الإسلاميون و”المنطقة الرمادية”
بقلم: أ. د. محسن محمد صالح
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ أعترف أني تألمت كثيراً لنشر صورة الشيخ عبد الفتاح مورو مع “فنانة” تونسية وهي تلبس ملابس “فاضحة” بالمعايير الإسلامية. والشيخ نفى أنه رقص معها، لكنه لم ينفِ الصورة نفسها، وقال إنها تمت بعد أن حضر حفل خطبتها في منزل عائلتها. والشيخ مورو لا يُنكر فضله، وله سابقته ودوره الدعوي الكبير في تونس، ويُشهد له على صبره وصموده، وعلى اعتداله ووسطيته. ولعل البعض استغل روحه المنفتحة ليسيء إليه وإلى الإسلاميين.
غير أن هذه الصورة التي التُقطت قبل أيام، ربما سلطت الضوء على إشكالية سلوك الإسلاميين ورموزهم في منظومات المجتمع والدولة والعلاقة بـ”الآخر”. وهذا المقال يحاول استقراء ظاهرة “المنطقة الرمادية” في سلوك الإسلاميين، أو المحسوبين على التيار الإسلامي، ولا يستهدف الشيخ مورو في شخصه.
***
الإسلاميون المتّهمون عادة بالانغلاق والتخلف والتحجُّر، “اندلقوا” خصوصاً في العقود الثلاثة الماضية ليثبتوا للآخرين أنهم منفتحون ومتحضرون، ويحبُّون الحياة، ويقدّرون الفن والذوق والجمال. لكن بعضهم بدل أن ينقل الناس من شقاء حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبؤسها، ضاعوا في “مَرَقة” المجتمع، وتاهت مساراتهم، وفقدوا تميُّزهم، فلم يَعد لديهم ما يعطونه للناس، ولم يعد الناس يرون فيهم ثمة نموذج يتطلعون إليه. وبدل أن ينقلوا الناس إلى مربع الإسلام وهدايته وتسامحه ورحمته ضمن بنية حضارية أخلاقية ينتمون إليها ويعتزون بها، ويجدون فيها حلّاً إيمانياً وحياتياً لأسقامهم؛ انتقلوا هم إلى منطقة “رمادية” يستخدمون فيها أقصى درجات “المباح”، والتبريرات “البراجماتية الواقعية”، ليطمئنوا الآخرين أنهم “بشر” مثلهم، ونَحَّوا جانباً قضايا كبرى يتطلبها دينهم كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحكم بما أنزل الله، والالتزام الأخلاقي والسلوكي، وتفرغوا لقضايا لا تختلف عن هموم وطروحات الأحزاب العلمانية واليسارية الأخرى. وضاع “النموذج” وضاعت “الرسالة” في غمرة البحث عن “التموضع” المناسب، وعن رضا الناس والحكام، ولم يعد ثمة لون أو طعم أو رائحة!!
حضر كاتب هذه السطور قبل أربعة أعوام مؤتمراً عالمياً في دولة أوروبية يجمع سياسيين وأكاديميين من شتى دول العالم. وكان ضمن الضيوف البارزين زعيم إسلامي معروف وبعد أن قدّم مداخلته تلقى عدداً من الأسئلة، كان أحدها عن رأيه في تشريع العلاقة الجنسية بين اللوطيين (أو ما يسمى المثليين)، فتحدث بشكل اعتذاري متهرب أن الأمر منوط بمجلس النواب في بلاده!! ولعله رأى مصلحة سياسية في اللجوء للمنطقة الرمادية، ولكني تمنيت له كزعيم لحزب إسلامي فاعل في الحكم، وله احترامه، أن يستخدم المنصة بقوة الواثق من الكنز الذي لديه للدفاع عن الإسلام وحضارته وتماسك بيئته الاجتماعية والأسرية، في مقابل الفشل الحضاري والانحطاط والتفكك الأسري الغربي.
***
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ومع انطلاق الصحوة الإسلامية وانتشارها كان الإسلاميون منطلقين متحمسين واثقين مما لديهم، متمسكين بالتزامهم الإسلامي ومظاهره، ناقدين بقوة لفساد منظومات الحكم والمنظومات الاجتماعية، فنجحوا في إحداث نقلة هائلة في المجتمعات في العالم الإسلامي، وأصبحوا التيار الشعبي الأقوى في معظم بلدان المسلمين. ودونما خوض في تفصيلات سلوك الأنظمة والخصوم تجاههم، فإن ثمة أزمة واجهت الإسلاميين في كيفية الانتقال من المجتمع إلى الدولة، وفي الانتقال من العمل الدعوي والاجتماعي إلى العمل السياسي. ولأنهم رأوا من تجاربهم أن مواجهة النظام السياسي والثورة عليه، أكبر من طاقتهم، وأن المواحهات أدت في أحيان عديدة إلى كوارث على الدولة والمجتمع، فقد توسعت الاتجاهات في أوساطهم المنادية بالتعايش مع النظام والعمل تحت سقفه.
وفي غمرة “تكييف الذات” واسترضاء النظام أو تخفيف عدائه، اتسعت “المنطقة الرمادية”، مع التنازل أو التخفف عن عدد من أبرز مواصفات العمل الإسلامي والدعوي. وربما رأى عددٌ من الإسلاميين أن هذه ضرورة مرحلية، وأن هذا أفضل ما يمكن عمله في البيئات المتاحة.
ربما يبدو ذلك منطقياً لمن يقرأ هذا المقال، فيتساءل: وما المشكلة في ذلك؟
ليس ثمة مشكلة، فيمن يتعامل مع الضرورة بشروطها ومقتضياتها، في إطار إدارته الواعية الصلبة لمشروعه الإسلامي، ولكن تكمن المشكلة هنا في أن العديد من الإسلاميين حَوَّلوا مع الزمن “الاستثناء” إلى “قاعدة”، و”الضرورة” إلى “حياة طبيعية”؛ وذابت هويتهم القيمية، وتميُّزهم الإنساني والاجتماعي؛ ولم يعودوا حركة تغيير مبدئية؛ وإنما تموضعوا ضمن واقع فاسد وبيئة سياسية مستبدة، في محاولة لحفظ الذات واسترضاء “الآخر”؛ ففقدوا القدرة على المبادرة، وفقدوا روحهم “الثورية” وفقدوا عملياً الثقة بما لديهم، وبالتالي تمّ تحييد “الرسالة” و”الهوية” في منطقة رمادية، لم يعد الناس فيها يُفرقون بينهم وبين غيرهم.
كما أن المشكلة لدى بعضهم تكمن في “استغراقه” في عملية التكييف، فتراجع دوره الدعوي والتربوي وتراجع انشغاله في تقديم مشروعه الإسلامي الحضاري، وضاع خطابه الإسلامي في “مَرقة” العمل الوطني القطري، والتموضع “الديموقراطي”. كما تساهل بعضهم في سلوكه الاجتماعي، وقام بعضهم بتشذيب لحيته لتظهر كنتوءات خجولة تعتذر عن نفسها، وتأنق بعضهم في بدلته وربطة عنقه، ولوى لسانه برطانة أجنبية أو بمصطلحات علمانية، ليقنع الآخرين بـ”تحضّره”، وسكت بعضهم عن منكرات يراها، بحجة أن الحديث عنها ليس من “مقتضيات المرحلة”.
والبعض ممن رأينا، أصبح يقدم خطاباً سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً خالياً من رؤى إسلامية، مع الاكتفاء بالبسملة في البداية. وأصبح البعض يتحدث عن دينه حديثاً دفاعياً خجولاً وكأنما يستر عورته؛ فلا ترى فيه استعلاء الإيمان ولا نور اليقين. وهذا لم يجلب احترام الناس، بل قزّمهم في أعينهم، لأن الناس، في “دواخلهم” على الأقل، كانوا يحترمون تميُّز الإسلاميين، وتحدِّيهم للأنظمة وفسادها، وتضحياتهم من أجل مبادئهم. غير أن الناس رأوا أن عدداً من هؤلاء الذين كانوا يتطلعون إليهم لإخراجهم مما فيهم من بؤس وشقاء، قد ركنوا إلى واقعهم، ولم يعودوا قادرين ولا راغبين في دفع أثمان التغيير، أو أنهم على الأقل لا يملكون تصوراً حقيقياً لإخراج الناس مما هم فيه. كما أن ولأن المنطقة الرمادية اتسعت، فقد انحسر الانتماء للأمة والانشغال بقضاياها إلى الهم الداخلي القطري. وأصبحت القدس وفلسطين والخطر الصهيوني ظلالاً باهتة، يصعب استحضارها إلا في كلمات باردة، كما تفعل الأنظمة الرسمية؛ وتحولت العلاقة مع العدو الصهيوني لدى البعض من خيانة كبرى إلى “اجتهاد” أو “وجهة نظر” تحتملها “الضرورة” أو المنطقة الرمادية إياها.
وتراجعت مظاهر الالتزام السلوكي، وانتشر “الحجاب المتبرج”، وأصبح الإسلاميون مهدّدين حتى في سلوك أسرهم وعائلاتهم.
***
وتكمن أحد مشاكل المنطقة الرمادية في خلط بعض الإسلاميين بين الأولويات والمبادئ والمصالح العليا والاستراتيجيات وبين الضرورات والاستثناءات والتكتيك والتفضيلات والشكليات، وإنزالها منازل متعاكسة، في ضوء ضعف الإيمان واليقين، وضياع الرؤية والإرادة وإدراك المرحلة، ووضعها كلها في خلاط “مولينكس” !!، وليخرجوا بخلطة عجائبية رأسها بين أقدامها، وأعينها في أدبارها، لا تدرك متى تأخذ بالعزائم ومتى تأخذ بالرخص. ولا تدرك متى تقف موقف سحرة فرعون من فرعون فيقولون “اقضِ ما أنت قاضٍ”، أو موقف الرضيع الذي أنطقه الله، فقال لأمه، التي ترددت في الوقوع في النار، في قصة أصحاب الأخدود “يا أمه اصبري، فإنك على الحق”، أو خير الشهداء الذي أمر الظالم ونهاه فاستشهد. كما لا تدرك متى تكون في صلابة يوسف عليه السلام عندما تعرض لغواية سيدة القصر، ولا متى تكون في لين يوسف ومبادرته عندما قال لـلملك “اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”، ولا متى تسلك سلوك جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في ضيافة النجاشي بالحبشة. كما لا تدرك كيف تستفيد من قصة الخضر وموسى، فتحسن التعامل مع معانيها، ولا تعتسف في استخدام دلالاتها. ذلك أن الهداية والتوفيق والسداد من الله سبحانه، ومرتبطة أساساً بالتقوى والصبر، فمن اتكل على شطارته وفهلوته، وكله الله إلى نفسه، وتركه يتخبط و”يضرب في الحيطان”.
وثمة مشكلة أخرى، متعلقة بالرموز الذين تتطلع إليهم أنظار الأمة، الذين هم في مواقع القدوة، ويحتجُّ الناس بسلوكهم وتصرفاتهم، فيتسببون في تضييع الناس إن هم تتبَّعوا الرخص، وتساهلوا في مواضع الشبهة. فالقائد هو الأولى بالأخذ بالعزائم، ولهذا خاطب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم “فاصبر كما صبر أولي العزم من الرسل”؛ وخاطب سبحانه زوجات النبي “يا نساء النبي لستنّ كأحدٍ من النساء”. وكان مما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه “كنا نترك سبعين باباً من الحلال مخافة الوقوع في باب واحد من الحرام”، ومما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه “تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا”.
ولذلك كان من الحكمة أن يُوسِّع الفقيه ويُيسِّر على الناس في فتواه، بينما يُشدد على نفسه ورعاً وزهداً وعفة؛ ويستبرئ لنفسه من مواطن “الحوم حول الحمى”. إذ إن زلّة الإنسان تقع على نفسه، أما زلّة العالم القائد فقد تزلُّ بها جماعات وشعوب.
وفي بعض المواضع لا يقتصر الأمر على الورع وإنما ينتقل إلى حال الوجوب، عندما يدخل في فرض العين، ولا يوجد في الأمة آخرون يقومون بالواجب؛ كما فعل الإمام أحمد بن حنبل، الذي عصم الله به الأمة في موقفه من “خلق القرآن”، وترك هو لأصحاب “العقول المستريحة” أن يُنقّبوا لأنفسهم عن الرُّخص. ولذلك، فالأخذ بالعزيمة هو ما على العلماء الصادقين أن يفعلوه في هذه الأيام في مواجهة التطبيع مع العدو الصهيوني.
وباختصار، فإن المشكلة التي نتحدث عنها لدى بعض الإسلاميين (وخصوصاً من هم في موضع القيادة والقدوة) ليست في الانفتاح، والتسامح، والتيسير، واستيعاب الآخرين، والتغاضي، والتغافل عن الصغائر، فهذا من طبيعة العمل ومستلزمات الدعوة؛ وإنما في فقدان الرؤية وضياع الأهداف، وتقديم الثانويات على الأولويات، وضمور العمل الدعوي والتربوي والالتزام السلوكي، و”التَّوهان” في التفاصيل والتكتيكات على حساب الاستراتيجيات والمسارات الكبرى، واسترضاء الناس والذوبان في الآخرين، وتراجع الثقة بالنفس وبقيمة ما يملكون، وتراجع القدرة على المبادرة “الهجومية” لطرح البديل الإسلامي الحضاري، مع السعي للتموضع تحت أسقف بيئات وأنظمة فاسدة ومستبدة. وانحسار بيئة التدين إلى السلوك الشخصي، مع ضموره كمنظومة عمل جماعي، والتحول من دعوة يُحركها الإيمان والرسالة الربانية إلى حزب سياسي تُحركه الحسابات السياسية وأجواء العمل التكتيكي.
وفي الختام فإن هذا المقال يتحدث عن تيارات الإسلاميين المختلفة، ولا يستهدف حركة أو تياراً معيناً بذاته، كما أنه لا يعمم الظواهر المرتبط بالمنطقة الرمادية على الجميع، وإنما يستخدم “التبعيض”، إذ لا يكاد يخلو تيار من إحدى هذه الظاهر أو عدد منها. وهو ما يستوجب على الإسلاميين عمل مراجعات عميقة وجادة لمساراتهم وأدائهم ومسلكياتهم، في سبيل انطلاقة جديدة فعالة تعيد لهم أَلَقهم وتميّزهم، وقدرتهم على تحقيق أهدافهم.
وبالتأكيد، فإن للموضوع جوانب وزوايا مختلفة لا يتسع لها هذا المقال، ولعلنا نتابع البحث في الموضوع لاحقاً.
عربي 21