المدار ترصد أواخر أيام المثقفين ((إيمانويل كانط رحيل فلسفي))
ترصدها للمدار نجاة أحمد الأسعد
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ أوصى كانط بتشيع جنازته صباحاً وفي أقل قدر من الضوضاء لكن في يوم تشييعه قد جمع في باحة كنيسة القلعة كبار الشخصيات الدينية والسياسية ناهيك عن كبار الجامعيين ساروا نحو منزل البرفيسور، وحمل من هناك على ضوء المشاعل وتقرع أجراس الكنائس وتبع آلاف الأشخاص وفي الأخير سجي جثمانه في مدفن قبو الأكاديمية.
حياة الفلاسفة هي عبارة عن سلسلة من الحروب التي يشنها هؤلاءُ ضد الأفكار والأنساق المتداعية، ويسبقُ النقدُ بناء المشاريع الفلسفية الجديدة إذ يكونُ الفيلسوف بمثابة قابلةٍ يُعينُ على ميلاد أفكار أنضجتها حركة التاريخ.
وهذا ما تعلمه سقراط من والدته عندما سألها كيف تقوم بتوليد الأمهات؟ وما من المرأة إلا أن قالت: إنّى في الواقع لا أفعل شيئاً. وإنما أكتفي بأن أعين الطفل على الإنطلاق. إذاً فإنَّ أسئلة الفلاسفة بشأن المفاهيم القديمة تؤذن بإنطلاقة التاريخ، وتحولٍ في الفكر. لذلك ثمةَ شخصيات تقترنُ أسماؤها بمحطات حاسمة في تطور الفكر الإنساني
أنَّ صاحب “نقد العقل الخالص” يعدُ مؤسساً لمشروع التنوير الأوروبي، وقد أعلن بأنَّ عصر النقد قد بدأَ ولم يعدْ هناك شيء إلا ويجبُ أن يطالهُ النقد، وبالتالي أصبح التنوير صنو العقلانية، ولن يتمُ تحقيق الإنطلاقة التنويرية دون الخروج من الوصاية والقصور العقلي. أنَّ كانط قد ضحى بحياته الشخصية وشطب عليها من أجل تحرير روح البشرية التي كانت مثقلةً بالقيود والأغلال.
يثير كتابه “الدين ضمن حدود العقل فقط” حنق الملك غليوم الثاني فيكتبُ له رسالةً شديدة اللهجة لافتاً نظره إلى أنَّ إستخدامه للفلسفة يسيء إلى العقائد الأساسية. وفي عهد هذا الملك القمعي يقول كانط كلمته المشهورة “قد لا أقول كل ما أعتقد به لكن لن أقول شيئاً لا أعتقد به” ما يعني أنَّ كانط لم يساومْ بشأن مشروعه، وكان يلجأُ إلى الصمت وهو أضعف الإيمان. وما رشحَ عن حياة كانط الشخصية ويومياته يوحي بإنتظام برنامجه المعيشي. أما على المستوى العاطفي فقد اعتبرت الحياة الجنسية لكانط من أخطر المسائل الميتافيزيقية في الغرب فإن سجله يكادُ يكون خالياً من العلاقات الحميمية. ولا يوجدُ ما يخالفُ هذا المنحى المتنسك في الكتاب الذي نشره الروائي الإنكليزي توماس دي كوينسي بعنوان “أيام إيمانويل كانط الأخيرة”، وبذلك قد أضاف كانط بسيرته إحتمالاً آخر لأفق التفلسف سابقاً قد صرحَ سقراط بأنَّ من لم يحظ بزيجة سعيدة يمكنه الهروب إلى الفلسفة، كذلك فالفلسفة خيار قائم بناءً على تجربة كانط بالنسبة لكل محروم من مغامرات عاطفية.
في مطلق الأحوال يستفيدُ المرءُ من هذا النشاط العقلي، يعتقدُ الفيلسوف الألماني نيتشه بأن سقراط ما كان سيصبح أكبر مُجادل في أثينا، لولا مناكدات زوجته لكن ماذا إستفاد نيشته نفسه من مرارة تجربته مع سالومي فلسفيا؟ ربما أصبح أكثر تبصراً بضرورة تقويض الوهم خصوصاً، ما هو صنيع رغبة الذات.
تميزت شخصية كانط بالهدوء والإنضباط، وكان تغمرهُ السعادة كلما سمع عن نجاح تلامذته ورخاء معيشتهم حسب ما ينقل ذلك توماس دي كوينسي من واسيانسكي.
كان المشي والتنزه جزءاً أساسياً من يوميات كانط، وهو من صنف الفلاسفة المشائيين الذين لم ينفصل لديهم التأمل عن حركة الجسد.. يخرجُ كانط بعد إنهاء حفل العشاء للتنزه وحيداً. ويعللُ ذلك بأنَّه أراد متابعة تأملاته الفلسفية، والتنفس بأنفه فحسب وهذا يستحيلُ عليه إذا تحدث. ما تعودَّ عليه من الرياضة ومواظبته عليها أكسبته حصانة مستمرة ضد نوبات الأمراض الموسمية. والأغرب إرتباط تأملات كانط بالنظر إلى برج قديم في لوبينيخت من نافذة الغرفة حين تحجب عنه أشجار الحور في حديقة مجاورة هذا المشهد يساوره القلق، ولا يتمكن من متابعة تأملاته لكن مالك الحديقة يكنُّ إحتراما لكانط عندما عرض أمر إزالة الأشجار لم يتردد في قطعها وبذلك كشف الحجاب.
كانت قراءات كانط تستمر حتى العاشرة ليلاً وبربع ساعة قبل خلوده إلى النوم أراح رأسه من أفكار تتطلب أي قدر من الإنتباه. وكان كانط مهتماً بتفاصيل مكان نومه. ولم يستخدم المدفئة في غرفته مهما كانت شدة البرد. وما يطيبُ له ارتداء أي شيء يحتوي على أربطة خوفاً من أن يعرقل تدفق الدم. كان يتناول الفطور في الخامسة ولمرة واحدة في اليوم يدخن غليوناً. وفي السابعة يحين موعد الدرس والمحاضرات. يشار أن كانط في غرفة نومه قد احتفظ بمجموعة صغيرة من الكتب تصل إلى أربعمئة وخمسين كتاباً.
مع تقدم العمر ظهرت أعراض الشيخوخة في صحة كانط إلى أن يفقد البصر إضافة إلى وجود مشاكل أخرى. رفض كانط الإستجابة للمتسولين المعتادين فيما كان سخياً مع المؤسسات الخيرية ثمة أشخاصُ كثيرون إعتمدوا على هبات كانط كل ماجمعه الفيلسوف كان من مجهوده وعمله وقد عاني في شبابه العوز والحاجة لكن لم يقترض أبداً.
ومن المواقف التي لا يمكن تجاهلها إصرار كانط على شكر طبيبه مع أن المرض أنهكه تماماً وأبى أن يجلس قبل زائره قائلا “سأكون منحطاً لا سمح الله لو نسيت الواجبات الإنسانية”.
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_