علمنة اجتماعية في مواجهة صحوة دينية.. هل يتلاشى الدين من العالم؟

أحمد مولانا

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_أدى ظهور وغلبة الدولة البيروقراطية العلمانية ونموذج الحكومات التمثيلية في أوروبا إلى تقويض حكم المؤسسات الكنسية والأنظمة الملكية الوراثية في العالم الغربي. وخلال مراحل الصراع المتعاقبة بين المؤسسات التقليدية وتلك الثورية في زمانها، طرح منظرون اجتماعيون وفلاسفة خلال القرن الـ19 مثل أوغست كونت، ودوركايم، وكارل ماركس، وماكس فيبر مقاربات اجتماعية لتفسير العلمنة؛ خلاصتها أنه مع تزايد عمليات التحديث والتقدم العلمي سيتدهور إيمان الجماهير بالدين كنتيجة حتمية لعمليات التحديث والتحول إلى مجتمع صناعي. قُدمت العلمنة كضرورة تاريخية ونموذج عالمي لا رجعة عنه سيتخطى كونه تجربة أوروبية. ولكن سرعان ما تبين بطلان تلك المقاربة مع اشتعال جذوة الصحوة الدينية في النصف الثاني من القرن العشرين، سواء الصحوة الدينية في العالم الإسلامي أو تنامي الصحوة البروتستانتية الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية والصحوة الهندوسية في الهند.

نظريات العلمنة 

برزت عدة نظريات لتفسير العلمنة من منظور اجتماعي من أبرزها:

  1. النظرية التقليدية

تعزو تدهور التدين إلى ضعف الطلب على الدين من طرف الجمهور في ظل تحول المجتمع إلى مجتمع صناعي؛ حيث يقل تعلق الإنسان بالظواهر الطبيعية التي تؤثر على الإنتاج الزراعي مثل الرياح والأمطار والفيضانات، ويصبح أكثر مادية في ظل تزايد معرفته العلمية بالظواهر الطبيعية وتحسن قدرته على التنبؤ بها والوقاية منها، فضلاً عن تزايد قدرته على التحكم في الإنتاج الصناعي. وربطت تلك النظرية بين التحديث والعلمنة، فوفقاً لها كلما تزايدت وتيرة التحديث زادت العلمنة وصولاً إلى نقطة يتلاشى عندها الدين.

وقد تعرضت تلك النظرية لانتقادات متنوعة المشارب والأهداف، في ظل ارتفاع مستوى التدين بالولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل ذروة التحديث والمجتمع الصناعي، فضلاً عن تعارضها مع حقيقة الصحوة الدينية التي تعيشها دول كالهند وتركيا رغم مرورها بعمليات علمنة وتحديث. كما أن انتشار التدين أو تراجعه لا يسير في نمط خطي إنما يختلف من فترة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر، حسب عدة عوامل من قبيل حدوث أحداث معينة تدفع بالناس للتدين (مثل هزيمة مصر وسوريا والأردن في عام 1967 أمام إسرائيل والتي أدت إلى تدهور القومية العربية وبروز حركة إحياء ديني واسعة في العالم العربي) أو بروز قادة دينيين كاريزميين أو تزايد أنشطة الحركات الدينية.

  • نظرية العرض (التعبئة الدينية)

هي نظرية تطبق النماذج الاقتصادية للأسواق على مجال التدين، حيث تربط مستوى الإقبال على الدين بكفاءة العرض من جانب الدعاة الدينيين والمؤسسات الدينية دون العناية بما تطلق عليه “مواقف المستهلكين للدين”. وترى تلك النظرية أن العرض الذي يلبي شروط النجاح قادر على خلق طلب على الدين. وأنه كلما كانت هناك تعددية دينية وتنافس بين المنظمات الدينية وُجد إقبال أكبر على الطلب، في حين كلما زاد تنظيم الدولة للدين قلت المنافسة بين الكيانات الدينية في ظل عدم وجود موردين أكفاء للدين، وبالتالي ستنخفض مستويات الاستهلاك الديني. وقد حاول مؤيدو نظرية “التعبئة الدينية” البرهنة على صحة فرضياتهم عبر النموذج الأمريكي الذي تزداد فيه مساحة التدين في ظل وجود تنافس قوي بين المؤسسات الدينية المتعددة. لكن تعرضت تلك النظرية لانتقادات في ظل استمرار قوة التجمعات الدينية في العديد من الدول بجنوب أوروبا رغم احتكار الكنيسة الكاثوليكية للنشاط الديني بها، وهو ما يقوض الزعم بأن التعددية الدينية تعمل على تعزيز المشاركة الدينية .

  • نظرية العلمنة المعتمدة على الأمن الوجودي (Existential Security)

تمثل هذه النظرية تطويراً للنظرية التقليدية للعلمانية، وتحاول أن تشرح التباين في مستويات التدين عالمياً، وتقوم على مفهوم جوهري وهو الأمن البشري، حيث تجادل بأن الإنسان كلما عاش في أجواء أكثر أمناً وتقلص شعوره بالمخاطر الطبيعية مثل الفيضانات والزلازل والأوبئة أو الأزمات البشرية كالحروب وعدم الاستقرار السياسي ونقص الخدمات الحكومية سيصبح أقل تديناً، بينما كلما زادت المخاطر المحدقة بالإنسان أصبح أكثر تديناً. ومن ثم تزعم بأن سكان الدول الفقيرة أكثر تديناً لوجود مخاطر متنوعة تهدد حياتهم، بينما سكان الدول الغنية أكثر علمانية لشعورهم بالأمن بدرجة أكبر.

وتجادل بأن التنمية الاقتصادية رغم أهميتها فإنها ليست شرطاً كافياً بمفردها لخلق الأمن البشري؛ حيث تلعب التقاليد الثقافية دوراً في رسم المشهد. ففي المجتمعات الصناعية المتقدمة تنخفض القيم التي تشدد على التماسك الأسري وتجنب عمل المرأة خارج المنزل؛ مما ينعكس على انخفاض معدل الخصوبة؛ مما يجعل المجتمعات الصناعية العلمانية تنمو بشكل أقل من المجتمعات ذات القيم المحافظة. ولكن تظل هذه النظرية عاجزة عن تفسير أسباب انتشار الدين في الولايات المتحدة الأمريكية رغم تمتع سكانها بمستوى متقدم من الأمن البشري. 

  • ما بعد العلمانية

في ظل الانتقادات المتزايدة للنظرية التقليدية للعلمنة، واستمرار تزايد تأثير الدين في أمريكا ومناطق أخرى حول العالم عدا أوروبا، وتزايد مستويات الهجرة إلى أوروبا بشكل أوجد تنوعاً مجتمعياً كبيراً انعكس على صعوبات في التعايش بين المجتمعات المهاجرة والمجتمعات الأوروبية، طرح الفيلسوف هابرماس مقاربة “ما بعد العلمانية” في تسعينات القرن العشرين على خلفية  قلقه من عدم قدرة مجتمعات ما بعد الحداثة في الغرب على توليد قيمها الخاصة، واستلهامها للأخلاق من تراث القيم اليهودية والمسيحية، ودعا إلى ضرورة انفتاح العقلية العلمانية على التأثير الديني للمواطنين. والنظر إلى الحدود الفاصلة بين العلمانية والأديان باعتبارها حدوداً مرنة تتطلب من كل طرف مراعاة منظور الطرف الآخر. فعصر ما بعد العلمانية لدى هابرماس لا يعني رفض العلمنة أو الدعوة إلى عودة السلطة الدينية، إنما يعني العمل على إيجاد مجتمع ديمقراطي أكثر تعددية يشارك المتدينون خلاله في بناء المجال العام. 

العلمنة الاجتماعية وتغييب معنى للحياة

لم تنجح المجتمعات العلمانية الغربية في توليد قيمها الخاصة، واعتمدت بدلاً من ذلك على تراث القيم اليهودية والمسيحية كمصدر للأخلاق، وهو ما يشير إلى فجوة كبيرة لم تنجح العلمنة في تغطيتها. وبشكل عام فقد تعرضت نظريات العلمنة لانتقادات جوهرية في ظل عجزها عن تقديم إجابات عن الأسئلة الوجودية التي من شأنها أن تجعل الحياة ذات معنى، مثل الهدف من خلق الإنسان، ومصير البشر بعد الموت، وكيفية محاسبتهم بشكل عادل على أفعالهم الخيرة والشريرة، وهو ما يمثل نقطة قوة للدين الذي يخاطب فطرة الإنسان ويجيب عن أسئلته الوجودية، ويمنح حياته مغزى وهدفاً أكبر يتجاوز القيم المادية.

المصادر

  • رودني ستارك، 1994، إعادة تفسير جانب العرض لعلمنة أوروبا، ص: 241.
  • بيبا نوريس ورونالد إنغلهارت، 2011، “مناظرة العلمنة والنظريات التقليدية للعلمنة”، عن المقدس والعلماني: الدين والسياسة في جميع أنحاء العالم، كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج، ص: 12.
  • يورغن هابرماس، 2008، “ملاحظات حول المجتمع ما بعد العلماني”، ص: 18

عربي بوست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post مركز الزيتونة يصدر المجلد السابع “اليوميات الفلسطينية لسنة 2020”
Next post نضال المرأة ضرورة اجتماعية وليس ترفاً