المدار ترصد أواخر أيام المثقفين ((أحمد الشيخ رحيل مبدع الستينات))
أواخر الأيام ترصدها للمدار نجاة أحمد الأسعد
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_رحل الكاتب الكبير أحمد الشيخ، عن عمر يناهز 77 عامًا. إن الكاتب أحمد الشيخ شعر خلال الأسبوعين ماقبل الوفاة بإرهاق، وكان يتابع حالته الصحية مع أحد الأطباء، لافتةً إلى أنه سبق أن أجرى عملية قلب منذ 17 عامًا.
وكان قد صدر العديد من الأعمال الإبداعية للكاتب أحمد الشيخ، الذى يعد واحدًا من أهم كتاب جيل الستينات، ومن أبرز أعماله مسلسل “الناس فى كفر عسكر” عن رواية بنفس الاسم، وقدم خلال مسيرته العديد من الأعمال الهامة، التى رصدت وعالجت الكثير من التغيرات السياسية والاجتماعية التى طرأت على المجتمع المصرى.
استطاع أحمد الشيخ أن يحفر اسمه بقوة فى مجالى الكتابة والقصصية والروائية، وذلك منذ أصدر مجموعة »دائرة الانحناء« عام 1970 ضمن سلسلة »كتابات جديدة« بالهيئةالمصرية العامة للكتاب، وانتظر أحمد الشيخ أكثر من عشر سنوات حتى ظهرت مجموعته الثانية »النبش فى الدماغ« عام 1981 عن »دار المعارف« ثم توالت مجموعاته بعد ذلك: مدينة الباب (1983)، و»كشف المستور« (1984) و»الحنان الصيفي« (1987) إلخ..
وقد قرر أحمد الشيخ أن يبدأ مسيرته الروائية فى الفترة نفسها، فأصدر »الناس فى كفر عسكر«، عام 1979، تلتها »حكاية شوق« (1991)، ثم »حكايات المدندش« (1996)، و»أرضنا وأرض صالح« (2008) و»هوامش المدينة«(2010) و»عاشق تراب الأرض« (2012) و»رأيتهما قمرين فى المحاق« (2014).. وهناك أعمال أخرى كثيرة لم نذكرها. ومن الخصائص المهمة لأحمد الشيخ أنه كان مرتبطا بتراب الأرض التى ولد عليها وعاش فيها حياته الأولي، وقد ظل كذلك إلى آخر يوم فى حياته ، كما أنه كان شديد الاهتمام بملاحقة الجديد فى هذا التخصص الذى اختاره وقضى حياته مدافعا عنه على الرغم مما حدث للأدب وللثقافة بعامة من انتكاسات قضت تقريبا على الجمهور المهتم بالأدب. ولكن أحمد الشيخ على الرغم من كل ما حدث له من كوابيس ظهرت فى أعماله الأخيرة لاسيما فى بعض أعماله القصصية إلا أن التفاؤل عنده لم يفارقه أبدا، وازداد هذا التفاؤل عندما حصل المسلسل التليفزيونى »الناس فى كفر عسكر« على نجاح باهر، وعندما حصل أحمد الشيخ منذ فترة قليلة على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب، وهى جائزة أعادت إليه بعض حقه الذى كان يراه مسلوبا.
الحس الدرامى فى هذه الرواية إلى أقصى درجاته،ولهذا جاء نجاحها قويا فى المسلسل المذكور، وقد رأى أحمد الشيخ أن يجعل من »الناس فى كفر عسكر« خماسية، ولهذا صدرت بهذا الوضع فى دور نشر أخرى ، وضمت »حكايات المدندش« و»حكاية شوق« ورواية أخري. والحق أن شخصية »المدندش« ثرية جدا، ومتعددة الوجوه والأبعاد، فهو حلاق حمير الكفر ومداوى جراحها، وهو طبال الكفر وزماره، وهو الرداح ونداب الموتى والمغدورين، وكاتم أسرار النسوان، ومولد المواشى والمسئول عن التجريص والفضائح، وهو البهلول، ولهذا فإنه كان يرى أن حال الكفر لايستقيم بدونه، وعلى الرغم من كل هذه المهن فإنه كان يحصل على قوت يومه بصعوبة بالغة، بل إنه قد يجد نفسه، فى بعض الأحيان، مضطرا للسطو على هذا الحقل أو ذاك للحصول على بعض الثمار التى يسد بها رمقه. فى رواية »عاشق تراب الأرض« التى صدرت عن «دار الهلال» عام 2011 نجد الرواية عبارة عن مقطعات كولاجية تأتى منفصلة ومتداخلة فى آن، ويتنوع هذا العمل، فى بعض أجزائه بين الحلم وبين المشاهد القديمة، ونجد المؤلف يطلق أحيانا فى أحلامه وكوابيسه بعض الصيحات التحذيرية، ومن بين ما قال: ماذا أملك غير مرارات الأمس، ويتحدث عن هاجس كان يهاجمه دائما وهو إبعاده عن تحقيق المأمول أو عن بؤر الضوء، ويشير إلى الضعف الذى ألم به، مما جعله يقلل من ارتياده للندوات والأماكن التى كان يتردد عليها. وعلى الرغم من أن الرواية تدور فى المدينة، ولهذا نجد من بين شخصياتها المهمة فتاة الجامعة التى أحبت بطل الرواية واقتربت منه كثيرا، إلا أن الأرض تطل علينا دائما: فالجد كان يدفع الصبيان إلى النهر أيام الفيضان لكى يتأكد من صلابة عودهم، وكان يوزع عليهم أنصبة اللحم الشهي، ومن عاش فى الريف يعرف كيف كانت هذه عادة متبعة داخل الأسر، لاسيما الكبيرة منها، أما قعدات السمر فى المندرة فيفرد لها أحمد الشيخ مشاهد مهمة، ولاشك أن أحمد الشيخ فى وصفة لهذه المشاهد يثير حنين القارئ لتلك الأيام التى كان فيها ـ حسب تعبيره ـ براح وسعة ومحبة وألفة وأمل واحتضان للنهر. وهذا على العكس من الأحلام والكوابيس التى سدت عليه كل منافد الأمل فى أعماله الأخيرة القصصية. ومن مجموعات أحمد الشيخ الأخيرة مجموعتان صدرتا فى وقت واحد تقريبا، وهما »رسام الأرانب« و»ملاعيب الأكابر«، ولاشك أنهما يدلان على ثراء العالم القصصى عند الكاتب. فالمرء يحس وهو يقرأ مجموعة »رسام الأرانب« أن كل قصة تحتاج وحدها إلى دراسة قائمة بذاتها. كما أنك تحس بالحاجة إلى قراءتها أكثر من مرة قبل أن تتكون لديك فكرة عنها. نفس الشيئ يحس به مع مجموعة »ملاعيب الأكابر«، وذلك أن أحمد الشيخ، فى تلك الفترة، كان قد طور أدواته الفنية بشكل واع وعميق ومؤثر، ثم إنه قدم تجارب جديدة ومختلفة كل الاختلاف عن كتاباته السابقة، ومما لاشك فيه أن تطوير أدوات الكتابة مسألة مهمة ومطلوبة فى كل وقت، وهى فيما يتصل بالفنون الابداعية بصفة خاصة ضرورية من أجل ترسيخ مكانة الكاتب وإعطائه حقه من التميز والتأصيل. وكان أحمد الشيخ من أكثر الكتاب وعيا بذلك، ولاسيما أنه نشأ فى فترة كانت الكتابة تلعب فيها دورا مؤثرا فى خدمة المجتمع. ولهذا كان من الطبيعى جدا أن تهاجم الكوابيس أحمد الشيخ فى سنواته الأخيرة، ولم يكن هذا مجرد إحساس انتابه، ولكنه هاجمه بقوة وانعكس فى أعماله، وكأنه كان يراوح بين زمنين: زمن تقدم فيه الكاتب الصفوف الأولي، وزمن انحسرت فيه الثقافة انحسارا شديدا مما أفسح المجال لأصحاب الرؤى المتعصبة، والقلوب القاسية التى لايهمها إلا تحريم كل شئ، بل إن معظم الأدباء صاروا يواجهون الحياة الصعبة لقلة دخولهم ومن ثم عجزهم عن مواجهة الصعاب. من هنا خرجت الكوابيس فى السر وفى العلن، وظهرت فى أعماله القصصية وكذلك الرواية. وفى الختام نعود مرة أخرى إلى البدايات لنجد أحمد الشيخ فى »دائرة الانحناء« و»النبش فى الدماغ« و»كشف المستور« وغيرها من المجموعات الأولى يحاول أن يقدم كتابة جديدة ومختلفة عن أبناء جيله، ونفضل فى هذه العجالة أن نوجز كلمة عن مجموعة »الحنان الصيفي« الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1987. ففى هذه المجموعة يواصل أحمد الشيخ، كما حدث فى المجموعات السابقة، التركيز على التحليق الشاعري، حتى ليحس القارئ بأن جميع القصص فى »دائرة الانحناء« عبارة عن تنويعات شعرية أو تأملات على طريقة الشعر فى البحث عن جوهر القضية لا فى وضع اليد عليها واستخلاص مكوناتها الواقعية. وإذ توقفنا قليلا عند عناوين القصص نجدها تنحو نحوا تجريديا خالصا مثل »ذيول التحدي« و»كتلة الصمت« و»جريح الامتهان المباح« و»صيف الذباب«. ويستمر هذا النهج فى المجموعات التالية التى من بينها »الحنان الصيفي«. أحمد الشيخ إذن كاتب مهم ومتنوع لأنه عاش للكتابة، وقضى عمره فى طريق التجويد والتطوير ومتابعة ما يجرى فى المجتمع من تغيير وتحولات، ولهذا بدأ بالمرحلة الشاعرية المجردة، ثم انحاز إلى الواقع، فوصف ما يجرى فى المنطقة التى ولد وعاش فيها ردحا من حياته لاسيما فى أعماله الروائية ثم عندما رأى مجال الثقافة والابداع يتقلص هاجمته الأحلام والكوابيس بصورة لم نجدها عند كاتب آخر ـ لكنه على الرغم من ذلك ظل متفائلا وكان لديه اعتقاد راسخ بأن المصرى هو أول من صنع الحضارة، ومثلما أبدع فى حضارته الفرعونية فإن لديه القدرة على أن يعود أقوى مما كان، وعندما كنت أخالفه فى هذا الاعتقاد أراه ينفعل بشدة. وقد حدث هذا أكثر من مرة. وكان دائما يقول: أنا دارس للتاريخ، ولن أتخلى أبدا عن اعتقادى بأن المصرى نوعية خاصة من البشر، ولهذا فإنى أراه مثل الحصان، أحيانا تصيبه كبوة لكنه ينهض من هذه الكبوة ويواصل مسيرته بقوة واقتدار.
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_