إشكالية الذاكرة والخيال

علي محمد اليوسف- كاتب من الموصل

شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_من خلال ما أشار له فلاسفة عديدين في تلازم الذاكرة والخيال بوجهات نظر متباينة خلصنا إلى أنهما افصاحان يدركان بدلالة تعبيرهما عن (الزمان) بصورة متضادة متعاكسة, فالذاكرة تعبير استذكاري متجه نحو الماضي دوما ,يعاكسه تعبير الخيال متجها نحو سيرورة مستقبلية غائبة ليست موجودة في زمان مدرك الحضور.

بالحقيقة هذا التفريق المتعاكس بين اختلاف زمانية الذاكرة نحو الماضي , وزمانية الخيال نحو سيرورة مستقبلية هي اجتهاد لنا سبق لريكور ذكره بعبارة سريعة سرعان ما غادرها من حيث تكريسها الانفصال بين الذاكرة والخيال غير المتفق عليه . وحيث معظم الفلاسفة رغم هذا التعارض الشديد بين تحقيبين زمانيين مختلفين يذهبون الى تبعية الذاكرة للمخيلة أو تبعية المخيلة للذاكرة من ناحية أن الذاكرة هي زمان يحتوي زمانية الخيال في ارتباطهما المشترك بالنفس.
وذهب بعض الفلاسفة تأكيدهم أهمية ربط الذاكرة بالزمن الماضي في معرفة دلالتها حين تكون مرافقة لزمن مرّ, زمن مضى, عليه يمكننا استخلاص ثلاث نتائج من هذا المعنى ربما لا يأخذ بها بعض الذين يعاملون تجريد الذاكرة والخيال جوهرين لا علاقة تربطهما بالعقل بل هما ولا حتى تجريدين إدراكيين منفصلين يحتويهما العقل بالوصاية الفكرية عليهما :

  1. الذاكرة موضوعا تجريديا مدركا بدلالة وظيفته في ارتباطه المتلازم باستذكار وقائع وحوادث الزمان الماضي. والذاكرة في تجريدها من الخيال لا يبقى معنى لها كما يتضح معنا لاحقا.
    1. الذاكرة انشاء تعبيري تجريدي صوري صادر عن العقل في استذكار وقائع الزمن الماضي. ولا يقلل من هذا تنسيب الذاكرة الى النفس, الذاكرة لا تمتلك استقلالية المدرك المجرد ولا بأس من ربط النفس بها كما جرى ربط الخيال بها, ولا معنى لشيء يدعى ذاكرة مجردا عن دلالة ارتباطه بوقائع حدثت وجرت بالماضي. فالذاكرة هي تخزين تصوري لوقائع قبل كل شيء وهي تحقيب لزمن ماض جرى وحصل وغادر حضوره الآني الحالي.
    1. الذاكرة فعالية استذكارية ناشئة عن تفكير عقلي منتج لها ولا تمتلك هي خاصية استذكار وقائع الماضي من دون مرجعية الخيال العقلي . بمعنى الذاكرة التي تعتمد العقل في إنتاجه لها لا تكون موضوعا مجردا للعقل بذاتها. كما عندما تكون الذاكرة مبعثها استثارة نفسية لمدّخرات استذكارية مخزّنة ايضا لا يمنحها هذا غير صفة التجريد المرتبطة بتفكير العقل.الذاكرة والزمن علاقة الذاكرة بالزمن علاقة إشكالية في عدة أمور نحاول الإشارة لبعضها حيث يشير بعض الفلاسفة عن إشكالية الذاكرة بالإدراك قولهم ” البشر يشاركون بعض الحيوانات في الذاكرة المحضة, غير أن الجميع – البشر وبعض الحيوانات – لا يملكون الحس الإدراكي على أن الاسبيقية تتضمن بين القبل والبعد – يعني السابق واللاحق هما في الزمان ”
      هذا التعبير الملتبس المعنى بعض الشيء نجد في مناقشته أنه من الصحيح الذاكرة قسمة مشتركة بين البشر وبعض الحيوانات وليس جميع الحيوانات اشتراكهم في مرجعية العقل والذاكرة لذا لا يمكن للحيوان امتلاك فاعلية الاستذكار بمعزل عن فاعلية العقل بتزويد الذاكرة بهذه الخاصية الاستذكارية للماضي.

والحقيقة التي لا نقاش عليها أن البشر والحيوانات لا يمتلكون الحس الإدراكي للزمن في تجريده الاستشعاري غير المتحق عقليا, بمعنى إدراك الزمن كتجريد ماهوي قائم لوحده.علما أن الحس الإدراكي للزمن عند الحيوان معدوم تقريبا لا حسيا ولا تجريديا. بخلاف الإنسان الذي يدرك الزمن بدلالة غيره ممثلا بمقدار حركة الأجسام فيه.
الزمن لا يدرك بزمن يجانسه كون ماهية الزمن لا تقبل التجزئة ولا التقسيم تماهيا مع تعبير أرسطو لا يحد الزمان بالزمان.(لإيضاح المزيد عن هذه الجزئية أدعو مراجعة اكثر من مقال لي منشور على مواقع عربية عن الزمان بالمنظور الفلسفي آخرها كان بعنوان ( الزمان المطلق وهم الاتصال والانفصال).

ذاكرة الإنسان تدرك الزمان الأرضي الطبيعي كتقطيع افتراضي كتحقيب يقوم على أدراك مقدار ونوعية حركة الأجسام داخله. والزمان ماهية وصفات تعجز حتى بعض الحيوانات القريبة عقليا من ذكاء الإنسان إدراك الزمان بمقدار حركة الأجسام لا هي بذاتها ولا بدلالة غيرها من أجسام ترى حركتها لكنها تجهل زمانية تلك الحركة , الزمان تجريد يعرف ويدرك بدلالة قياس حركة غيره من الأجسام داخله, والمساواة بين الادراكين الحركة وزمانها بانفصال الحركة عن زمانها هو محال لا يدركه العقل. فهما غير متساويين بل ومختلفين. فحركة الجسم هو مقدار زماني, وليس زمانا مجردا يدرك وحده منفصلا عن حركة الأجسام داخله. كما أن إدراك الزمان كتحقيب يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل يكون في ارتباط حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس أيضا وعلاقة الأرض مع باقي أجرام المجموعة الشمسية تحديدا القمر.

المقصود التوضيحي أنت لا تستطيع إدراك حركة الشيء بمعزل عن إدراكك مقدار تلك الحركة زمانيا. لذا يكون إدراك حركة الشيء زمنيا لا يعني إدراك زمن تلك الحركة تجريدا زمنيا منفصلا عن حركة الشيء داخل الزمن. بمعنى الزمان محال إدراكه ماهويا إلا بدلالة حركة جسم تلازمه في داخله.

الزمن ماهية لا تدرك وغير قابلة لإدراك العقل كموضوع قائم بذاته مجردا. فإدراك الحيوان (الماقبل والمابعد) لحظتي الزمان الافتراضية غير المتحققة لا يدركهما الحيوان مطلقا بهدف إدراكه مقدار الزمن بل ولا إدراكه زمن موجودات الأشياء التي تشاركه وجوده الانطولوجي أيضا, والزمان حتى بالنسبة للإنسان يدرك تحقيب تعاقب الزمان بالقياس لحركة الأجسام ولا يستطيع الإنسان إدراك الزمان كماهية مجردة أو صفات نتيجة إدراكه مقدار حركة الأجسام في زمان لا يدركه لوحده كينونة مستقلة وجودا يمكن إدراكها من غير الحركة المادية في الزمن.

ذاكرة الحيوان في حال افتراضنا أنها تمتلك الاستذكار لأشياء من الماضي فهي لا تعي تحقيب الزمان الأرضي كما يدركه الإنسان كماض وحاضر ومستقبل. أي ذاكرة الحيوان لا تعي الزمن كتحقيب تسلسلي نظامي كما يعيه الإنسان ويتكيّف بموجبه. ذاكرة الحيوان تجد في الحاضر الذي تعيشه ولا تدركه عادة من السلوك المعتاد الذي لا يحتاج معه ذاكرة. والحيوان مثلا يشعر بتبدلات المناخ والبيئة من حوله لكنه يجهل أسباب هذه التغيرات المناخية ولماذا تحدث؟
حين يطرح أرسطو في كتابه ” الانطباعات” قوله ” أننا حين ندرك الحركة فأننا ندرك الزمن. غير أن الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة, إلا إذا حددناه. أي أذا استطعنا تمييز حركتين الأولى كسابقة والثانية كلاحقة, وفي هذه النقطة يتقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة ”

من الصائب الصحيح الظاهر من العبارة تعبير أرسطو قوله ” حين ندرك الحركة ندرك الزمن ” لكن التباس العبارة يكمن أننا ندرك الزمن بدلالة الحركة ولا يعني إدراكنا الزمن مجردا عن حركة الشيء المتحرك داخله. بمعنى أن أدركنا الزمان مجازيا مجردا في إدراكنا حركة جسم داخله, أننا نقيس مقدار الحركة لمعرفة زمن حركة تلك الاجسام وليس مقدار حركة الزمان بدلالة حركة الجسم. الزمان ماهية وصفات تجريدية ثابتة ليس لنا إدراك الماقبل كلحظة تسبق المابعد بغير دلالة حركة شيء…عبارة أرسطو التي مررنا بها في منتهى الدقة والصواب قوله ( الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة) بمعنى لا إدراك لزمن من دون ارتباطه بدلالة حركة جسم او شيء فيه. وإدراك الزمان لا يدرك باختلافه عن الحركة أيضا.
الزمان حتى في قياسنا اللحظة فيه يكون متعذرا من غير تعالقة مع حركة الأجسام كزمان مطلق ميتافيزيقي لا يمكننا إدراكه مجردا يمّثل نفسه كوجود ندركه وحده.وعندما نحاول وصول – تحقيق المستحيل الفيزيائي – حسب رغبة أرسطو تحديد زمانية الماقبل عن لحظة زمانية المابعد مجردتين عن حركة جسم ما نكون دخلنا تقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة حسب تعبير أرسطو, والسبب واضح لماذا؟
أولا لا يمكن تحديد لحظتين زمانيتين مجردتين عن حركة جسم يلازمهما. الزمان لا يدرك موضوعيا لا في كينونته المطلقة الكلية ولا في افتراضنا الخاطئ أننا نستطيع تجزئة وتقسيم الزمان إلى لحظات أو غير لحظات من غير دلالة حركة شيء يداخله زمانيا. من حيث اللحظة هي مقدار زمني لحركة شيء وليست اللحظة تجريدا زمانيا يمكننا حدّه وإدراكه بزمن. الزمان تجريد لا يدركه العقل لأنه ليس من صنع وابتداع ادراك العقل له كوجود ولا هو معطى انطولوجي متعالق وجودا بالطبيعة يدرك منفصلا بغير موجوداتها. بخلاف جميع التجريدات الإدراكية الأخرى التي يصدرها العقل وهو يدركها ويعيها لأنه صانعها وهي التي ندركها زمانيا كونها أصبحت تجريدا عقليا.
وعندما نقر بصحة اختلاف تحليل الذاكرة عن تحليل الزمان المشروطة بتحديد اللحظتين الزمانيتين(الماقبل والمابعد) اللتين من المحال تحققهما كما أوضحناه قبل أسطر قليلة, نجد حقيقة الذاكرة هي استذكار تصوري تجريدي لوقائع وحوادث وقعت في الماضي محفوظة بالذاكرة تستطيع الذاكرة استرجاعها الاستذكاري الناقص بتأثير عامل النسيان. وهذا التجريد يختلف تماما عن أمكانية أدراك عقل الإنسان للزمان مجردا عن الحركة التي يحتويها لجسم, في معرفته لحظتي الماقبل والمابعد. الإنسان ليس بمقدوره إدراك الزمان مجردا عن حركة الأجسام داخله. الزمان محال إدراكه تجريدا مفهوما أو موجودا لوحده فيزيائيا.

النفس والذاكرة
جرت محاولة فلسفية ربط الذاكرة والخيال بالنفس في تأكيد مقولة افلاطون بهذا المعنى, تلا ذلك تعبيرات فلسفية حول تعالق الذاكرة بالزمن مثل قول مونييه ” كل ذكرى تصاحبها فكرة الزمن” وقول سوراجي ” كل ذكرى تتضمن الزمان” وقول منسوب لأرسطو ” أن نكون في الزمان يعني أن يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا وبالنسبة للحركة, فإننا واقع كوننا في الزمان يعنى واقع أن نقاس في وجودنا” ” وتعلن النفس أن هناك لحظتين السابقة من جهة واللاحقة من جهة أخرى, عندها نقول هذا هو الزمان”

تعقيب : ربط الذاكرة بالخيال والنفس لا يغير من حقيقة أن مرجعية العقل تحدد كل شيء بالنسبة لهم ثلاثتهم كتعبيرات صادرة عن العقل. وربط الذاكرة بالماضي لا يجعل من الخيال تابعا للتعبير عن الماضي فزمان الذاكرة هو غير زمان الخيال والمخيلة. وتوضيحات أكثر نجدها في:
– الذاكرة ليست مصدر توليد المخيّلة, والذاكرة استذكار صوري لأفكار تجريدية في تعبيرها عن وقائع زمانية الماضي. وربط الذاكرة بالخيال قضية جدالية غير محسومة بين مؤيد داعيا لانفصالهما مثل بول ريكور ومن قبله برجسون , وبين داع لربطهما مثل العديد من الفلاسفة الذين يرون في أحدهما تعبير ضمني عن الآخر.فعندما نلفظ مفردة ذاكرة فالمفهوم الدارج أننا نقصد ملازمة الخيال لها.
– أن نكون في الزمان لا يكفي التسليم أننا أصبحنا يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا حسب أرسطو, هذا الافتراض يحتاج أدلة برهانية تصادقه لأننا ببساطة , لا نستطيع إدراك الزمن لوجودنا وذواتنا بدلالة طرف ثالث غير موجود يحكم ويراقب وجودنا في احتواء الزمان لنا, الزمان يقيس الحركة بوجود جسم متحرك وطرف ثالث غير الزمان وحركة الجسم به يقيس مقدار الزمن بالحركة وليس مقدار الزمان فينا الذي لا ندركه؟
صحيح جدا من الناحية الفلسفية نردد مع أرسطو أننا نقع في قياس الزمن لنا, لكن الأهم من ذلك هذا الافتراض ندركه بدلالة ماذا ودلالة من؟ المفروض الواجب هنا كي ندرك قياس الزمن لنا ولذواتنا وجود طرف ثالث لا هو الزمن ولا هو نحن الذي يتلبسنا الزمن. حضور الطرف الثالث محال تحققه ليؤكد قياس الزمن لنا كوجود انطولوجي تسبح أجسامنا داخل الزمان الذي يحتوينا ويدركنا ولا ندركه…
– من البساطة الافتراض أننا بمقدار ما نفتقد القدرة على هيمنة الزمان فهو أيضا يفتقد القدرة على التلاعب الحركي زمانيا بنا, الزمان يتبع حركة الأشياء داخله وليست الأشياء داخله تتبع إدراكية الزمان لها, فالإنسان وكافة الأشياء والموجودات لا تدرك الزمان يحيط بها إلا بدلالة (حركة) ليس للزمان علاقة باستحضارها بمقدار ما تكون الحركة خاصية الأجسام المراد قياس زمانها. بمعنى حركة الأجسام داخل الزمن لا يولدها ويخلقها الزمن خاصية داخل الأجسام المتحركة كي يدركها الزمن. فالإدراك يتحدد بحركة الأجسام خاصية لها داخل الزمان وليس بحركة الزمان الملازمة للأجسام وهي لا تمثل جزءا من تلك الأجسام.فحركة الجسم تصبح خاصية في تكوينه , لكن قياس مقدار حركة الأجسام الذي هو الزمن يكون طارئا لا يجانس الجسم ولا حركته لا بالصفات ولا بالماهية , بمباشر العبارة الزمان ليس وجودا ندركه كما ندرك وجود بقية الأجسام فيزيائيا انطولوجيا.
– ربط الذاكرة بالنفس يبرره بعض الفلاسفة إلى أن التذكر مبعثه انفعال نفسي, والذاكرة لا تستطيع تذكر وقائع الماضي من غير استثارة نفسية تحفز الذاكرة على انبعاث انطباعاتها التذكرية االمخزونة فيها. التساؤل هنا هل تكون الذاكرة هي الخيال نفسه ولا فرق بينهما؟ بدليل الذهاب إلى أن استذكار الماضي هو خاصية الذاكرة, وأفكار الخيال رغم أنها تحوي استذكارات واقعية ماضية, إلا أن الخيال يمثل تفكيرا مستحدثا أيضا لاعلاقة تربطه بالذاكرة في توجهه نحو المستقبل. هذا يجنبنا الوقوع في محذورين الأول أن الذاكرة ليست توليدا لأفكار الخيال, والثاني أن الخيال يمتلك استقلالية تفكيرية عن خاصية الذاكرة أنها لاتستطيع التعبير عن أفكار خيالية لم تكن مطبوعة بالذاكرة مكتسبة فيها كخبرة متراكمة زمنيا.
الذاكرة واللغة
من المسائل المهمة العالقة بموضوعة الذاكرة هو صورة التذكر الاسترجاعية لغويا. فالذاكرة بمقدار ما تكون افصاحاتها التذكرية أسترجاعا مبعثه الانفعال النفسي, لما سبق وأن انطبع عليها صوريا كخزين, ألا أن زمن الاسترجاع لأحداث الماضي ليست هي لغة التخزين الذاكراتي.غالبا ما يكون الاسترجاع التذكري هو الزمن الحاضر الذي يجعل من الاسترجاع التذكري للماضي منقوصا غير متطابق فيه لغة التصور الاستذكاري مع لغة الواقع الذي تكون عليه قراءتها كأحداث جرت في الماضي. لسببين الأول آفة النسيان التي ترافق الذاكرة , والثاني اختلاف لغة التعبير الزماني محاولة الربط الاستذكاري بين ماض وحاضر. بمعنى الوقائع الماضية رغم تقادم الزمن عليها تبدو أكثر أصالة حقيقية منها في حالة لغة الاسترجاع التذكري الناقص لها.
بهذا نكون وصلنا إلى نقطة مفصلية في توكيد حقيقة هيمنة الخيال على الذاكرة وليس العكس, حين نجد أن كل تصورات الذاكرة الاسترجاعية التذكرية أنما هي تصورات لغوية من صنع الخيال , وبغير هذه الملكة التي يمتلكها الخيال ولا تمتلكها الذاكرة, أنما يكون فيها الخيال يعيد نفسه استرجاعيا بتوسيله الذاكرة القيام بما يحمله الخيال من دلالات تعبيرية, وعليه لا يبقى هناك ما تلعبه الذاكرة بمعزل عن وصاية الخيال عليها.لكن هذا الاستنباط في مصادرة الذاكرة لصالح الخيال تصطدم بخاصية تمتلكها الذاكرة ولا يمتلكها الخيال ,فالذاكرة تتجه إلى استذكار كل ماهو واقعي تاريخي حدث في زمن ماض, في حين الخيال يمتلك أيضا ما لا تمتلكه الذاكرة من حيث هو يتجه نحو تحقيق حضور ما هو وهمي , غير واقعي, يوتوبي, وأحيانا غير موجود.. وأمام هذه المعضلة التي لا يمكن حلها إلا بالتسليم في استحالة فصل الذاكرة عن الخيال في القصدية التي تبدو لنا متناقضة لكن هي في حقيقتها متكاملة.
حقيقة الذاكرة وصدق التعبير
من خلاصة ما مر بنا وغيره كثير نجد أن عدم الثقة بكل من الذاكرة والخيال يرتبط بتقصيرهما المشترك في عدم صدقية كل منهما في التعبير عن موضوعه. فالذاكرة يشوبها النقص الملازم الأول لها في (النسيان) الذي تعجز الذاكرة التعبير عنه بصدقية موثوقة يمكن الأخذ بها. الناحية الثانية من تقصير الذاكرة هو أن أفكارها الاستذكارية ليست تنميطا نوعيا يشمل جميع الذين يحاولون استذكار نفس الوقائع من الماضي. فالذاكرة هي والخيال خاصيتان انفراديتان من ناحية الفاعلية الإدراكية, وهما بنفس الوقت خاصيتين متلازمتين من ناحية كونهما تجريدان إدراكيان في منظومة العقل الإدراكية. يتفاوتان من شخص لآخر نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية ترتبط بذاكرة كل شخص منفردا. فالذاكرة قد تمرض ويصيبها الوهن والضعف, وفي أوقات وشروط موضوعية تنشط, وهناك مقولة تذهب أن المسنين يملكون ذكريات أكثر من الشباب لكن عندهم ذاكرة تتذكر أقل.
لكن ما يتفق عليه الفلاسفة هو أننا لا نملك شيئا كوسيلة أفضل من الذاكرة متاحة لنا في استذكار الماضي كوقائع, الذي يجعلنا ندرك مسبقا وجود ماض بحاجة إلى إفصاح وتذكر له. ولا توجد وسيلة لكشف هذا الإفصاح غير الذاكرة. لكن هل معنى هذا اكتساب الذاكرة الصفة الانفرادية الموثوقية المطلقة بها؟ وهل ما تنقله لنا الذاكرة كاف للتدليل على مصداقية مطلقة لعملية الاستذكار؟ ينقل بول ريكور عن كتاب أرسطو “مابعد الطبيعة” مقولة شهيرة لأرسطو مفادها “الذاكرة من الماضي, والوجود الماضي يقال بطرق متعددة, فالوجود يقال على أوجه عدة”.4
يعبر بول ريكور عن هذا الإحراج المتسائل قوله لا يمكننا أماطة اللثام عن حقيقة ومصداقية الاستذكارات, إلا من خلال توسيط طرف ثالث يكون هيئة نقدية تعارض وتدرس وتقارن بين شهادات الذاكرة لإتاحة ما أسماه المرور الموثوق بين الذاكرة وبين التاريخ.5,
أما مسألة الطعن بمصداقية الخيال من ناحية المقارنة بينه وبين الذاكرة فنجد أن مساحة التشكيك بمصداقيته غير الموثوق بها نابعة أصلا من موضوع المعالجة التي هي من حصة الخيال في تصورات وهمية وأماني معلقة وسياحة فكرية في انتقالات اللاشعور غير المحدود لا تلتزم كما في الذاكرة شروط التفريق بين الشعور واللاشعور وبين الحقيقي والوهمي وبين الصادق والكاذب وغيرها من أمور يكون فيها خداع الخيال أصدق من التعبير عن الواقع الحقيقي للذاكرة في الكثير من الأحيان.
الذاكرة والتاريخ
يذكر بول ريكور كنت أعالج القطب القصصي للخيال في كتابي (الزمان والسرد), حين عارضت السرد الروائي الخيالي بالسرد التاريخي, أما الآن فعلينا أن نضع أنفسنا بالنسبة للقطب الآخر قطب الهلوسة, وكما أعطى برجسون طابعا دراميا إلى قضية الذاكرة عن طريق منهجه بالتقسيم والانتقال إلى الطرف الأقصى, علينا أن نعطي طابعا دراميا إلى موضوعاتية الخيال بأن ننظمها بالنسبة إلى قطبي القصصية الخيالي والهلوسة )
أن تواشج خاصية (الهلوسة) الوهمية رغم عقلانية الذاكرة التي تتسم بها,هي قسمة مشتركة بين الذاكرة والخيال معا. فالماضي بالنسبة للذاكرة هي نوع من الدراما المكتوبة على وفق نسق تاريخي يحترمه انتظام الزمن. وهو ملك مشاع لاستذكار الذاكرة بنفس الوقت الذي يكون فيه ساحة ملعب لهلوسات الخيال يصول ويجول فيه….الشيء أو الفارق الذي يتوجب الإشارة له في هذا التداخل الذاكراتي مع الخيال بالنسبة للماضي كدراما تاريخية هو (الزمن), ليس بالافتراق التقليدي أن الذاكرة هي توثيق زمن الماضي , والخيال يحسب على مداخلة تعبيره عنهما زمني الحاضر والمستقبل الذي يحاول تصنيعهما وتنبؤه في مستقبلهما.
الخيال حين يزاحم الذاكرة في منطقة وساحة نفوذها دراما تاريخية الماضي الذي من حقها الأرجح التعبير عنه, نجد الخيال بطبيعته اللاشعورية المهلوسة الفوضوية يتناول حقائق التاريخ بعيدا عن الانتظام الزماني في ضبط تسلسل الأحداث التي يكتنفها الزمن بانضباط عالي يحكمه التاريخ كتحقيب زماني يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل من الناحية التاريخية المتداخلة مع انتقالات الزمن من الماضي الى الحاضر والى المستقبل.
ميزة الذاكرة في تعبيرها عن السرد التاريخي التوثيقي تكون أكثر صدقية من محاولة الخيال التعبير عنه, فبالخيال يتم الإسقاط الوهمي, وغير المتوقع ,غير الحاصل على هذا السرد المحكوم بسلطة تنظيم الزمان لوقائعه تاريخيا بما لا تستطيع تلك الحوادث الخلاص والانفكاك من سطوة الماضي عليها.
نحن لو تحرينا الصدق والأمانة في تعبير الذاكرة عن تاريخية الماضي كسردية, وتعبير الخيال عن تلك السردية رغم أن الخيال بطبيعته هو تعبير جمالي فني, لوجدنا التداخل بينهما على أشده في تعبيرهما النقلي عن الماضي كتاريخ سردي نوعي متمّيز روائيا في حال جرى التوظيف النقلي على وفق أطر وانساق ومواصفات فنية جمالية نجدها تدفن ما ليس قابلا للانسجام الفني الأدبي من وقائع هي من اختصاص تاريخي سردي توثيقي صرف.الخيال يتمثل التاريخ الماضي دراما حقيقية في تعبيره الخيالي عنها اسقاطا فنيا, وهذا لا يمنح الذاكرة تفويضا مفتوحا في أنحيازها للصدق النقلي التمثلي ذاكراتيا لوقائع وأحداث يحكمها الزمن الماضي. تمنع الخيال دخوله المزارع الخاصة بالذاكرة.
كيف نميّز بين صدقية الذاكرة من صدقية الخيال في نقلهما دراما الماضي ليس كسردية تاريخية بل كدراما ممكن التلاعب بها لمقتضيات فنية مستلهمة من الماضي كتاريخ؟ كلاهما الذاكرة والخيال لا يمتلكان الصدقية التامة في التعبير النقلي لوقائع التاريخ منفردين ولا حتى متكاملين لأسباب تتعلق بأن السرد التاريخي يمتاز بصفات من الواقعية الاركيولوجية التي تجعل من الذاكرة والخيال التعبير الخالص التام عن تلك الوقائع مشكوكا به ناقصا أو مشوّها.
المخيلة تحتاج الذاكرة , والذاكرة تحتاج الخيال, لذا أذا أردنا توّخي الجمالية الفنية في نقل وقائع التاريخ دراميا, نكون بحاجة إلى تمرير الاندماج المتكامل بينهما, فالذاكرة لا تنقل دراما التاريخ الماضي بأسلوب السرد الذي تحكمه الوقائع ولا تستطيع هي التحكم فيه, ويوجد فرق كبير بين السرد الروائي الخيالي عن السرد التاريخي الواقعي.
لذا نصبح أمام قبول حقيقة تفرض نفسها أن الذاكرة ليس بمقدورها نقل دراما التاريخ الماضي بنوع من السرد التوثيقي أكثر من حفريات الاركيولوجيا الذي هو من مهام عالم التاريخ والآثار والانثروبولوجيا التي تقف معها الذاكرة عاجزة عن مجاراة تمثيل منطق الحفر الاركيولوجي التاريخي. فالواقع على الأرض يكون والحالة هذه يدمغ كلا من الذاكرة والخيال بالابتعاد التام عن مشغل حفريات التاريخ بما هو تدوين توثيقي مصدره الأساس التنقيبات الحفرية وليس التنظير الفلسفي. كل ما يتم التعبير عنه كادراك لغوي لا ينجو من استهداف القصدية السيئة له. التي تحاول صهر حوادث التاريخ بسبيكة تجمع الحاكم كسلطة تعلو التاريخ ورغبته تدخل على تجيير مصداقية الوقائع التاريخية له.
قصدية أدراك وقائع الماضي استذكارا صادقا محايدا لا ينجو من السطو السلطوي الحاكم الذي يرغب جعل نقل أصالة التاريخ مطواعا لتمرير كل سوءات ومظالم حاكمية سلطة الحاضر الجائرة. يعبر بول ريكور عن هذه الازدواجية قوله “الذاكرة مهددة بشكل كلي في استهدافها الصادق للحقيقة عن طريق سوء الاستعمال”,

المجلة الثقافية الجزائرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post إحراق سيارات في احتفالات رأس السنة ببروكسل
Next post السلطات الفرنسية مستمرة بحربها ضد الإسلام الراديكالي