الإنترنت والثورة في مصر

حسام الحملاوي

شبكة المدار الإعلامية الأوربية …_تمر علينا الذكرى العاشرة لاندلاع الثورة، وربما تصحبها كعادة كل عام منذ الانقلاب دعوات على الإنترنت للنزول إلى الشوارع ولمظاهرات مليونية لإحياء الثورة.
وتنتشر أوسمة على منصة تويتر مدعمة بجيش من اللجان الإلكترونية، ليتصدر الوسم قائمة الترند، ويضج الصخب في قنوات «الجزيرة» و«مكملين» و«الشرق» عن الوسم (الهاشتاج) الفلاني «الأعلى تداولًا في مصر»، ويتسابق المذيعون والمحللون في سرد توقعاتهم بانتفاضة الشعب المصري الوشيكة.
ويصبح قسم التعليقات في صفحات الحركات والأحزاب السياسية على فيسبوك هدفًا لحملة مسعورة من حسابات مزيفة وحقيقية تدعو القوى السياسية للاتحاد وتبني دعوات النزول، مع تخوين ونقد قاس لمن يرفض أو يدعو لبدائل عن الثورة الفورية.
وعادة ما ينتهي اليوم باستجابة ضعيفة أو عدم الاستجابة على الإطلاق، مصحوبة بسخرية وسائل إعلام المخابرات من “فشل مخططات الجماعة الإرهابية” وشماتة الحسابات التابعة للنظام (المزيفة منها والحقيقية) على منصات التواصل الاجتماعي بوسمهم الشهير #محدش_نزل.
ويسود شعور بالإحباط بين من توقعوا انتفاضة، وتتناثر اتهامات ضد الشعب المصري بـ”الجبن” و”أخلاق العبيد” أو وصم الحركات السياسية بالتخاذل والتقاعس.
أصبح ذلك طقسًا يتكرر بحذافيره ليس فقط في يناير بل في كل مناسبة وذكرى تتعلق بالثورة. ويطرح ذلك المشهد المتكرر أسئلةً حول ما هو دور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في الحشد والحراك الثوري؟ هل هو فضاء افتراضي لا صلة له بالواقع؟ لماذا نجحت الدعاوى الإلكترونية في السابق في تحريك الجموع ولكنها تقف عاجزة الآن؟
إصرار البعض على تكرار نفس السيناريو كل عام وفي كل مناسبة رغم فشله يعود لعدد من الأسباب، قد يكون منها قلة الحيلة وانعدام البدائل تحت القمع الوحشي، ولكن سببًا رئيسيًا هو خطأ السردية السائدة عن ثورة يناير وشرارة اندلاعها، وهي بالضرورة مرتبطة أيضًا بالسردية المشوشة لما حدث في 6 أبريل 2008.
وسنحاول في هذا المقال عرض دور الإنترنت في الحراك السياسي في سنوات ما قبل الثورة وخلال أحداثها، عبورًا على بعض المحطات المهمة التي قد تشرح لنا دور تكنولوجيا الاتصالات في الحراك والحشد بدون تهويل أو تقليل.
2000 – 2004: البدايات
تعود بدايات استخدام الإنترنت في العمل السياسي بمصر إلى العام 2000، مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. استخدم النشطاء المصريون البريد الإلكتروني (الإيميلات) لتداول أخبار الانتفاضة والصور ومقاطع الفيديو للمواجهات بالأراضي المحتلة، مع نشر قوائم مقاطعة البضائع الإسرائيلية والشركات الداعمة للاحتلال، وتحديثات بأسماء معتقلي حركة التضامن، والإعلان عن الفعاليات التي يتم الاتفاق عليها سواء مؤتمرات التضامن في النقابات المهنية أو الوقفات الاحتجاجية في محيط الجامعات أو الميادين.
وبالتوازي مع النشاط المتزايد عبر شبكة الإنترنت، كانت الهواتف المحمولة وسيلةً أخرى لنشر أخبار الانتفاضة والتحديثات بتوقيتات وأماكن فعاليات التضامن عن طريق خدمة الرسائل القصيرة SMS.
وبتفعيل خدمة الـ Yahoo! Groups في 2001، وانتشار المنتديات، خلق هذا التطور منصات وهامش أوسع يستطيع من خلاله النشطاء ومستخدمو الإنترنت بشكل عام النقاش والسجال حول القضايا الراهنة، ونشر أخبار الفعاليات.
من الصعب تحديد بدقة عدد المواقع السياسية المصرية المعارضة على الإنترنت في تلك الفترة، ولكنها كانت قليلة العدد عمومًا، ومعظمها كان ينتمي لحركات الإسلام السياسي. وكان من المواقع البارزة آنذاك موقع «المرصد الإعلامي الإسلامي» الذي كان يديره ياسر السري من لندن، وركز على أخبار المعتقلين في السجون وعمليات الخطف والترحيل القسري التي قامت بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قبل وبعد هجمات 11 سبتمبر. وأنشئت بعض أسر الإخوان الطلابية بالجامعات مواقع لها أيضًا.
وقد يكون مهما التأكيد على بعض النقاط بخصوص تلك الفترة:
أولًا: كان إنتشار الإنترنت محدودا جدا بين قطاعات الشعب المصري، ويكاد يكون مقتصرًا على أهل المدن من أبناء الطبقة البرجوازية وبعض شرائح الطبقة الوسطى، ممن لهم القدرة المادية على شراء حواسب آلية وتحمل التكلفة المادية لخدمة الإنترنت عبر الـ dial-up ولاحقًا الـ ADSL الأكثر سرعة. فتشير إحصاءات الاتحاد الدولي للاتصالات إلى أن بحلول عام 2000 كانت نسبة مستخدمي الإنترنت من الشعب المصري أقل من 1٪ (وعلى وجه الدقة 0.64٪).
ثانيًا: دعاوى المظاهرات وتنظيم الفعاليات لم ينشأن في الفضاء الافتراضي ثم ينفذان على أرض الواقع. كانت الفعاليات يُتفق عليها في اجتماعات في مقرات الأحزاب والنقابات المهنية وساحات الجامعات، ثم يعلن عنها ويتم الحشد عبر شبكات العلاقات السياسية التقليدية للحركات السياسية والنقابية والطلابية. ويأتي الإخطار عن طريق رسائل الـ SMS والبريد الإلكتروني كإضافة دعائية لما تم الاتفاق عليه بالفعل على أرض الواقع، وليس العكس.
ثالثًا: رغم انتماء الكثير من النشطاء لتنظيمات وأحزاب وحركات، لم تكن هناك إستراتيجية واضحة للتعامل مع الوسيط الجديد، وغلب طابع المجهود الفردي والعفوية على مستخدمي الإنترنت في النشاط السياسي.
2004 – 2008: «كفاية» وثورة المدونات
بعد حراك استمر 3 سنوات حول قضايا إقليمية (التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية ومناهضة الحرب على العراق)، انتزعت المعارضة المصرية تدريجيًا وبتضحيات كبيرة (منها الاعتقال والتعذيب والفصل من الوظائف) هامشًا صغيرًا للعمل العام في الشارع لم يكن متاحا في تسعينيات القرن الماضي.
وبدأت بوصلة الحراك السياسي أيضًا تتجه لقضايا محلية مثل مناهضة التعذيب وقانون الطوارئ، وهي قضايا لم تكن مغيبة في السنوات السابقة، ولكنها لم تكن تتصدر الخطاب السياسي بشكل مركزي. وأضرب هنا مثالًا للتوضيح: كانت الدعاوى للمظاهرات في السنوات السابقة بوضوح ترفع شعارات التضامن مع فلسطين والعراق، وكان يتم الحشد على هذه القضايا. ولكن بعد دقائق قليلة من إنطلاق المظاهرات كان قمع قوات الأمن المركزي كافيا لتتحول بوصلة المتظاهرين للتنديد بالقمع في مصر وغياب الحريات وتوحش الشرطة، ووصل الأمر للهتاف ضد حسني مبارك نفسه في انتفاضة جامعة القاهرة في أبريل 2002 وفي مارس 2003 في ميدان التحرير. ولكن يظل المحرك الرئيسي للفعاليات التضامن مع القضايا الإقليمية (1).
جاءت نقطة التحول في 26 يونيو 2004، بالدعوة لوقفة احتجاجية أمام مكتب النائب في اليوم العالمي لمناهضة التعذيب، للمطالبة بوقف التعذيب في أقسام الشرطة ومقرات أمن الدولة وللمطالبة بالتحقيق في الانتهاكات. قد يبدو الأمر حدثًا عاديًا لمن لم يعاصر تلك الفترة، ولكن من عاصروها يدركون جيدا إنها كانت تطورًا نوعيًا لم يكن يجرؤ أحد على الدعوة إليه في التسعينيات مثلًا.. أن تدعو لتظاهرة في قلب القاهرة ضد الشرطة. وليس من قبيل المصادفة أن منظمي الوقفة كانوا هم نفس النشطاء من اليسار والحقوقيين الذين خاضوا بشجاعة معارك حراك التضامن مع فلسطين والعراق في السنوات السابقة.
وواكب التطور النوعي في الخطاب وبدء تحول البوصلة للقضايا المحلية انطلاق عدد من المبادرات والحملات ضد استمرار حسني مبارك في الحكم وضد توريث الرئاسة لابنه جمال، الذي كان يصعد بسرعة الصاروخ لقيادة الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم.

توحدت تلك المبادرات لاحقًا تحت مظلة حركة «كفاية» التي نظمت أولى وقفاتها الاحتجاجية في 12 ديسمبر 2004 أمام مكتب النائب العام.
واكب بزوغ كفاية على الساحة 3 تطورات مهمة:
أولًا: زيادة معدل انتشار الإنترنت (أنظر/ي المنحنى البياني) نتيجة لمبادرات، أشرف عليها أحمد نظيف أثناء توليه حقيبة وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ثم رئاسة الوزراء لاحقًا، طورت من البنية التحتية للاتصالات في مصر. لم تكن تلك الخطوات بالضرورة هدفها الرفاهية والارتقاء بحياة المواطنين بقدر ما هي ضرورية كحد أدنى لأي اقتصاد حديث يسعى للتنافس في القرن الحادي والعشرين.
ثانيًا: بدأت المدونات في الظهور بمصر، وقدر عددها في نهاية عام 2004 بما لا يزيد عن 30 مدونة. كانت معظمها مدونات شخصية بحتة، يدون أصحابها تجاربهم الحياتية وخواطرهم، أو عن مواضيع تقنية، وبعيدة كل البعد عن العمل السياسي المعارض، بل وكان البعض معاديًا للسياسة حسب تعبيرهم ويرون الحركات السياسية الموجودة عديمة الجدوى ولن تؤدي لأي شيء، واكتفوا بالانعزال في مساحتهم الخاصة في العالم الافتراضي.
ولكن ذلك تغير سريعًا بعد أحداث «الأربعاء الأسود» 25 مايو 2005، ذلك اليوم المشؤوم الذي أطلق فيه الحزب الوطني -بإشراف من الداخلية- بلطجيته لسحل المتظاهرين في وسط القاهرة وللتحرش بالمتظاهرات والصحفيات. كان من ضحايا الاعتداءات عدد من المدونين، الذين دفعتهم الأحداث وهول ما رأوه في هذا اليوم إلى الانخراط في العمل السياسي ودعوة باقي رفاقهم إلى الانضمام لصفوف المعارضة بالتنسيق مع كفاية.
بجانب مشاركتهم في الفعاليات أخذ المدونون زمام المبادرة في حركة «شباب من أجل التغيير»، وضخوا دماءً جديدة وتكتيكات غير مألوفة حملت طابعًا ساخرًا أحيانًا، مثل تنظيم مظاهرة “كنس السيدة” بالمقشات وغيرها. ولعبوا أيضًا دورًا مهمًا في تغطية الحراك بالصورة والفيديو، في محاولة لخلق إعلام بديل، وتوثيق عنف الشرطة ضد المتظاهرين وكافة الانتهاكات التي كان يتجاهلها إعلام النظام. وكان البعض منهم هدفًا للتنكيل الأمني والاعتقال خصوصا إبان قمع الدولة للحراك المتضامن مع استقلال القضاء في 2006.
خلقت المدونات مساحةً حرة حقيقية في الفضاء الافتراضي لمناقشة قضايا كانت من المحظورات المجتمعية، مثل التحرش الجنسي، وحقوق المرأة ومجتمع الميم، واضطهاد الأقباط، والتعذيب في أقسام الشرطة، وحطمت هيبة صنم مبارك وعائلته.
قد يكون هناك إجماع من النشطاء والمتابعين لشؤون العمل السياسي بمصر حول مدى أهمية وقوة المدونات في تلك الفترة، ولكن يغيب عن البعض آليات ذلك التأثير. هل كانت المدونات مؤثرة بسبب جمهورها الواسع؟ الإجابة هي نعم ولا في آن واحد.
فمن ناحية لم تتعد نسبة المصريين مستخدمي الإنترنت في 2005 حسب الإحصاءات الرسمية 12.75٪ وارتفعت في عام 2008 إلى 18.01٪، ولا يوجد أي دليل على أن غالبية مستخدمي الإنترنت (وهي نسبة كانت لا تزال ضئيلة من الشعب المصري) كانت تتابع بشغف المدونات السياسية، والتي ارتفع عددها إلى حوالي 150 مدونة حسب تقديرات النشطاء آنذاك.
وفي الأيام التي كانت المدونات تغطي أحداثًا ساخنة كانت الزيارات على مواقعها بالآلاف، وقد تتعدى العشرة آلاف، وهي في النهاية أيضًا نسبة ضئيلة للغاية من إجمالي الشعب المصري.
ولكن قوة تأثير المدونات في عصرها الذهبي أتت من نوعية متابعيها وليس بالضرورة عددهم، ومن الزواج غير الرسمي بينها (كإعلام جديد) من ناحية والإعلام التقليدي من ناحية أخرى. حظت المدونات آنذاك باهتمام الصحفيين العاملين بالجرائد والفضائيات داخل مصر وخارجها، وأيضًا باهتمام الباحثين الأكاديميين والدبلوماسيين في شتى أرجاء العالم الذين يلعبون دورًا في تشكيل الخطاب السياسي بمجتمعاتهم وتوجهات حكوماتهم. فكانوا يتلقفون ما يكتبه المدونون على مواقعهم وينقلونه لجرائدهم ولقنواتهم التي يتابعها الملايين داخل وخارج ومصر. وانتعشت في تلك الفترة الجرائد والفضائيات الخاصة التي كانت تتيح هامشًا أوسع من الهامش التقليدي لماسبيرو في متابعة الفعاليات السياسية المعارضة (2). وكان المدونون ضيوفا على شاشاتها في مواقف عديدة.
وتوطد ذلك الزواج غير الرسمي لاحقًا بانتقال أعداد من المدونين إلى العمل بوسائل الإعلام الصحفية، وإطلاق بعض الصحفيين مدوناتهم الخاصة.
ولعبت المدونات دورًا حيويًا أيضًا في التواصل بين النشطاء في المحافظات المختلفة، الذين لم يكن ليتعارفوا وينسقوا نشاطهم السياسي لاحقًا إلا بعد تواصلهم عبر الإنترنت.
ولكن وجب التأكيد مرة أخرى أن الفعاليات التي كان المدونون يشاركون فيها أو ينظموها كان يُتفق عليها في اجتماعات في مقرات الأحزاب والنقابات المهنية أو مقاهي وسط القاهرة، وبعد ذلك يستخدمون مدوناتهم للترويج لما تم الاتفاق عليه. أي مرة أخرى كان النشاط السياسي على الأرض في العالم الواقعي يسبق أي دعاية في العالم الافتراضي.
وظل النشاط على الإنترنت والمدونات رغم ضلوع أعضاء الأحزاب والتنظيمات السياسية المختلفة فيه عفويا ولا يتبع إستراتيجية تنظيمية واضحة (3).
6 أبريل 2008: خرافة إضرابات الفيسبوك
اجتاحت البلاد موجة قوية من الإضرابات العمالية بعد انتصار إضراب عمال غزل المحلة في ديسمبر 2006. كان لقوى اليسار دورٌ محدود -في بداية الهبة العمالية عفوية الطابع- تنامى بمرور الوقت، ولكن بشكل عام كانت موجة الإضرابات مستقلة عن كافة القوى السياسية.
ولكن أيضًا لا يمكن تجاهل العلاقة غير المباشرة بين تشجع العمال على التحرك والحالة السياسية العامة التي خلقتها «كفاية» والحراك الديمقراطي في السنوات السابقة. أتذكر في محادثات مع بعض القيادات العمالية قبل 2011 سؤالي لهم عن أين كانوا وقت مظاهرات «كفاية»؟ فكان جوابهم أنهم كانوا يشاهدون باندهاش بالغ على شاشات الفضائيات والجرائد الخاصة المتظاهرين الذين يمزقون صور مبارك في وسط القاهرة.
بعد سلسلة من الإضرابات والمظاهرات، خرج عمال غزل المحلة في مظاهرة حاشدة تطالب برفع الحد الأدنى للأجور في 17 فبراير 2008، وهددوا بتنظيم إضراب يوم 6 أبريل، في حال عدم الاستجابة لمطالبهم.
وتواصل عمال المحلة آنذاك مع القوى السياسية المعارضة طالبين التضامن مع حراكهم. وهنا تلقفت القوى السياسية دعاوى التضامن وقرر البعض منهم الدعوة لإضراب عام في البلاد. وتشجع بعض الشباب الذين نشطوا سابقًا في «شباب من أجل التغيير»، مثل أحمد ماهر، وأسسوا جروب على الفيسبوك بنهاية شهر مارس للتضامن مع عمال المحلة بالدعوة لإضراب عام في نفس اليوم. وسريعًا انضم عشرات الآلاف من المصريين لعضوية الجروب في وقت قياسي.
وجاء يوم 6 أبريل، واحتلت الشرطة المصنع وانتشر أفراد جهازي مباحث أمن الدولة والأمن القومي بعنابر وساحات الشركة، واعتُقل عدد من القيادات العمالية فأُجهِض الإضراب. وفي باقي البلاد، لم تحدث أي تحركات أو إضرابات، سوى مظاهرة صغيرة بنقابة المحامين وسط القاهرة، ووقفات احتجاجية استمرت لدقائق في غزل كفر الدوار ومطاحن جنوب القاهرة، وبعض المسيرات الطلابية في عدد من الجامعات.
أي باختصار لم تفشل فقط الدعوة للاضراب العام بل فشلت أيضًا في مصنع غزل المحلة نفسه!
أما التحركات التضامنية التي نظمت في الجامعات فلم تكن عفوية، بل نظمها الطلاب الاشتراكيون، وفي غزل كفر الدوار والمطاحن كانت هناك عناصر فاعلة لليسار حاولت تنظيم حركة تضامنية ولكن لم تستطع حشد أعداد تذكر. أي في النهاية لم يلعب فيسبوك أو الإنترنت أي دور في تلك الأحداث.
ولكن يتناسى الجميع عن قصد أو عن حسن نية التفاصيل المذكورة أعلاه، لأن في ظهر اليوم، بعد خروج الوردية الأولى من المصنع، اندلعت اشتباكات ومواجهات بين الأمن والأهالي الذين تجمهروا منذ الصباح بالقرب من المصنع منتظرين بداية الإضراب. شرارة الاشتباكات تظل مثار قصص مختلفة، وقد تكون كلها صحيحة، فهناك رواية بأن المدينة انتفضت بعد تسرب أخبار اعتقال قيادات الإضراب المجهض، وهناك رواية أخرى بأن المواجهات بدأت بعد اعتداء شرطي على سيدة في ميدان الشون كانت تهتف ملتاعة منددة بارتفاع الأسعار، وهناك رواية ثالثة بأن الاشتباكات بدأت بعد اعتداء شرطي على طفل.
في كل الأحوال، غطت أحداث الانتفاضة -التي استمرت يومين في مدينة المحلة تخللها تحطيم صورة مبارك ودهسها تحت أقدام أهالي المحلة- على فشل الدعوة للإضراب العام. وسارعت وسائل الإعلام لنسب الفضل في الأحداث لجروب الفيسبوك. وحتى يومنا هذا تظل السردية السائدة أن «عمال الغزل والنسيج بالمحلة انتفضوا يوم 6 أبريل 2008 بعد الدعوة للإضراب العام على الفيسبوك»! تلك السردية نجدها في الكتب وفي الإعلام وكثيرون داخل مصر وخارجها يتعاملون معها كحقيقة تاريخية، في حين لم يحدث إضراب في المصنع أو في أي مكان بالبلاد، وكان وقود الانتفاضة هم أهالي المدينة المنتمين لفئة فقراء المدن والعمال، ولكن ليس عمال مصنع غزل المحلة! لقد استمرت عجلة الإنتاج بالمصنع بل وتعرضت أتوبيسات عمال الشركة لهجوم بالحجارة من بعض الأهالي الغاضبين التي اتهمت العمال آنذاك بالتخاذل لعدم حدوث الإضراب.
وهنا بدأ مصطلح «نشطاء الفيسبوك» في الظهور في وسائل الإعلام، ويبدو أنهم صدقوا السردية التي نسبت لهم الفضل في الأحداث، فدعوا لـ«إضراب عام» آخر يوم 4 مايو 2008 بالتزامن مع عيد ميلاد مبارك. ولم يحدث شيء. وكرروا الدعوة في يوم 23 يوليو (وهو إجازة رسمية!)، وفي العام التالي، أطلقوا نفس الدعوة في 6 أبريل وفي 4 مايو 2009 ولم يحدث شيء! وتكررت دعاوى الإضراب العام في الفضاء الافتراضي وعلى صفحات الفيسبوك خلال تلك الفترة وفي مواقف مختلفة من جهات أخرى صدقت نفس السردية، وكانت المحصلة على الأرض صفر!
بات الأمر أشبه بالنكتة وسط إصرار البعض على الاستمرار بهذا النهج، ولكن جاء عام 2011 ليعيد مرة أخرى إلى الصدارة الحديث عن «ثورة الفيسبوك».
25 يناير 2011: ثورة فيسبوك؟
صُورت ثورة يناير 2011 كـ«ثورة شباب الإنترنت» أو «شباب الفيسبوك» أو «شباب تويتر» في الإعلام المحلي والدولي سواء. ونفس الصورة بتنويعات مختلفة قدمتها دراسات وكتب تناولت «الربيع العربي».
حسب تلك السردية، فإن الثورة المصرية قامت كردة فعل على عنف الشرطة وبالتحديد مقتل الشاب خالد سعيد، وأن الثورة نُظمت عبر صفحة «كلنا خالد سعيد» على الفيسبوك، التي أطلقت شرارتها من بدعوة للتظاهر في مدن مصر بالتزامن مع عيد الشرطة في 25 يناير وفي أعقاب الإطاحة بالدكتاتور التونسي بن علي. ونجد هنا أصداء السردية السائدة عن 6 أبريل 2008 بحذافيرها حاضرة بقوة.
كانت تلك السردية ملائمة لمصالح ورؤى قوى وجهات عديدة.
فمن ناحية، تبنى المجلس العسكري وإعلامه تلك الرؤية، وكرر لواءاته التحية لـ«شباب يناير الطاهر» في تصريحاتهم، بل وسارعوا للقاء وإقامة علاقات مع بعض ممن لمعت أسماؤهم في تلك السردية، مثل وائل غنيم. فحسب تلك السردية: الثورة اندلعت فجأة بسبب الفيسبوك ولم تكن نتاج تراكم لسنوات من الغضب الاجتماعي والسياسي، الغضب الذي لن ينتهي في 18 يوم والمتسببة فيه سياسات هيكلية للنظام الذي كان هؤلاء اللواءات قلبه الصلب.
وكانت السردية أيضًا ملائمة لمصالح غالبية القوى السياسية والطبقة الوسطى المصرية، التي كانت قطاعات منها تريد الخلاص من مبارك ولكنها كانت مرعوبة من «عدم الاستقرار»، وتتبرأ من حرق أقسام الشرطة، وتريد عودة سريعة للداخلية في الشوارع لـ«حمايتها من الجريمة»، وتنظر بريبة للإضرابات العمالية التي انتشرت كالنار في الهشيم من الإسكندرية لأسوان وتتهم العمال بالجشع و«الفئوية». في نظرهم الثائر المثالي هو الشاب المهندم، ابن الطبقة الوسطى، المتعلم، السلمي، حامل هاتف البلاكبيري. أما الباقون من فقراء المدن الذين هاجموا أقسام الشرطة فهؤلاء هم «البلطجية».
وأعتقد لا نحتاج لشرح لماذا كانت تلك السردية جذابة أيضًا للصحافة الغربية التي لعبت دورًا كبيرًا في ترويجها.
إذن ماذا كان دور الإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات في الإطاحة بمبارك؟
تشير الأرقام الرسمية إلى أن بنهاية عام 2010 وصلت نسبة مستخدمي الإنترنت من المصريين إلى حوالي 21.6٪ من إجمالي تعداد السكان، أما نسبة المشتركين في خدمة المحمول فوصلت في نفس العام إلى 85.379٪ (أنظر/ي المنحنى البياني رقمي 1 و2).2
وعشية ثورة 25 يناير 2011، قدر عدد مستخدمي فيسبوك في مصر بحوالي 5 ملايين مستخدم (4). أما منصة تويتر فقُدر عدد مستخدميها بأقل من 129 ألف مستخدم (5).

لعبت صفحة «كلنا خالد سعيد» دورًا مهمًا في 2010 في إلقاء الضوء على مأساة مقتل الشاب السكندري، وسريعًا حظت بمتابعة عشرات الآلاف من الشباب المصري. وطرحت الصفحة عدة مبادرات بوقفات احتجاجية صامتة استجاب عدد محدود من الشباب لها في المحافظات المختلفة، ولكنها حرصت على توثيق تلك الوقفات بالصور ونشرها لعدد ضخم من المتابعين أكبر من المشاركين في الوقفات.

ولكن…

أولًا: تأثير صفحة «كلنا خالد سعيد» والصفحات الأخرى المعارضة على فيسبوك، ويضاف إليها العدد المحدود نسبيًا من الحسابات على تويتر، لم يكن بالضرورة ناتجًا عن متابعة جمهور واسع من الشعب المصري لها بطريقة مباشرة، بقدر ما كانت تحكمه الآليات التي ذكرناها سابقًا في المقال: وهي أن وسائل الإعلام التقليدي كانت تنقل محتوى منشورات الإنترنت لعشرات (وأحيانًا مئات) الملايين من المتابعين داخل مصر وخارجها.
ثانيًا: لم يكن يوم 25 يناير عفويًا 100٪، أو بسبب فيسبوك إيفنت، فقد سبقه اجتماعات من القوى السياسية للتحضير لهذا اليوم، واتفاق على مسيرات، والشعارات، وكان سقف المطالب في البداية تغيير حبيب العادلي وليس تغيير النظام. وكانت هناك دعاية واسعة للتحركات في هذا اليوم لعبت فيها وسائل الإعلام التقليدي (المحلية والعالمية) الدور الرئيسي، وكان دور الفيسبوك فيها مكملًا أو إضافيًا.
ثالثًا: لم يكن الفيسبوك أو الإنترنت عمومصًا المنصة التي تحدد إيقاع الأحداث وتنظمها خلال الانتفاضة، وإلا كانت الثورة توقفت بانقطاع الإنترنت والاتصالات (6). بل لا أبالغ إن قلت إن انقطاع بث قناة «الجزيرة» آنذاك كان من الممكن أن يضر إيقاع الأحداث أكثر من انقطاع الإنترنت.
رابعًا: تندلع الثورات كما أوضح لينين «عندما يستحيل على الطبقات الحاكمة الاحتفاظ بحكمها دون أي تغيير، حينما تكون هناك أزمة بشكل أو بآخر داخل “الطبقات العليا”، أزمة فى سياسة الطبقة الحاكمة، تؤدى إلى انشقاق يتفجر منه استياء الطبقات المضطهدة وحنقها. فلكي تندلع الثورة لا يكفي عادة “ألا تريد الطبقات الدنيا” بعد الآن أن تعيش بالطريقة القديمة، بل يجب أيضًا “ألا تستطيع الطبقات العليا” أن تعيش بالطريقة القديمة» (7). لقد كانت مصر في وضع ثوري وجاهزة للانتفاضة ضد مبارك، سواء كانت هناك صفحة «كلنا خالد سعيد» أم لا، سواء كان هناك فيسبوك أم لا، أو كان هناك تويتر أم لا. لسنوات دأبت منظمات حقوق الإنسان على توثيق ونشر صور ضحايا تعذيب الشرطة، بل ولعب المدونون دورًا رئيسيًا في نشر فيديوهات التعذيب المسربة من أقسام الشرطة منذ 2006 إلى 2008، والبعض منها مثل فيديو الاعتداء الجنسي الوحشي على عماد الكبير حظى بتغطية واسعة. ولكن لم يؤد هذا لثورة وقتها. لو وقعت حادثة خالد سعيد في العام 2000 لما كانت كافية لإشعال ثورة، ولكن وقوعها في 2010، بعد سنوات وسنوات من التظاهر والحشد في الشوارع، بعد تحطيم صنم مبارك، بعد أن تراجع خوف المصريين من الشرطة مقارنة بالتسعينيات، بعد دخول حرفيا كل قطاع في مصر (فيما عدا الشرطة والجيش) في موجات بعد موجات من الإضرابات، كان جليا في 2010 إن البلد تتجه إلى الثورة (8). وفي ظل تلك الظروف الموضوعية المواتية للثورة، اندلعت الثورة التونسية التي تابعها المصريين بالبث حي، فكان ذلك ضوءًا أخضر أن الثورة ممكنة وأن الطغاة العرب نستطيع الإطاحة بهم.
الإنترنت والتغيير السياسي اليوم
منذ اندلاع الثورة حتى يومنا هذا، شهد قطاع تكنولوجيا الاتصالات تطورًا مذهلًا. قُدرت بحلول يناير 2020 نسبة مستخدمي الإنترنت في مصر بـ54٪ من إجمالي عدد السكان. ووصل عدد خطوط المحمول إلى 92.7 مليون خط، وهو ما يعادل 91٪ تقريبًا من إجمالي عدد السكان. أما على صعيد مواقع التواصل الاجتماعي، فتجاوز عدد مستخدمي الفيسبوك 42 مليون، وإنستجرام 11 مليون، وسناب شات 6 مليون، وتويتر 3.6 مليون (9). ومن المتوقع أن يستمر قطاع الاتصالات في النمو، وأن تستمر الزيادة في استخدام منصات التواصل الاجتماعي بوثبات متسارعة.
تلك الطفرة في عدد المستخدمين لها تبعات على جميع الأصعدة سواء ثقافيًا، أو اجتماعيًا، أو اقتصاديًا، وطبعًا سياسيًا. للثوريين الذين يطمحون لتغيير المجتمع يوفر الإنترنت الآن منفذًا لتأسيس جهاز إعلامي بديل ليس مضطرًا للاعتماد على الآلية القديمة التي كانت تابعة وخاضعة لاعتبارات وسائل الإعلام التقليدية. فاليوم، سواء غطى الإعلام التقليدي حدثًا أم لم يغطه، فتأثير ذلك ليس بنفس قوة ما كان عليه في الماضي، بسبب وجود منصات التواصل الاجتماعي. بل إن الإعلام التقليدي مضطر إلى اللجوء لمنصات التواصل الاجتماعي لضمان وصول منتوجه إلى الجمهور.
ولكن بالطبع ذاك الفضاء الافتراضي ليس خاويًا من أي تأثيرات، فالدولة تنشط لاحتوائه والتحكم به، تارة عن طريق الحجب وتارة أخرى عن طريق إغراقه بمحتوى مضلل أو دعائي، سواء عن طريق اللجان الإلكترونية أو الصفحات والجروبات التابعة للأمن (10). ولا يفوت السيسي أي مناسبة إلا ويحذر الشباب من «مخاطر مواقع التواصل الاجتماعي».
وعلى الجانب الآخر، لجأت قطاعات من المعارضة لاستخدام سلاح اللجان الإلكترونية لترويج دعايتها، ونشهد من كل حين لآخر حملات تدعو للنزول في مليونيات ولجمعات غضب (11). مشكلة تلك الدعوات هي مرض سياسي يسمى «الإرادوية»، وهو الاعتقاد الخاطئ بأن يكفي أن تكون هناك أقلية في المجتمع متمتعة بإرادة صلبة لتحقيق هدف ما فيحدث بغض النظر عن الظروف الموضوعية والذاتية. في ذهنية البعض يكفي أن تطلق التنظيمات السياسية دعوة للنزول فتعود الحالة الثورية من جديد، وكأن ثورة يناير 2011 حدثت بسبب فيسبوك إيفنت ولم يسبقها عقد كامل من الصراعات والنضالات المتصاعدة حتى وصلنا للحظة الثورية.
الإنترنت ليست عصا سحرية، وللأسف أمامنا في مصر بعد هزيمة الثورة على يد الانقلاب العسكري في 2013 وقتٌ ليس قصيرًا لاستعادة الزخم والتعافي الثوري. فبعد سلسلة من المجازر والتصفيات الجسدية على يد العسكر، دُمِّرت كل التنظيمات والنقابات المستقلة والكيانات السياسية أو تم احتوائها، ويرزح عشرات الآلاف في سجون النظام. تكلفة الهزيمة فادحة، ورغم فقدان السيسي شعبيته مقارنةً ببداية عهده، لا تزال ثقة الجماهير في التغيير ومواجهته ضعيفة، ولن يغير الوضع دعوات للتظاهر والثورة على الإنترنت في الوقت الحالي. وهذه ليست دعوة لليأس، بل لفهم المرحلة الحالية ولتوازن القوى، والعمل بصبر على الأرض لإعادة بناء ما دمرته الثورة المضادة، استعدادًا للثورة المصرية الثانية.
هوامش:
(1) حسام الحملاوي، الانتفاضة الفلسطينية وثورة يناير، 1 أكتوبر 2016، بوابة الهدف: https://hadfnews.ps/post/21196
(2) حسام الحملاوي، تكنولوجيا الاتصالات والتنظيم الثوري في القرن الحادي والعشرين، 29 يناير 2013، بوابة الاشتراكي: https://revsoc.me/-10787
(3) حسام الحملاوي، إلى الرفاق – ورقة سياسية حول موقع الاشتراكيين الثوريين، 16 أغسطس 2012، بوابة الاشتراكي:
https://revsoc.me/-14474
(4) تقرير Spot on PR:
https://www.spotonpr.com/wp-content/uploads/2017/10/FacebookEgypt_26Jan11.pdf
(5) لا يوجد رقم دقيق حول عدد مستخدمي تويتر عشية ثورة يناير، ولكن بنهاية عام 2011 قدر عددهم بحوالي 129 ألف:
https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/social-media-in-egypt-a-catapult-for-change/
(6) مصر: تسلسل زمني لقطع خدمات الاتصالات أثناء ثورة 25 يناير: https://flic.kr/p/De6g5S
(7) مقالات لينين حول ماهو الوضع الثورى؟ 4 – إنهيار الأممية الثانية، ترجمة سعيد العليمي:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=444245
(8) مدونة عرباوي، 31 أكتوبر 2010: https://arabawy.org/22329/something-in-the-air
(9) تقرير ديجيتال ريبورت، 17 فبراير 2020: https://datareportal.com/reports/digital-2020-egypt
(10) مصطفى السيد، الجدار الناري لنظام السيسي، أكتوبر 2020: https://www.dohainstitute.org/ar/PoliticalStudies/Pages/The-Sisi-Firewall-Cyber-Suppression-Strategies-and-the-Future-of-Cyberspace-in-Egypt.aspx
(11) Joey Shea and Alexei Abrahams, Disinformation Wars in Egypt: The Inauthentic Battle on Twitter between Egyptian Government and Opposition, 26 October 2020: https://www.justsecurity.org/72961/disinformation-wars-in-egypt-the-inauthentic-battle-on-twitter-between-egyptian-government-and-opposition/

الحوار المتمدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post ألمانيا.. نحو حاضنة لـ “أدب اللجوء”حكايات اللاجئين ليست بديلاً عن ترجمة آدابهم
Next post اندلاع أعمال شغب في تونس