على أي نظام من نظامي الحكم الملكي يتباكى اليوم مناصروه..؟
زكي رضا
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_الذكرى الثالثة والستين لثورة الرابع عشر من تموز على الأبواب، وكعادة هذه المناسبة وعند حلول ذكراها تبدأ الأقلام بالكتابة عنها سلبا وإيجابا، وكلا من نظرته ومصلحته لما انجزته الثورة من منجزات أضرّت بجزء من المجتمع ومنحت الحياة لجزء آخر منه. ولم تشذّ الثورة في هذا السياق عن بقية الثورات والتغييرات الكبرى في البلدان المختلفة بالعالم، ففي أي تغيير كالذي حدث عشية الرابع عشر من تموز 1958 علينا أن نضع ذلك التغيير في سياقه التاريخي وليس كحدث آني. وما حدث فجر الرابع عشر من تموز 1958 ، لم يكن تغييرا فوقيا للسلطة ولا إنقلابا عسكريا لمجموعة ضباط مغامرين كتلك التي حدثت قبله أو بعده بالعراق أو غيره من البلدان، بل أن الثورة كانت زلزالا غيّر نظام سياسي إجتماعي الى آخر جديد ومختلف عنه بشكل كبير. والواقع “أنّ إلقاء نظرة سريعة على الآثار اللاحقة يكفي لجعلنا نعرف إننا امام ثورة أصيلة” (1) . وتغيّر نتيجة الثورة كذلك “نمط حياة الفلاحين نتيجة لإنتقال الملكية من ناحية ولإلغاء أنظمة النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني من ناحية أخرى” (2)
الصراع بين المدينة والريف هو صراع بين مباديء حياة وأفكار ورؤى، وهذا الصراع كان موجودا بالعراق قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة. فبعد إنهيار الدولة العباسية تراجع دور المدن نتيجة الخراب الذي أصابها بغياب دولة مركزية قوية ونظام سياسي قادر على تجاوز الأزمات، وهذا التراجع يصاحبه دوما نمو وقوة العشيرة وأفكارها ورؤاها وطبيعة وشكل الحياة التي تسعى إليه. وقد إستمرت هيمنة المؤسسة العشائرية خلال العهد الملكي، وكان مشايخ العشائر هم الحكام الفعليون لجزء كبير من الريف كما يقول بطاطو. وممّا يؤكد وجهة نظره هو وجود حوالي “أكثر من 100 الف بندقية بينما كانت الحكومة لا تملك غير 15 الفا منها” (3)
بعد الإحتلال البريطاني للعراق عمل المحتلون على تجنب التكاليف الباهضة لبقاء قواتهم في البلاد، ورأوا كما يقول بطاطو أنّ “موازنة العشائر ضد أهل المدن ضمانا اكيدا لإستمرار سلطتهم. وهكذا فإنهم لم يحاولوا فقط وقف العملية المبتدئة للإنحلال العشائري أو صون سلطة رؤساء العشائر أو المحافظة على الحد الأدنى فحسب من التفاعل بين أهل المدن والعشائر، بل أنهم عملوا ايضا على تدعيم الإنشقاق القائم بتقوية العادات العشائرية والإعتراف بها رسميا”(4) . وقد أصبحت العادات العشائرية وانظمة النزاعات العشائرية والتي اصدرها المحتلون بصيغة بلاغات في السابع والعشرين من تموز / يوليو 1918 لها قوة القانون، كما يقول بطاطو، وتحولت بعد إصرار الانكليز قانونا نافذا للبلاد في العهد الملكي بموجب المادتين 113 و 114 من الدستور العراقي للعام 1925 ، بعد ان إستثنت الريف من سريان القانون الوطني عليه.
وهكذا “فقد بقي العراق من الناحية القانونية، وحتى ثورة تموز 1958، يخضع لنظامين، واحد خاص بالمدن، وآخر خاص بالريف العشائري” (5) . والغاء قانون العشائر من قبل حكومة الثورة، والبدء ببناء مجتمع جديد مركزه المدن وتحت سلطة القانون والدستور، والذي أدّى الى افول دور المشايخ ورجال الدين، هو من جعل المؤسستين العشائرية والدينية أن تتحالفا مع البعث والقوى الرجعية والإمبريالية وشركات النفط، لقتل ثورة تموز وقادتها.
أن نظام المحاصصة الطائفية اليوم، والعراق يعيش ضعف مدنه وخرابها وهيمنة العشائر وعاداتها وقوانينها من جهة، وهيمنة المؤسسة الدينية وإفرازاتها من جهة ثانية، تجعل من بلدنا يعيش نفس حالته إبّان العهد الملكي إن لم يكن أسوأ. فالعشائر اليوم تمتلك الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، وأبناءها هم العمود الفقري للجيش والميليشيات المسلحة، وولائهم للعشيرة والطائفة وليس للوطن. والعشائر اليوم وبدعم حكومي ريّفت المدن وعلى رأسها العاصمة بغداد، التي ما هي اليوم الا منطقة ريفية تهيمن عليها الأعراف العشائرية وقوانينها، بعد أن فقدت الدولة هيبتها وهي في تراجع مستمر أمام غول العشائرية الذي يقود البلاد نحو الهاوية حضاريا.
أن يقف الإسلاميين ضد ثورة الرابع عشر من تموز، أمر لا غبار عليه بالمطلق. فالإسلاميين والشيعة منهم على الخصوص، كانوا من الد أعداء الثورة على الرغم من انها قدمت لبسطاء الشيعة الكثير. فالثورة اعادت للفلاحين وغالبيتهم من الشيعة كرامتهم التي صادرها منهم الإقطاعيون إبّان العهد الملكي، ووزعت عليهم الاراضي الزراعية من خلال قانون الإصلاح الزراعي. وبنت لهم مدينة كاملة هي مدينة الثورة، بعد أن كانوا يعيشون في ظل ظروف إنسانية بالغة القسوة والمهانة قبلها. لكن الأمر الغريب هو وقوف من عاصر الثورة وشاهد إنجازاتها في عمرها القصير مقارنة بعهدة العراق السياسية المختلفة، ضدها.
اليوم من حقنّا أن نتساءل والأقلام المأجورة وهي تنهش جسد ثورة الرابع عشر من تموز وإنجازاتها التي لم تحققها أية سلطة جاءت بعدها، و خصوصا السلطة الكارثية التي تقود البلاد اليوم وهم يتباكون على النظام الملكي، ويصبّون جام غضبهم على ثورة تموز محملين إياها وزر جرائم البعث ونظام المحاصصة اللذين دمرا البلاد، أن أيتها السيدات والسادة: على أي من نظامي الحكم الملكي تتباكون، نظام المدن أم نظام الريف العشائري كالذي تعيشون نسخته القبيحة اليوم!؟
الحوار المتمدن