران. إيران الثورة “الخوميْنيّة” منذ 1979 بعد إطاحة الشاه بيْدق أمريكا والصهيونية العالمية. تلك إيران التي برزت من بعد حروب الخليج الثلاثة في الثمانينات والتسعينات ومطلع القرن الجديد، قوة عسكرية ونفطية يُحْسب لها أكثر من حساب، وخاصة من بعد إزاحة العراق بفعل الغزو الأمريكي للعراق 2003 و تداعياته الكارثية ، و حلول إيران فيه إلى حد معين، بتفاهم ضمني أو صريح مع أصحاب الحوْل والطول فيه داخليا و خارجيا. بل و برزت إيران مشروع قوة نووية أيضا، سلمية بالفعل ربما، و حربية بالإمكان و لو على المدى البعيد، مع نوع من الاعتراف الجزئي بهذا الواقع بمقتضى “الصفقة” الدولية-الأمريكية لعام 2015 التي اشتملت على ضمان سلمية البرنامج النووي الإيراني مقابل رفع العقوبات الدولية و الأمريكية على إيران. و ذلك مما يهدد بكسر الاحتكار الإسرائيلي للقدرة التكنولوجية النووية على كامل الرقعة.. و ما أدراك بذلك..!

وما بالك لو عرفت أن إيران تحاول ان تصير قوة إقليمية كبيرة، إلى جانب تركيا على طرف مقابل، و التي تتدخل واجهتها الرسمية بجرأة تحسد عليها (أكاد أقول بغير احتراس وحذر) من أجل اقتسام سوريا باقتطاع شطر غنيّ منها، وفرض ما يشبه منطقة نفوذ شمال العراق، بل وقسمة ليبيا، و كذا اقتناص مناطق من مكتنزات الغاز شرق المتوسط.

تستثمر إيران من جهتها، ظروف الواقع السياسي والديموغرافي المعقد في الإقليم وتفاعلاته، خاصة بعد 2011، و التدخلات الأمريكية- الإسرائيلية وبعض الأطراف الخليجية، في سوريا بالذات، و كذا لبنان (مما قد يفسر ظاهرة “حزب الله”)، بل و كذلك في ليبيا أيضا. و مستثمرة (إيران دائما) في واقع فسيفساء الحالة السياسية، و خرائط الانتماءات “دون-القومية” من طائفية وغيرها، في بلدان عربية عدة، ربما من أبرزها مؤخرا: اليمن.

وعلى الرغم من الدعم غير المحدود الذي قدمه الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب إلى (الكيان) من أجل “شرعنة” ابتلاع الأرض الفلسطينية و الجولان السورية، إلا أن شراسة الصراع الإقليمي متعدد الأوجه و الرؤوس على رقعة الأوسط والمتوسط، قد كشفت الطبيعة القزمية-الطفيليّة لذلك الكيان في ميزان التاريخ والجغرافيا والاستراتيجيا جميعا. وإذا بالكيان وهو يتلمظ جوعا وعطشا، يجد من أمامه فرائس مقدمة كقرابين إلى الإدارة الأمريكية في عهدة “ترامب” بالذات، بعد ىمحاولة عبثية لاستبعاد مصر من دائرة النفوذ الإقليمي، و أبرزها فريستان. الفريسة الأولى كبيرة الحجم ثقيلة الوزن، يتحرك في فضائها الواسع العظيم طموح ذو طابع فردي، للأسف، بله “شخصيّ ربما. طموح غير مبرّر كأنّه في المنام العميق، للمشاركة من موقع قوة في لعبة الهيمنة الإقليمية”، وخاصة بغرض مواجهة من يعترض هذا الطموح في أكثر من نقطة من نقاط المتصل الجغرا-سياسي في غرب آسيا بالذات، مثل إيران. و الثانية فريسة أصغر من حيث الحجم، ولكن ثقيلة من حيث الوزن المالي والاستخباري، و ربما العسكري إلى حدّ ما، تحركها لدى البعض القليل “أوهام العظمة” في حال من “اليقظة الاستراتيجية المعكوسة”، إن صح التعبير. و الهدف “الأسطوري” للواهم بناء قوة ذات بعد إقليمي بل وعالمي-كونيّ، بغير مقومات حقيقية وفق معطيات أبحاث “قوة الدولة” في علم العلاقات الدولية.
وبناء على ذلك الطموح وتلك الأوهام، يتم نسج علاقة ملتبسة مع (الكيان). يقوم هذا الكيان برسمها و يسعى إلى إنفاذها لا يلوي على شيء، طامحا و متوهّما، من جانبه البائس، التأسيس لنوع من (الصهيونية العربية-الإسلامية) لا قدّر الله. محاولة مستحيلة على كل حال، كما هو واضح للعيان. فمن هو ذلك الذي يستطيع محو العروبة و الإسلام المؤتلف مع المسيحية الشرقية العتيدة؟ و منْ يستطيع محو التاريخ و الجغرافيا.. ؟

و إنّ غدا لناظره قريب.

الحوار المتمدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post توقّع العلاقات بين الولايات المتحدة والإمارات في ظل الإدارة الجديدة لجو بايدن
Next post مقامات- صالون ذهبي أعادنا لزمن الرقي –