وين حوش بو سعدية ؟ مازال لقدام شوية …

الاعلامية :غادة الطبيب

شبكة المدار الاعلامية الاوروبية …_زواية خاصة تطل علينا الاعلامية اللبيبة غادة الطبيب كل يوم اربعاء
يمر الزمن ،يترك بصماته على الشوارع وعلى حارات المدينة القديمة الغارقة في لعبة الضوء والظل ، ينساب طابور الصبية في زقاق قوس الصرارعي بحثا عن حوش بوسعدية.
يضربون باقدامهم الصغيرة ارضية الزنقة ،تتشابك اياديهم وتتلاحم على اكتافهم في محاكاة لطابور طويل وكأننا يا بلدي محكومون بلعنة الطابور منذ سنوات .
يخترق صوت الغناء اذن النانا عواشة فتهزج … مازال لقدام شوية ..
يغيب الصوت ويظل الصدى يتمخطر في الأزقة القديمة ولا احد يعلم حقا من هو بوسعدية وأين منزله ؟
ذاك الرجل القادم من اريتريا المزين بالدناديش وعلب الصفيح الفارغة ، المرتدى ملابسه بفرح اللون الخام النقى القادم من سوق الترك ، المتماهى مع الخليط الليبي الفريد حد الانصهار ، حتى اصبح رديفا للطفولة في زمن كانت فيه الوجه الآخر للفرح ..
يمضى طابور الأطفال ويحث الخطى صوب النضوج وتظل النانا عواشة في سقيفة البيت تقلى حبيبات الكاكاوية على الكانون ،تتمهل في طقوس اعدادها كدأب جميع النسوة في ليبيا ، تفرش لها ارضية من الملح النقى الأبيض كفراشية لم تلبس قط ، توزع حبيبات الكاكاوية وتداعبها بكاشيك السبولة تمرجحها يمنة ويسرة فتتقاذفها اركان الإناء.
طقس شتائي عتيق تتقنه الليبيات ويتفنن فيه تماما كفن اعداد الشاى أو الشاهى الذي يستلزم طقوسا مقدسة لابد من اتقانها ..


تبدأ الطقوس من الغرفة الشتوية المتخمة بالسجاد العجمى الثقيل والمنادير (كما ينطقها الليبيون بفتح الميم وكسر الدال وتسكين الراء ) بالكسوة الشتوية من الكاتفة كما يطلق هنا على قماش المخمل أو القطيفة ، وستائر الراقام البيضاء التى تغطى النوافذ المربعة الواسعة.
تتوسط النانا المجلس بردائها الثقيل أو حولى اللانا بألوانه الزاهية وأمامها عالة الشاهى السلستين بلونها المعدنى البراق ربما كان الوقت هو آخر اهتمامات الليبيين لذلك يستغرق اعداد الشاى ساعات تمتد وتتطاول خاصة في فصل الشتاء فهذه الطاسة الأوله وهذه الثانية وهذه الثالثة باللوز أو الكاكاوية فلا شئ قادر على سرقة هذه الساعات المقدسة.
تصفر الريح خارج الغرف الدافئة وتفتح السماء الرمادية الداكنة ابوابها للمطر فتفتح شهية ساكنى هذه الأرض لما لذ وطاب .
لا ابهى ولا اجمل من سفرة الحلويات التقليدية وهى تتوسط مجلس العالة بألوانها الذهبية والبنية والبيضاء المغطاة بذرور السكر الناعم كثلج غريان .


تختلط الروائح المتسللة من البيوت ولكنها تتشابه ، يفور الشاي ويطلق بخاره الندى ويمنح الغرفة دفئا اضافيا ، تغمر الجالسين رائحة السمن والعسل واللوز المنبعثة من الحلويات وتستفز الحواس رائحة العصيدة بقبتها المائلة للون الذهبي الفاتح المغمورة في رب التمر الأسود اللامع كالسرايا يوم أن كان يحدها البحر ويناوشها ..
تتلمظ الافواه وتسرع الايدى للاقتناص ،كل هذا والشتاء يزمجر في الخارج ويغرق الشوارع والزقاق بالمطر بينما تغرق البيوت في غيمة من العطر تدوخ الحواس وتدعو باتريك زوسكيند وجان باتيست بطل روايته للخجل ..
تتكدس الشوارع والدكاكين بثمار البرتقال أو الليم ، برتقالية لامعة باوراق خضراء ندية تفترش الطرق ، يقودك الاعجاب بها لابتياعها حتى ولو كان الثمن آخر (عشرة في جيبك ) يهطل عليها المطر فيزيدها لمعانا وبهاءا ، يقف الصبى بمعطفه الواقى من المطر بجانب بضاعته ، يحرك قدميه ويفرك يديه طلبا للدفء وينادى على مشترى لبضاعته ، يغوى صوته المارة فيتوقفون واحدا تلو الآخر ، يحيطون باللوح الخشبي المحمل بالثمار ، يتحدثون ويمزحون وكأنهم اصدقاء منذ زمن ، لن تعدم ان ترى هذا المشهد في اى مكان هنا فالألفة والبساطة والحميمية هى ما يميز هذا الوطن .


دقائق تجمعهم او ساعات في طابور ما كفيلة بجعلهم معارف واصدقاء وكأن ذاك الاختلاف الذي يتحدثون عنه مجرد غيمة صيف عابرة .
تمتلأ الأكياس بثمار البرتقال و يسكن القصدل على استحياء في ركن كيس ورقي صغير وتتربع البطاطا الحلوة على القمة كملكة شتوية متوجة لا تطيب ليالي الزمهرير إلا بها ..
يعود العم أحمد بتسكين الحاء والدال وفتح الميم تماما كما ينطق الاسم هنا ،على استحياء ، إلى بيته في الحارة القديمة ، يرن جرس دراجته منذ بداية الزقاق ، يحثها على الاسراع فالطقس بارد والشتاء لايرحم والروح بحاجة إلى الدفء..
يخبو الضياء شيئا فشيئا وتغلق الدكاكين ابوابها ، تظل رائحة الخبز عالقة في الهواء تدفئ قلب المارين الذين تخلفوا عن لمة العالة تمام الخامسة ، تهدى أولئك الضالين في الصقيع من روحها وتمنيهم بعودة ربما امست مستحيلة.
يتسرب الضوء من النوافذ مصحوبا بهمهمات النانا وزوجها على عالة الشاهى ،راميا إلى اسماع الأرواح التائهة المتلصصة من خلف الشباك بصوت مسلسل الثامنة الأردنى قبل أن يخترق الصحن الهائل اسطح البيوت ويجمع كل انسان بنفسه بعيدا عن الجميع .


تكاد هذه الصور ان تتلاشى من الذاكرة ، أن يستحيل لونها باهتا مشوها ، نتمسك بما تبقى منها ، نتشبث به نستجدى زمنا مضى وربما لن يعود وتظل الصبية تجدل ضفيرتها البيضاء وتغنى … ينسوك لا ينسونى .. كيف تنتسى وإنت ربيع عيونى
ويظل درويش الحارة يركض خلف طيف (عمى عبد الله الوراق ) وسط الدهشة المحيطة به ، يركض ويركض مناديا.. وين خليت النول يا وراق ؟ ولذلك حكاية أخرى يطيب ذكرها قريبا
غادة الطبيب

مصطلحات

الكاكاوية /الفول السودانى
كاشيك السبولة /ملعقة للأكل عليها شعار سنبلة لايخلو بيت ليبي منها
عالة الشاهى /آنية واباريق لصنع الشاى
العصيدة /اكلة تقليدية ليبية تصنع من الدقيق وتؤكل مع دبس التمر والعسل والزبدة
حولى لانا /رداء تقليدي ترتديه النساء في ليبيا شتاءا
منادير /نوع من الفرش
حوش /منزل
عواشة /تصغير لاسم عائشة تحببا
النانا /لقب يطلق على السيدة قديما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post مسألة استقالة الحكومة الهولندية على الطاولة
Next post مسابقة كأس إيطاليا بكرة القدم