إشكالية الحرية في ضوء كتاب مفهوم الحرية للمفكر عبد الله العروي

عبد العالي الصفوي

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_إن بحثنا سيكون في مفهوم استعملته الجماعة العربية المعاصرة كمفهوم مجرد لا يحده زمان ولا مكان. يبدأ بوصف الواقع الاجتماعي عن طريق شعارات ذلك المجتمع بوصفها مادة للتحليل الفلسفي التاريخي والاجتماعي. يقول العروي《 يرفع الفرد شعار الحرية داخل أسرته، والمرأة في وجه زوجها، الطفل إزاء أبيه، والأقلية في مقاومة الأغلبية والأمة في مصارعة أعدائها》[1]. إن المطالب بالحرية يتوفى تحقيق الصورة التي تكتسبها الحرية في ذهنه، يقول العروي《 يفهم الفرد من الحرية الانفلات من العادات والمرأة ترى فيها الاستقلال بإرثها وأجرتها، والعائلة القروية تحرير الأرض المملوكة من حقوق العشيرة، و الطبقة التجارية التخفيف من الضرائب و إلغاء تقنين المعاملات، و الأمة إنهاء عهد الفقر و الجهل و المرض و البطالة》[2].  إن فلاسفة الماضي في تصورهم لمفهوم الحرية كان مجرد تولد للذات من اللاذات أو العكس فكل منا يفهم الحرية على أنها مجموع الحقوق المخولة له و يفهم من التحرر انخفاض عدد الممنوعات و ارتفاع عدد المباحات، يقول العروي《يعيش الفرد الاجتماعي الحرية إما كتحرر أو انعتاق و إما كخضوع و عبودية》[3] و بالتالي فالفرد هنا يسعى لتثبيت الحرية وفق تدرج الذي يقول أن الحرية شعار و مفهوم و تجربة يسطر العروي هذا الانتقال و يتساءل هل هو طبيعي؟ أليس العكس هو الصحيح؟ أليس الأنسب هو أن نبدأ ثم نرتقي بها كمفهوم و ننهي التحليل بالشعار ؟ هنا نفتتح أول محور للكتاب و هو طوبى الحرية في المجتمع الاسلامي التقليدي و بذلك سيكون المدخل الأول لرفع حجاب الجهل عن هذا المفهوم تاريخيا و هذا ما سيتبين في هذا المحور. يجيب أن الطريقة المعقولة العملية هي البدء بالنقد و هو نقد للمفاهيم التي استعملت كوسيلة للوصف فبهذا يسبق النقد الوصف لكي نعقل ما نصف و نعي ما نقول. يريدنا العروي أن ننطلق من واقعة تاريخية محددة و هي مطالبة سفراء الدول الأوربية رؤساء الاسلام بحرية مدنية و دينية أي أن كل مطالبهم تدور حول الحرية. يستشهد العروي بوثيقتين للمؤرخين الأولى للمؤرخ المغربي أحمد الناصري و الثانية للمؤرخ التونسي أبي ضياف. يوضح العروي في سرده لمقتطفات من كتب هؤلاء المؤرخين لتعريفات الحرية عندهم و يوجه لهم النقد بحجة أنهم لم يستوعبوا مفهوم الحرية كما فهمته أروبا الليبيرالية. في هذا الصدد ثم طرح ثلاثة اشكالات من طرف المستشرقين حول مفهوم الحرية باعتباره غير موجود في الثقافة العربية و أنه فقط ترجمة اصطلاحية لكلمة أوربية لأن معناها العصري غير موجود في المجتمع الاسلامي و أن ممارسة الحرية منعدمة في هذا المجتمع. يجيب العروي أنهم ينطلقون من ننهج خاطئ لكننا سنستشكل معهم لنبين خطأهم المنهجي. ينطلق في جوابه من أربعة مفاهيم الأول خلقي ( الحرة تعني الكريمة) و الثاني قانوني ( تحرير رقبة مؤمنة. النساء الآية 92) و الثالث اجتماعي (الحر هو المعفى من الضريبة) والرابع صوفي 《الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة الخروق من رق الكائنات وقطع جميع العلائق و الأغيار و هي على مراتب》[4]. فهذه التعريفات تحلينا لمجالي الفقه و الأخلاق. من جهة الفقه تعامل الانسان مع الانسان و الأخلاق هي التي تصف العقل بالنفس في ذات الانسان. و هذا الإحالة راجعة لتحليلنا اللغوي باعتبار اللغة حكر على كل ثقافة حسب حقتها التاريخية. يعني أننا يجب أن لا ننكر أهمية التحليل اللغوي في هذا الصدد لكي نعطي انعكاس اللغة ثقافيا و تاريخيا. فالفقه يربط الحرية الشخصية بالمروءة و هنا يخف تكليف و مسؤولية من ينعم بحرية واسعة مما يؤدي الى أن انسانيتهم ناقصة و هذا ما يشير له الفقه بعدم تبرير الرق ووضعية المرأة الدونية فهم ناقصون في العقل إذن يخفضون من مسؤوليتهم. إذن المجتمع حسب الفقه مجزأ لأحرار و رقيق و التطابق بين الشرع و العقل و الحرية هو العدل الذي يقوم عليه الكون. و لتحديد أهمية العقل يقول أحمد الناصري 《 فالعقل هو ما يميزنا عن الحيوان و يعقلنا عن الوقوع في الرذائل و يبعثنا لاتباع الفضائل》[5]. أما بالنسبة للأخلاق و علم الكلام تطرح الحرية من جانبين: الأول تخص علاقة العقل بالنفس و تغلب العقل على النفس. و الثانية علاقة الارادة الفردية بالمشيئة الالهية. و هنا اتبعوا المدرسة الأشعرية التي تقول أن الانسان حر فيما يريده أي ارادته الفردية و أن الرجال الذين يتبعون غرائزهم هم مراتب أربع غافلون و جاهلون ضالون و جاهلون ضالون فاسقون و جاهلون ضالون فاسقون شريرون. و هنا يعلق العروي أن لا الفقه و لا علم الكلام لم يعطوا شيء جديدا خارجا عن القاموس فكانت عندهم الحرية نفسانية ميتافيزيقية أما الفكر الليبيرالي فحريتهم حرية سياسية اجتماعية. بما أن منهج الاستشراقيين ناقص فإننا سوف نبحث خارج الدولة أو ضد الحكومة أي المجتمع العربي التقليدي بعد أن بحثنا داخلها كما فعلوا هم و هنا سنكون متفقين من حيث الاشكاليات دون ان نتقيد باستنتاجاتهم. يبدأ العروي في استنتاجه بأربعة أدلة:
الدليل الأول هو البداوة: ترمز للحياة الطلقة ( يعطي مثالا بالروافض) و هي خضوع للأهواء و الغرائز و العادات و من هنا نقول أن البداوة لا ترادف الحرية و لكن إذا نظرنا إيها كرمز ، كفكرة مجردة في الذهن فإننا مضطرون للاعتراف بها كذلك.
الدليل الثاني هو العشيرة: كل جماعة كانت عائلة أو قبيلة فهي تحتضن الفرد و تحميه و الفرد بدوره يفضل الخضوع لأوامر العشيرة لأنها تبدو كقسم من الطبيعة عكس الأمر السلطاني المتغير و العفوي الناتج عن إرادة الآخر. و هذا يؤيد الطرح الهيغيلي حين قوله أن الدولة في الشرق تتميز بحرية مطلقة للفرد الواحد و عبودية مطلقة لمن سواه. إذا كانت الدولة ترمز للعبودية فان العشيرة ترمز لعكس ذلك و هو ما نسميه اليوم حرية.
الدليل الثالث هو التقوى: 《هي تحرير للوجدان و توسيع لنطاق مبادة الفرد إنها كانت طريقا للشعور بالتحرر فلا عجب إذا أصبحت رمزا للحرية》[6]. ومنه فان التقوى ليست الرضوخ لأمر خارجي بل استجابة للعقل.
الدليل الرابع هو التصوف: 《 إن التصوف هو تجربة فردية ذهنية تتلخص في تمثل الحرية المطلقة بعد الانسلاخ من كل المؤثرات الخارجية الطبيعية و الاجتماعية و النفسانية》 ص 28. فعند قول الحلاج 《 أنا الحق》 نرى أبهى تجليات الحرية المطلقة عند كمتصوف عكس الأصوليين والمتكلمة.
يختتم العروي هذا المحور بإشارته لشيئين: الأول هو أن هناك بجانب قاموس للكلمات قاموسا آخر للثقافة و هو قاموس الرمز أي قاموس التاريخ الفعلي و هو أكمل من الأول و فيه أثبتنا أننا لم نثبت واقع الحرية بل حلم الحرية أو بتعبير آخر عصري طوبى الحرية ووجودها بدل على أن المجتمع مستعد لقبول الدعوة للحرية. و الثاني أن كلما اتسع مفهوم الدولة داق مجال الحرية أي نطاق اللادولة. يقول العروي《 سيحتاج العالم العربي لتعابير أجنبية لكن مضمون تلك التعابير سينبع من واقع تطورات المجتمع العربي التقليدي》[7].
المحور الثاني هو الدعوة للحرية ( عهد التنظيمات) فبعد طوبى الحرية نحن أمام الوعي بهذه الحرية. فوجود تخارج بين الحرية كفكرة و الحرية كممارسة و التحولات المتلاصقة معها نتجت جراء توسيع نطاق الدولة ففي عهد التنظيمات سنت الدولة الكثير من التشريعات للقضاء على العادات لنصل الى الفرد تحت حمى العشائر لكن الفرد بدوره كان مساهما في ذلك. كيف ذلك ؟ تم تقويض الحرفة من طرف الأب أو رب الأسرة مما جعلها تظهر كعائق أمام تقدمه و ذلك بنزول منتجات غربية التي دمرتها برخص أثمانها فأصبح الابن و البنت مشاركين في عملية العيش و العمل. و هنا نشأ مفهوم الشخصية أي أن العلم أعطى للابن شخصية و العمل أعطى للبنت شخصية و أصبح يحس بقيمته كعضو فعال بعدما كان الفرد يرى أنه مدين للعشيرة أصبح الفرد يرى أن الأسرة مدينة له. و نركز على قول العروي هذا جيدا لأنه يلخص كل ما قيل في هذا المحور 《 إن أصل هذه التطورات هو سياسة الدولة الاصلاحية و اصل السياسة الاصلاحية الخطر الاجنبي المتمثل في الضغط الاوروبي على البلاد الاسلامية》[8]. هنا انتشرت كلمة الحرية بعدما كانت تستخدم في المناسبات و هذا راجع أن اللغة خلقت التحول الاجتماعي و هنا يطرح سؤال خاطئ بقول ها التطور اللغوي سابق على التطور الاجتماعي ام العكس؟ يجيب العروي أن التطور الاجتماعي و اللغوي متزامنان و متلازمان لأن الشعور بالنقص هو من جعل من الكلمة تترجم و تستعمل و لو لم تتطور الشخصية لما شعرت بنقصها.
يقول العروي 《 الحرية في المجتمع العربي التقليدي طوبى مجسدة في رموز منافية للدولة اما داخلها و اما خارجها》[9]. هنا يمكن أن نقول أن هناك نقص أمام حاجتنا لليبيرالية. هنا سينتقل العروي للمحور الثالث و هو الحرية الليبيرالية و يقول بهذا الصدد 《 ان الليبيرالية تعتبر حرية المبدأ و المنتهى ، الباعث و الهدف، الأصل و النتيجة. و هي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر و شرح أوجهه و التعليق عليه》[10]
لفهم الليبيرالية يجب مقاربتها تاريخيا و معرفتا المراحل التي مرت بها. مرت الليبيرالية بمراحل: ١ مرحلة التكوين كانت وجها من وجوه الفلسفة الغربية المتركزة على مفهوم الفرد و مفهوم الذات. ٢ مرحلة الاكتمال: أصبحت أساس تشييد علم الاقتصاد و علم السياسة النظرية. ٣ مرحلة الاستقلال: نزع كل فكرة مرتبطة بالاتجاه الديمقراطي بعد اظهار الثورة الفرنسية بعض أصول الليبيرالية انقلبت لعناصر معادية لها. ٤ مرحلة التقوقع تمت إحاطتها بالأخطار مما جعل تحقيقها صعب و قد يغدو مستحيلا.هنا يستشكل العروي فاذا كانت الليبيرالية لها ٤ مراحل فعند قولنا أن المفكرين العرب تأثروا بالفكر الليبيرالي هل يعنون ليبيرالية التكوين الانسانية أم ليبيرالية الموجهة ضد الاقطاع و الحكم المطلق مع ديموقراطية روسو ونخبوية فولتير و استبدادية هوبز أم ليبيرالية طوكفيل التي نفدت الدولة العصرية المهيمنة على الأفراد و الجماعات أم ليبيرالية القرن 19 التي تعتبر طوبى الفوضوية و أن الشر كله في الدولة.
في المرحلة الأولى ركزت على مفهوم الذات ( الانسان الفاعل صاحب الاختيار و المبادرة)، في المرحلة الثانية الفرد العاقل المالك لحياته و بدنه و ذهنه و عمله ( فكرة التعاقد بدل الاقطاع) في المرحلة الثالثة المبادرة الخلاقة ( نفي حقوق الفرد المالك الخلاق باسم حقوق مجردة للفرد العاقل) في المرحلة الرابعة المغايرة و الاعتراض ( إبقاء حقوق المخالفين في الرأي لأن الاختلاف هو أصل الجدال و الجدال هو أصل التقدم الفكري و الابتكار )
يضرب العروي المثل بمؤلف جون ستيوارت ميل “في الحرية” .فهذا الكتاب يهدف للدفاع عن الفرد ضد الدولة و المجتمع و الجمهور يدخل نطاق المرحلة الرابعة من الليبيرالية. ظل وفيا لترات القرن 18 لم يعد يعتنق الاتجاهات الديمقراطية كما يقول 《 إن مشكلة الحرية تطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية》[11]. لذا يشيد ميل الى خطر هيمنة الدولة على الافراد مدافعا عن مبادرة الفرد و حقه في نقض الاجماع، بعد ترجيح كفة المجتمع على كفة الفرد. يقول ميل 《 لو كانت الانسانية كلها مجتمعة على رأي عدا فرد واحد فلا يحق لها أن تسكت الفرد المخالف لرأيها و كما لا يحق لذلك الفرد لو استطاع أن يسكت الانسانية المعارضة لرأيه》[12].و يقول أيضا 《 إن القسم الأكبر من الانسانية لا يملك تاريخا بالمعنى الحقيقي لأنه يئن تحت وطأة الاستبداد》[13]. و من هنا فان مجمل المنظومة الفكرية التي تعرف عليها المفكرون العرب في القرن 19 هي اهتمامهم على حرية الراي و التأويل و الابتكار و تأكيدهم على سلطة الفرد لذاته و فكره و بدنه.
نتجه الآن الى كيف يرى الليبيراليون الغربيون الاسلام. ميل يقول أن المجتمع الاسلامي غير ليبيرالي ليس فقط في نظام الحكم بل في النظام الاجتماعي العام المؤسس على الاجتماع في الرأي وعلى تحريم النقد و النقاش المفتوح. [14]. ينتقد ميل تحريم تجارة الخمر و أكل لحم الخنزير ففي ذلك مس لحرية الفرد و تدخل في مصلحته و قد يذهب ذلك الى احتقار مستعمليه و آكليه. هذا ما جعل العروي ينتقد طينة من المفكرين كمحمد عبده و عبد الرحمان الكواكبي و لطفي السيد و طه حسين و غيرهم بوصفهم تأثروا بالمنظومة الليبيرالية الا انهم لا يضعون قضية الحرية في اطار فلسفي بل وضعوا قطيعة بين أصل الحرية و الفكر التقليدي الاسلامي بالإضافة لسردهم لمحاسن الحرية حتى و لو دافعوا عن الحرية في وجه الفقهاء و أصلوا لها في عمق المجتمع و التاريخ الاسلاميين و رفضوا القول بان دعوة الحرية محددة تاريخيا بعهد النهضة فهذا كله بدعة بالنظر لمنطق الليبيرالية الحقيقية و كلما اكثر المفكرون العرب هذا كلما ابتعدوا عن روح الليبيرالية حتى و لو اعلنوا انتماءهم لها.فخصوصية الليبيرالي حسب العروي هو من يرى في الحرية أصل الانسانية الحقة و باعثة التاريخ و خير دواء لكل نقص او تعثر او انكسار[15].  و يختم العروي هذا المحور الثالث بقولتين: يقول العروي 《 الحرية اذا اطلق مفهومها حملت في ذاتها تناقضات تتبلور عند التطبيق》[16]و الثانية 《 العرب يرفعون شعارات الحرية و لا يتصورون أن تكون هي المشكلة عوضا أن تكون حلا لجميع المشكلات》[17] و هذا يدل على اللاوعي بالحرية في مجتمعاتنا لان الاشكالية اضحت في تجربة الحرية و بيان تناقضها مع مفهومها و التداخل الذي جعل منهم شعار الحرية هو حل المشكلات بدل ان تغدو هي المشكلة المؤصلة عندنا لسوء فهمنا لهت و هذا ما سيتحدث عنه في المحور الرابع وهو نظرية الحرية. هنا في بداية المحور يؤكد العروي على أن حاجتنا للحرية هي التي ولدت دعوتنا لها و يرفض أي تصور يقول أن الليبيرالية العربية متولدة من الليبيرالية الغربية تولدا آليا و أن الحرية هي ترجمة صرف للدعوة الأوروبية. و يعني بنظرية الحرية تأصيل الحرية بعد الوعي بالتناقضات الناشئة عن التطبيق.  إن التجربة العربية الاجتماعية هي التي كشفت حدود الحرية الليبيرالية عن طريق الحاجة الموضوعية التي أفرزها التطور الاجتماعي فالتفكير في الحرية عبارة عن إحساس بضرورتها أي الحاجة لوجودها و يقول العروي : 《 الليبيرالية هي أدلوجة الحرية أو الدعوة إلى الحرية》[18]تنقسم نظرية الحرية الى 3 اتجاهات الماركسية ، الوجودية و الكلامية المستحدثة نسبة لعلم الكلام و سنتطرق للاتجاهات الثلاث. يقول العروي: 《 نظرية الحرية عند الألمان كانت فلسفة كلامية إلا أنها فلسفة كلامية تدور حول الانسان لا حول الله》[19]. مع فيورباخ و شلنح نجد أن قضية الحرية البشرية تطرح في نطاق الحرص الشديد على إطلاق الحرية الالهية. ثم يأتي هيغل في موقفه الذي هو عبارة عن قلب لموقف الفلاسفة الكلاسيكيين لأنه يضع الحرية البشرية في البداية ثم يبحث لها عن أصل بالمعنى الفلسفي يقول 《 حرية الفرد مطابقة لماهية الذات أي في عمقها من طبيعة الهية》[20].
يقول هيغل أن أخطاء الارهابيين نشأت عن خلط بين الحرية الأصل و بين الصور و التشكلات التي تظهر من خلالها في ظروف اجتماعية معينة، نعلم أن هيغل ستتحول نظريته لنفي الحريات الليبيرالية لأنها تمنع من ادراك الحرية الاصلية التي يضمنها العقل و يحققها التاريخ و ذلك بوضع الحرية في نطاق الدولة أي نطاق المجتمع و التاريخ لكن ما يهمنا هو ارادته في تأصيل الحرية في الفلسفة.  إذا كان هيغل يضع الحرية في بداية التاريخ أي الانسان يولد حرا كما جاء في المسيحية يأتي ماركس ليقلب المقولة و يقول إن الحرية في نهايته أي اختفاء الحالي المبني على الملكية الفردية.
إذا كان هيغل و ماركس يرفضان الحرية الوجدانية فان الوجودية تنطلق منها وحدها. يقول العروي:《 يقر سارتر بحرية غير مشروطة ، ينفي سارتر المجتمع و التاريخ و النفس و الثقافة و الطبيعة كل ذلك يصبح مشروطا بالذات بدل أن تكون الذات بشيء سواها》[21]. إن سارتر من كلامه جعل من الانسانية و الحرية مرادفان بذلك الحرية هي الانسان في قلب الانسان كما قال العروي. و يضيف أن لو لم تكن الحرية سابقة لما وعينا بتلك الحدود المزعومة ( التاريخ،الطبيعة،المجتمع) يقول العروي《 نظرية الحرية عند الوجوديين هي نتيجة عملية قلب الالهياء الى الانسياء 》[22].
بالنسبة للكلامية المحدثة فهناك الداعمة لليبيرالية و هي الكلامية البروتستانتية التي تقول أن الحرية هي الظاهرة الربانية في الانسان و رافضة و هي الكلامية الكاثوليكية التي تقول أن حرية البشر مرتبطة بالإرادة الربانية. يلخص العروي التيارات الثلاث في قولة جامعة《 يقول الهيغيلي المطلق هو الدولة و الماركسي هو الطبقة و الوجودي هو الوجدان الفكري فترد الكلامية الجديدة هذه كلها أصنام و إن المطلق هو الله》[23] . و يقول أيضا 《 إن نقد الليبيرالية يقود في كل الأحوال الى وضع مطلق كأصل للحرية البشرية》[24]هناك من المفكرين من استغلوا ظروف هزيمة 1967 للتحامل على الليبيرالية الفردية و رفض كل تأثير بها و الدعوة الى إحياء العقلية التقليدية و هذا التيار يشبه التيار الكاثوليكي للقرن ١٩ فبالنسبة لعلال الفاسي فان الاسلام هو نظرية الحرية بتحويله الغريزة الى شعور وجداني. فالإسلام هو الفطرة و الفطرة هي الحرية و الاسلام هو الحرية.[25] أما حسن حنفي في قوله 《 إن الانسياء هي الهياء المستقبل لان علم الانسان هو علم المستقبل》[26] فانه يصرح ان الله هو المثل الاعلى للإنسان و اوصافه هي الاوصاف التي يحتاجها الانسان و هذا ما يقصده بقلب الالهياء الى انسياء. و هنا كان الانتقال من الشعار للنظرية عند العرب. هكذا يتضح لنا ان نظرية الحرية لا تبث باي حال واقع الحرية. اذن حسب العروي نستخلص ان الحرية مفهومها تناقض و جدل توجد حيتما غابت و تغيب حيتما وجدت. و النظرية هنا هي الكشف عن ذلك الجدل. و يختم المحور بأن الليبيرالية تنفي البحث في نظرية الحرية عن قصد لأنها تخاف من نتائجها بل ما تقوله النظرية هو ان الحرية لكي تتحقق يجب ان تُعقل و لكي تعقل يجب ان تطلق.
في المحور الأخير المسمى اجتماعيات الحرية سيكون تحليلا للمجتمع عبر مؤشرات سنتعرف عليها بغوصنا فيه ثم بين اشكال او سبب مهم جعلنا نتساءل حول الحرية فان كانت الحريات الليبيرالية نشأت عن اسباب اجتماعية و نظرية الحرية عن أسباب فلسفية فان تطور العلم الحديث أضحى هو محك هلع الانسان لان العلم يرتكز على مبدأ الحتمية أي على نقيض الحرية. فتجديد هذا النقاش حسب العروي هو محاولة للتصالح مع حرية الوجدان بالأساس و الهرب من حتمية العلم الطبيعي. فالإنسان في تجربته للحرية هو اما تجربة الامكان أي استطاعة المرء القيام بعمل يرغب فيه و تجابهه كلما تحرر حواجز و عوائق عائلية و طائفية و قانونية. و هذا ما يجعل للمرء يقارن حريته مع الآخر لكن لا يقارن الا امكانات التصرف. يضع قسطنطين زريق و هو مؤرخ دو اتجاه ليبيرالي في كتابه معركة الحضارة ثمانية مقاييس للتحضر منها: التغلب على الطبيعة، الابداع الفني، التنظيم السياسي… ثم يرجع المقاييس الى مقياسان عامين و هما الابداع و التحرر ثم ينتبه أن الابداع ليس الا وجها للتحرر.
ميز العروي بين 3 ميادين : الاقتصاد، علم الاجتماع و السياسة. و بحث على مستوى تحرر الفرد الذي احرزه من خلال هذه العلوم فوجد ان علم الاجتماع و السياسة يعطياننا فكرة عن وعي العرب بمشكلاتهم وعن مدى قدرتهم في التصرف ازاءها و الاقتصاد ، مستوى الانتاج و غير ذلك. فيختم المحور بقوله《 إن مشكلة الحرية تطرح جميع الزوايا . لا يجب تركيز كلامنا على شيء واهمال الآخر إلا إذا انكرنا ما يميز الحرية و هي جدليتها. وجودها معنى حيث تنفى فعلا، و تجذرها فعلا حيث تختفي المعنى》[27] .
يختم العروي كتابه باستنتاجات نلخصهم في 6 عوارض:
– الحرية قبل أن تكون مثلا أعلى فهي ضرورة حياتية
– لا يوجد تطابق بين كلمة حرية و مفهومها و هذا ما نجده في مجتمعنا العربي ، تداخل لمفهوم الحرية و المساواة و التنمية و الأصالة.
– سؤال الحرية مرتبط بالتساؤل حول الدولة و المجتمع بشرط أن لا ننسى أنها في آخر المطاف متعلقة بالفرد
– النظرية التي تخدم المدى الطويل هي التي تعطي نفس الأهمية للشعار و المفهوم و السلوك
– الحرية قد تفنى من الواقع و من المجتمع لكنها لا تفنى من التاريخ
– المهم هو أن تبقى قضية الحرية دائما موضوع نقاش و الوعي بقضية الحرية هو منبع الحرية.


[1]  عبد الله العروي، مفهوم الحرية، مركز الدراسات العربية ص6.
[2]  المرجع نفسه. ص6.
[3]  المرجع نفسه. ص8.
[4] الجرجاني، التعريفات ص 12.
[5]  أحمد الناصري، الاستقصاء، 1945، ج 9 ، ص 114 و 115.
[6] عبد الله العروي، مفهوم الحرية، مركز الدراسات العربية ص28.
[7]  المرجع نفسه. ص32.
[8]  عبد الله العروي، مفهوم الحرية، مركز الدراسات العربية ص 40.
[9] المرجع نفسه ص 42.
[10] المرجع نفسه ص 49
[11] جون ستيوارت ميل في الحرية ص 59
[12] المرجع نفسه ص 76
[13] المرجع نفسه ص 136
[14] العروي، مفهوم الحرية، ص 59
[15] العروي مفهوم الحرية ص 65
[16] المرجع نفسه ص66
[17]70 المرجع نفسه ص
[18]78 المرجع نفسه ص
[19]78 المرجع نفسه ص
[20]80 المرجع نفسه ص
[21]ص 88 العروي مفهوم الحرية
[22] المرجع نفسه ص 92
[23] المرجع نفسه ص 93
[24] المرجع نفسه ص 104
[25] علال الفاسي، الحرية مطبعة الرسالة ص 65
[26] حسن حنفي، ضمن المؤلف الجماعي بالفرنسية نهضة العالم العربي ص 250
[27] العروي مفهوم الحرية ص 136

الحوار المتمدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post نيوزيلندا نجحت بالقضاء كلياً على كورونا
Next post الامبريالية المتوحشة و-النظام العالمي الجديد-: جذور المؤامرة على شعوب غرب آسيا