أنطولوجيا الاقتصاد

تامر البطراوي

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_مقالة حول رؤية سياسية للاقتصاد في ظل الأوضاع الراهنة
نحن نفرق كباحثين وعلماء في علم الاقتصاد ما بين مراحل تدوين علم الاقتصاد وما بين مراحل تغيرات الاقتصاد نفسه، فمراحل التدوين للاقتصاد بدأت متسمة بالطابع الفلسفي مع زينوفون سنة 362 ق.م، ثم تلونت التحليلات الاقتصادية بالطابع الديني خلال فترة المدرسين (اللاهوتيين) لمدة ألف عام تقريبا من القرن الخامس وحتى الخامس عشر، ثم أصبح التنظير للاقتصاد هو حديث التجار والسياسيين خلال الحقبة الماركنتيلية اللاحقة وحتى منتصف القرن الثامن عشر، وأخيرا تقلد الراية مع نهايات القرن الثامن عشر أساتذة جامعيين عرفوا بالأرثوذكس أو الكلاسيك.. كانوا بحث مفارقة علمية وقطيعة أبستمولوجية بين ما اتوا به من البداية الفلعلية لنظرية الاقتصاد السياسي العلمية وبين كل ما سبق من اجتهادات.. ثم حدثت القطيعة الابستمولوجية الثانية مع الكلاسيكيون الجدد بداية من عام 1890 ونشأة علم الاقتصاد وتقسيمه إلى كلي وجزئي وجعل محور موضوعه العرض والطلب..
وحتى تلك المرحلة لم يكن لخلق الانتاج سوى ما علمه العالم منذ قديم الأزل وحتى وقته من عوامل الانتاج الثلاثه بتفريعاتها وتفاصيلها المعروفة (الأرض، والآلة، والعنصر البشري).. فهي العوامل التي عندما تجتمع يظهر الانتاج سواء زراعي او صناعي أو خدمي..
نلاحظ أنه تغير الفكر الاقتصادي وتغيرت الأيديولوجية التي تعالج موضوع الانتاج من فلسفية إلى لاهوتية إلى وضعية.. نعم تغيرت التوصيات والوصيات والتوقعات بشأن الثروة ولكن ظلت عوامل الانتاج ثابته وبذلك ظل الاقتصاد أو الانتاج في نفس طريقته وكينونته.. سنصف ذلك بالوضع الثابت للكون الاقتصادي والذي لم يتغير فلكه..
ولكن ما حدث بعد ذلك مع حلول القرن الواحد والعشرين بدأت نظهر في الأفق مصطلح نظريات تلفت الأنظار إلى فكرة أن العالم في القرن الواحد والعشرين تحرك لمرحلة مختلفة عن المرحلة السابقة اختلف معه فيها عالم الاقتصاد والأعمال، خاصة مع ظهور الأعمال الإفتراضية مع بدايات الواحد والعشرين والتي قد يحدث فيها الإنتاج فيها على السحاب وبدون تدخلات بشرية إلا على سبيل الندرة..!
مع حلول عام 2011 قدم كلا من (Khin, Ying, Meng, & Fatt) وأيضا ستيوارد كليج (Stewart R. Clegg) (Groth, 2012)، أطروحتهم حلو موضوع النظرية الإنطولوجية في عالم إدارة الأعمال (Ontology theory of management) والتي انطلقت فرضياتها من أن الكون الاقتصادي يترك الآن لمنطقة جديدة لم يكن بها من قبل في أي وقت مضى!!، لقج كان مفاد تلك الأطروحة الهامة التوصية بأن عالم الاقتصاد والأعمال يتحرك الآن إلى وجود مختلف عن المرحلة السابقة، ومن ثم فإن طبيعة التحركات والممارسات الإدارية في هذه المرحلة يجب أن تكون بشكل مختلف عن الماضي..
بحق لم يكن في استيعابنا عندما كنا نطالع أوراق تلك المدرسة الجديدة ما الذي يجب أن نفعله؟ وما المقصود من تلك التوصيات؟ كيف يجب أن تكون ترجمتها العملية.. لم تكن بعد قد اتضحت حيثياتها وأبعادها.. ولكن مع الوقت سرعان ما اتضحت الاشكاليات الاقتصادية والسياسية الضخمة حول ذلك المفهوم، لقد تفحلت الشركات السحابية كونية النشاط ليظهر تحتها كل ما سبق من أعمال ضخمة للمراحل السابقة كأقزام! امتدت خيوط وأرجل وأيدي الشركات الكبيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر.. من موقعها السحابي لكل نقطة بالعالم متخطية بذلك أي قيود اجتماعية أو حدود سياسية أو معوقات اقتصادية..!
لقد ارتجت الأنظمة التقليدية بشدة تلك المعتمدة على الأوراق الرسمية الممهورة بأختام الدولة لمحل الإنتاج المعنون بعنوان مكاني يقع تحت أيدي وأنظار الدولة.. وأصبح فرد بدولة بالشرق ينشأ وحدة إنتاجية سحابية بدولة بالغرب ليقوم بتحقيق أرباحه مع دولة بالجنوب ثم تحويل أرباحه لدولة بالشمال!
وبدون اسهاب لايغني المعنى الذي أظنه اتضح..
لقد كان التحدي الأساسي لدى كل حكومات العالم يتجسد أساسا بشأن هيئات السجلات التجارية الرسمية ووظيفة الحصر وسلطة الترخيص بشأن تنظيم السوق.. ولدى جهاز الضرائب الذي قد يحمل الدين الحكومي على العين في حالة تلاعب المالك.. المالية أيضاً كانت تفرض الجمارك والرسوم على عبور المواني..إلخ، كل الدول التي تباطأت في استيعاب حركة الكون الاقتصادي إلى الفلك الجديد لم يتسرب فقط مستحقاتها من التدفقات الضريبية وسلطتها المستحقة في تنظيم النشاط وحسب، وإنما ساهمت بشكل أو بآخر بسبب غياب دورها التنظيمي في حدوث فوضى، فموظفي الدولة لم تكن الأمور لديهم واضحة بشأن تلك الأعمال ولا اللوائح الواجبة اتباعها بشأنهم، افتقدت للثقة التي حظيت بها أعمال أكثر تنظيما بدول أخرى، تضررت أعمال محلية نتيجة لغياب الدعم الحكومي اللازم على حساب أعمال سحابية بدول أخرى تفطنت حكوماتها لدعمها الواجب.. فتحولت قوة العمل في الأولى تجاه الأعمال العشوائية، مثل قيادة التوكتوك كوظيفة، والباعة الجائلين واحتلال الأرصفة، ومشكلة السايس.. نتيجة حدوث فائص بسوق العمالة متوسطة المهارة نصف المتعلمة (حملة البكالوريوس) مما أدى لاقتحام ذلك الفائض سوق العمالة غير الماهرة ومنعدمة المهارة، والذي أدى بدوره لدفع الفئة الأخيرة لإحداث تغيرات سلبية ضخمة بشارع الدولة.. وضخم الأثر السلبي..
جائت ردة فعل الدولة تجاه الأعمال السحابية متخبطة في البداية فمن ردود فعل عنيفة من بعض الدول كقانون حظر أي موقع الكتروني إلا بعد ترخيص من المجلس الأعلى للإعلام ودفع رسم 100 ألف جنيه، ورأس مال مرخص للشركة بملايين.. والتي جائت بسبب خطر سياسي فادح سببته بعض المواقع الإعلامية المتلاعبة.. إلى شبه الاستقرار على عدم تفعيله بشأن المواقع غير الإعلامية، إلى عدم وضوح بشان من ينبغي تطبيقه لدى بعض الموظفين المسؤولين حتى يومنا…! الضبابية أيضاً تتضح مع حالة الرغبة في التسجيل الرسمي لعمل ليس له مقر إداري وإنما نشاطه سحابي فقط، فمثل هذا العمل لا يمكن تسجيله ببعض الدول.. مما يترتب عليه عرقلة العديد من الأعمال الهامة المكملة لنمو ذلك النشاط واتجاه الرواد للتكيف مع الوضع القائم..
هل نقوم بإستضافة الموقع الإلكتروني من خلال سيرفر أجنبي؟ ووضع أرقام محمول أجنبي؟ لتجنب أي إشكالات قانونية؟ ماذا لو عمل موظف محلي بعمل إلكتروني بدولة أخرى كيف سيكون وضعه القانوني بالدولتين؟!
من الدول الرائدة بالشرق الأوسط التي أضحت منتبهة لهذا الشأن كانت المملكة العربية السعودية والتي اهتمت في فترات مبكرة برقمنة الدولة وانتقالها بشكل دقيق وفعال وحقيقي إلى المنطقة السحابية، فأنشأت عاصمتها الإدارية بالسحابة السعودية، والتي تميزت بالبيانات التفصيلية المفتوحة لكل أركان وتفاصيل الدولة مما عزز الشفافية التي تدعم استشارات أكثر دقة، كما تميزت بإمكانية طلب كافة الخدمات الحكومية إلكترونياً، أما السبق الذي كان ريادياً فهو إمكانية تسجيل عمل تجاري بدون وجود مقر مكاني.. فإذا كنت تريد الحصل على سجل تجاري وبطاقة ضريبية وترخيص مزاولة مهنة فلا يشترط تأجير مكان إداري بمبلغ باهظ ثم الحصول على إثبات تاريخ من الشهر العقاري من خلال يوم مرهق ثم الحصول على البطاقة الضريبية بعد عمل معاينة مكانية للموقع..الخ ، ولكن يكفي طلب تسجيل شركة إلكترونية بدون مقر وطلب الخدمة إلكترونيا للحصول على أوراقك الرسمية ما انطبقت عليك الشروط والتي أبرزها شرط المواطنة!
الإشكالية التي لم تقل عن سابقتها من حيث الغفلة عن الدعم الواجب للرضيع السحابي المحلي على حساب دعم أعمال سحابية لدول منافسة مما ساهم في التحول البشري نحو أعمال عشوائية.. كان التهديد الموجه من عمالقة الكون الاقتصادي السحابيون الجدد.. أو الشركات التي تعدت حاجز التريليون دولا مايكروسوفت، ألفا بيت، أمازون، فيس بوك، علي بابا.. تلك الشركات تضخمت لدرجة أن أصبحت الواحدة منها بنحو خمس وعشر أضعاف حجم دولة متوسطة! وذلك من خلال سيطرتها السريعة على حين غفلة من العالم على اقتصاد دول العالم..
ولكن انتبه العالم أخيراً إلى التحدي الذي تمثله شركة واحدة والتي لا يمكن لدولة بثقلها مواجهته وحدها، فاجتمعت نحو 139 دولة حول العالم بما فيها الدول الصناعية السبع الكبرى، تحت أعمال المؤتمر الثاني عشر لأعضاء الإطار الشامل لبرنامج مُكافحة تآكل الوعاء الضريبي ونقل الأرباح، ونظمته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وشارك في أعماله أكثر من 650 ممثلًا عن الحكومات والمنظمات الدولية.. والذي توصل لإتفاق تاريخي في 4/7/2021 فيما يتعلق بمجال الضرائب الدولية، خاصة ضرائب الشركات مُتعددة الجنسيات.. والذي اتفق على وضع قواعد ضريبية جديدة يمكن من خلالها السيطرة على الشركات مُتعددة الجنسيات من خلال تطبيق حد أدنى لسعر الضريبة لا يقل عن 15%

الحوار المتمدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post حملة تشكّيك في صحة هاري العقلية
Next post ولاية رابعة لمارين لوبان