سبب تخلف المسلمين ليس الإسلام ولا الاستعمار”، بل:”سلطوية تحالف مشؤوم بين رجال الدين والدولة”
موسى باغراتش
ترجمة: رائد الباش
شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_عن كتابه “الإسلام، السلطوية والتأخُّر” حصل الباحث الأمريكي من أصل تركي أستاذ علوم السياسة بجامعة أمريكية أحمد ت. كورو على جائزة الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية 2020، وفيه يتتبع تطور تاريخ العالم الإسلامي وأسباب مشكلاته المعاصرة. خبير التربية الإسلامية بألمانيا موسى يشهد العلماء والباحثون من مختلف الأطياف بأنَّ العالم الإسلامي يعيش في أزمة عميقة. العنف والسلطوية والتخلف الاجتماعي والاقتصادي هي مشكلات واضحة للجميع. وفي المقابل فإنَّ الباحثين بعيدون كلَّ البعد عن الاتِّفاق على أسباب هذه المشكلات.
يقول البعض أن الإسلام دين يمجد العنف ويشجِّع على استخدامه وهو غير إنساني وغير قادر على مواكبة ركب الحضارة، وهو بالتالي متأخِّر ومتخلف. بينما يرى آخرون أنَّ سبب بؤس المنطقة يعود إلى الاستعمار الغربي، الذي تم معه استغلال جميع موارد العالم الإسلامي السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدرجة عدم تمكُّنه من التعافي من هذا الاستغلال حتى اليوم.
في كتابه الإسلام السلطوية والتأخر , توصَّل أحمد ت. كورو -وهو أستاذ أمريكي من أصل تركي لمادة العلوم السياسية- إلى نتيجة مختلفة لسبب تراجع العالم الإسلامي إلى المرتبة الأخيرة في العالم عندما يتعلق الأمر بالديمقراطية والتقدُّم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والتعليم وحقوق الإنسان، بعد أن عاش عصرًا ذهبيًا مذهلًا خلال العصور الوسطى.
وبحسب أطروحة الأستاذ أحمد ت. كورو فإنَّ المسؤول بشكل أساسي عن سلطوية العالم الإسلامي وتأخُّره هو التحالف المشؤوم بين علماء الدين ورجال الدولة.
وبهذا يعارض كورو الرأي المنتشر بين أعداء الإسلام القائل إنَّ الإسلام هو المسؤول عن بؤس البلدان الإسلامية. ويردّ على هذا الرأي بأنَّ هذا الدين نفسه أنتج حضارةً لا مثيل لها في الفترة بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلاديين. فخلال هذه الفترة أصبح العالم الإسلامي مركزًا للتنوير والعلوم والأبحاث والفنّ والثقافة.
ويرفض كورو أيضًا أطروحة الاستعمار التي تميل جزئيًا إلى الرومانسية وتَعْتبِر الغربَ مسؤولًا بشكل أساسي منذ القرن التاسع عشر عن البؤس الحالي في الشرق. ينظر كورو إلى الاستعمار كنتيجة وتفاقم للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت موجودة من قبل في العالم الإسلامي.
وينفي كورو أيضًا أنَّ الحروب الصليبية والغزوات المغولية أدَّت إلى الاتِّجاه نحو التدهور والانحدار. وبدلاً من ذلك، يُلاحظ أنَّ المسلمين استعادوا بسرعة قواهم العسكرية والسياسية وتعافوا من هذا الدمار الساحق، ولكن من دون أن يُقدِّموا في الواقع أية مساهمات تستحق الذكر في العلوم والأبحاث بعد ذلك. وبهذا يبقى -بحسب رأي كورو- التحالفُ المشؤوم بين علماء الدين ورجال الدولة هو السبب الرئيسي للانحدار.
نهاية العصر الذهبي
عاش العالم الإسلامي عصره الذهبي في الفترة بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلاديين. يُبرز الكتاب هنا طبقتين اجتماعيتين باعتبارهما محرِّكًا للتنوير والعلوم والحضارة، وهما: المفكِّرون والتجار. كان المفكِّرون (العلماء والفلاسفة والفقهاء) مستقلين ماليًا أو بإمكانهم الاعتماد على الدعم السخي من التجار. وبالتالي فقد كانت سوق الأفكار تتَّسم بتنوُّع ومنافسة حيوية.
بيد أن هذه الحيوية بدأت تتغير بالتدريج منذ منتصف القرن الحادي عشر الميلادي مع أزمة اقتصادية طويلة الأمد. ردَّت على تلك الأزمة السلالةُ العباسية الحاكمة (750 – 1258) بتوزيعها أراضي الإقطاع على الجنود، مما أدَّى إلى صعود الأرستقراطيين العسكريين كطبقة حاكمة جديدة.
واصلت دول السلاجقة الأتراك ومن بعدهم العثمانيون عسكرة هيكل الدولة. وكان لذلك آثار بعيدة المدى بالنسبة للتجار والمفكِّرين. ومع إضعاف طبقة التجار، وقع المفكِّرون في أزمات مالية. وفي الوقت نفسه، أنشأ السلاجقة المدارس النظامية (الجامعات) الحكومية، التي دخل معها العلماء شيئًا فشيئًا في خدمة الدولة.
رسَّخ العالم الإسلامي الغزالي (1111 – 1055) – بصفته أبرز ممثِّلي المدارس النظامية – فكرة أنَّ الدولة والدين توأمان. وقد بشَّر هذا بميلاد التحالف بين علماء الدين التقليديين ورجال الدولة، مما أدَّى إلى ركود فكري.
ما يشبه الفصل بين الدولة والدين
ولكن ماهو سبب إصرار أكثر من تسعين في المائة من علماء الدين على ما يشبه الفصل بين الدولة والدين خلال الخمسة قرون الأولى من التاريخ الإسلامي؟ يذكر كورو في هذا الصدد التأثير الصادم للحروب الأهلية الإسلامية (معركة الجمل عام 656، ومعركة صفين عام 657)، التي أدَّت إلى إقامة ملكية وراثية وبلغت ذروتها في اضطهاد أحفاد النبي. ولم يكن العلماء لا في عهد الأمويين (660 – 750) ولا في عهد العباسيين مستعدِّين للتخلي عن استقلاليتهم، وحتى بعد سجنهم وتعذيبهم مثل أبي حنيفة (699 – 767) أو ابن حنبل (780 – 855).
البلدان الإسلامية اليوم متضرِّرة أكثر بكثير من مناطق العالم الأخرى بالحروب والأزمات والظلم والتخلف . وقد انتشرت قراءات رجعية للإسلام فاقمها الاستعمار وباتت هي السائدة.
يشرح كورو كيف كان ممكنًا حدوث ذلك من خلال سرده مواقف النُخب العسكرية والدينية في الدول الإسلامية. فعلى سبيل المثال: لقد تأخَّر إدخال الطباعة إلى العالم الإسلامي نحو 280 عامًا كاملة بسبب المقاومة الكبيرة من قِبَل النخب الدينية.
تدهور التعليم
وعمل هذا على تسريع وتيرة تدهور التعليم لدرجة أنَّ نسبة المسلمين القادرين على القراءة كانت تصل بحلول عام 1800 في الدولة العثمانية إلى واحد بالمائة فقط. بينما كان يستطيع في الفترة نفسها واحدٌ وثلاثون بالمائة من السكَّان في أوروبا الغربية القراءة والكتابة. لم يتعافَ العالم الإسلامي حتى اليوم من تراجع التعليم هذا.
ويشرح كورو لماذا تمكَّنت أوروبا من النهوض مع انحدار متزامن للشرق بأنَّ في أوروبا اضطر الأرستقراطيون العسكريون ورجال الدين إلى مشاركة سلطتهم مع طبقة صاعدة من المفكِّرين والتجار. بينما عمل في العالم الإسلامي تحالفٌ من رجال الدولة ورجال الدين على تهميش المفكِّرين والتجار.
غير أنَّ كورو يشدِّد على عدم إمكانية وجود اختلافات جوهرية بين الدول الغربية والإسلامية. لأنَّها تعتمد جميعها على تفاعل أربع طبقات: الدولة ورجال الدين والمثقَّفون والطبقة الاقتصادية.
ويقول أن أي بلد يشهد ازدهاراً حضارياً بمجرد أن يصبح المفكرون والفاعلون الاقتصاديون مبدعين ومنتجين وأحراراً ولكن بدلًا من الاعتماد على إمكانيات هذه الطبقات، كانت الإصلاحات في العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر سلطوية يتم فرضها من أعلى، ولهذا السبب فهي لم تحقِّق أي نجاح مستدام حتى الآن.
ولم يتغيَّر أي شيء في ذلك حتى عندما قام رجالُ الدولة باستبدال رجال الدين المعارضين للإصلاح ببيروقراطيين علمانيين. ونتيجة معارضة هذه الجهود الإصلاحية المفروضة من أعلى، تشكَّلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر والثورة الإسلامية في إيران ومؤخرًا النظام الشعبوي الإسلامي في تركيا. وجميعهم أعادوا التحالف بين الدولة والدين.
وعلى أية حال لا يمكن للإصلاحات أن تُثمر من دون الحرِّية الفكرية والاقتصادية. وهكذا تتحوَّل الجغرافيا إلى قَدَر.
قنطرة