مآلات الدستور في تونس
طارق اوشن
شبكة المدار الاعلامية الاوروبية…_في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، أصدر الرئيس المصري المنتخب، وقتها، إعلانا دستوريا يحق له، بموجبه، “اتخاذ الإجراءات والتدابير الواجبة لمواجهة أي خطر يهدد حياة الأمة أو الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة، على النحو الذي ينظمه القانون”، بالإضافة إلى تعيين النائب العام من بين أعضاء السلطة القضائية، مع تحصين الإعلانات الدستورية والقرارات الصادرة عن الرئيس من الطعن حتى نفاذ الدستور الذي كانت تشتغل عليه جمعية تأسيسية قضى الإعلان بتمديد مدة عملها شهرين إضافيين.
شكل الإعلان الدستوري فرصة سانحة للقوى السياسية، التي فشلت في كل المحطات الانتخابية السابقة له من كسب ثقة الناخبين، للانطلاق في حملة شعواء تندد بديكتاتورية الرئيس الفرد الذي أسماه محمد البرادعي يومها “الحاكم بأمر الله”
اعتبرت المنظمات الحقوقية والجمعيات والهيئات السياسية في مصر وغيرها من دول المنطقة، بما فيها تونس الياسمين، أن الإعلان يمنح الرئيس سلطات فجة و”يُقدّم للمواطنين خلطة مسمومة بديباجته التي تحتفي بالثورة وأهدافها في ترسيخ الحرية وإنجاز التحول الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، وتزعم أن هدف مؤسسة الرئاسة القضاء على الفساد وتطهير مؤسسات الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية، في حين تأتي نصوص الإعلان لترسخ الاستبداد وحكم الفرد وتمنح لرئيس الجمهورية، بالإضافة لجمعه بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، صلاحية التدخل في أعمال السلطة القضائية. وهو الأمر الذي ينسف مفهوم التوازن بين السلطات والفصل بينها”.
وزادت تلك المنظمات بالقول “وتأكيدًا على ذلك فقد اختار الرئيس أن يوجه خطابه أمس وسط مؤيديه أمام قصر الاتحادية، حيث اتسمت لغة الخطاب بالحدة والوعيد بالتنكيل بمعارضيه”.
انتهت المعركة بسحب الإعلان الدستوري في شهر كانون الأةل (ديسمبر) من نفس العام، لكن ذلك لم يشف غليل “النخب الليبرالية واليسارية” التي ما كانت ترى غير “رموزها” مؤهلة لحكم مصر، ولو على حساب صندوق الاقتراع، فتحالفت مع العسكر بعد “خديعة” ثورة الثلاثين من يونيو لسجن الرئيس الشرعي وتعطيل البرلمان المنتخب، قبل أن تجد نفسها بعد سنوات تجاور من تواطأت على سجنهم، أو تتسول ظهورا تلفزيونيا لتمجيد “الحاكم بأمر الله”، الذي يحدثه رب العزة من سبع سماوات ويجادله في أمر شعب مصر والمصريين، بؤساء كانوا في البدء والانتهاء وسيبقون.
لقد صار دارجا عند الشعوب العربية معرفة الانقلاب والانقلابيين من علامات دأب هؤلاء على الإقدام عليها كخطوة أولى من خطوات “تصحيح مسار الثورة” وهي إغلاق مكتب قناة الجزيرة الإخبارية ومحاولة منعها من تغطية الأحداث، والإصرار على التبرؤ من صفة “الانقلاب” وإن أنزلوا الدبابات والجنود إلى الشوارع تحت صيحات وهتافات المواطنين “الشرفاء”. في الحالة التونسية،تحققت العلامتان وانضافت إليهما العلامة الأبرز وهي احتفاء إعلام مصر وأبو ظبي والرياض بـ”الحركة المباركة” وبسحق “الإخوان”.
كان لزاما أن تتميز تونس في الانقلاب كما كانت في “الثورة”، فهي لم تحتج لمخرج من طينة خالد يوسف ليصور “الملايين” التي خرجت لحرق مقار حزب حركة النهضة دونا عنها من أحزاب الطيف التونسي وما أكثرها. وما احتاجت لحفل انقلابي يحضره ممثلون عن الجهات الداعمة دينية كانت أم سياسية، بل اكتفى “الأستاذ المساعد” في القانون الدستوري بـ “هري” تفسير الفصل الثمانين من الدستور متحصنا بقيادات عسكرية وأمنية على التلفزيون وفق سيناريو التسريبات التي سبقت الحدث منذ أسابيع.
ولأن المنتظر كان خروج أنصار النهضة، ومن معها، إلى الشوارع اعتصاما واحتجاجا لتبرير مسلسل القمع وتخويف الداخل والخارج من جحافل “الإسلاميين”، فقد وجد القوم المنقلبون أنفسهم في ورطة غياب “شعب” النهضة والإسلاميين عن الشارع، فانكشف انعدام أي رؤية واضحة لما بعد انقلاب قيس سعيد، بما فيها تشكيل الحكومة المنتظرة لحل الأزمات المستفحلة، فأضاعوا الأيام والليالي في إقالة مسؤولين أغلبهم أمنيون وإعلاميون تمهيدا لما قد تحمله الأيام القادمة من مفاجآت تضع الرئيس “المنقذ” في مواجهة الشعب “الحالم” باسترجاع الأموال المنهوبة وتقسيم كعكة “الثروة” لما بعد “ثورة” أرادوها مصادفة للعيد الوطني، كما صادفت “ثورة” العسكر الذكرى الأولى لتنصيب محمد مرسي رئيسا لمصر.
كواليس ومآلات انقلاب “الأستاذ المساعد” القانون الدستوري ستتكشف كلها أو بعضها تسريبات أو زلات لسان، ولا مجال اليوم للتنجيم، فالتاريخ والمستقبل كفيل بالفصل بين الحق والضلال. لكن الانقلاب كان مناسبة أخرى للتأكيد لمن لا يزال في حاجة إلى بيان، حجم الهوان ودرجات استعداد “النخبة” من اليسار العربي للتزلف والتبرك بتلابيب المنقلبين ومن وراءهم من متعهدي “أعراس” التغيير الديمقراطي العربية بالخليج.
فإن كانت التمويلات الخارجية واضحة في تشكيل مواقف عدد من الأحزاب والإعلاميين ومدعي الثقافة بتونس منذ سنوات، فإن ما استتبع انقلاب قيس سعيد من بيانات مترددة في توصيف الحالة بما تقتضيه ومحاولات تجميله بل تسول خارطة طريق من الانقلابيين لإعادة الحياة الدستورية في أقرب الآجال، وكأني بهم يعتقدون ألّا راد لقضاء قيس، وأن من طوّع الفصل الثمانين، بما لا ليس فيه، وكذب أمام الملأ باحترام مقتضيات الاستشارة والتبليغ، سيتورع عن خرق ما تبقى من الفصول بما تحمله من مهل محددة وإجراءات، وكأن مهلة الثلاثين يوما كفيلة بإعادة تشكيل المشهد ودرء الخطر الداهم كما “يرتضيه” الرئيس.
دعك من موجة الخبراء الذين ظهروا فجأة على قنوات الصرف الإعلامي للتحذير من الجهاز السري للنهضة ومن أذرعها العسكرية الإرهابية، فهؤلاء قوم ممن رُفِع القلم عنهم وسينتهون إلى مزبلة التجاهل والنسيان.
الموضوع اليوم متعلق بهيئات نقابية وسياسية، لم يتوان رئيس إحداها من المناداة علانية باستقالة سعيد قبل أيام ربما لتأخره في تنفيذ الانقلاب، قبل أن يبادر إلى “صياغة” خارطة طريق بالنيابة عن الانقلابيين.
الغريب أن رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، وبعد خطأ دعوته الأنصار إلى الزحف للاعتصام أمام البرلمان قبل تدارك الأمر وتفويت الفرصة على المتربصين، يواصل “خطيئة” التقوقع الحزبي حيث صار مجرد متحدث باسم النهضة وهو الرئيس الشرعي للبرلمان، وبهذه الصفة كان بالإمكان حمل مهمة استعادة الديمقراطية والدفاع عن التمثيلية الشعبية في مواجهة تغول الرئيس وتغييب رئيس الوزراء عن الأنظار.
الأكيد أن الرئيس / المنقلب، ومن وسوس له في الداخل والخارج، صاروا اليوم مكشوفين أمام الشعب. فلا رئيس حكومة أو وزراء “فاسدين”، ولا برلمان أو برلمانيون “فاسدون” ولا رجال أعمال “ينهبون” ثروات
البلاد سيقفون اليوم حاجزا أمام رؤية / رؤيا الفريق الرئاسي في إنقاذ تونس والاستجابة لتطلعات التونسيين.
احتفالات “العرس” الديمقراطي لن تدوم طويلا ولا “شهر العسل” سيستمر إلى ما لا نهاية، ووقت الحساب أقرب مما يعتقده حكام قرطاج الجدد. أما التعويل على الدعم الخارجي، بيانات متواطئة أو وعودا بتمويلات سخية، فمجرد سراب ظهرت محدوديته في عواصم الردة السابقة ولن يكون الحال أفضل في اللاحقة أو المدونة في لائحة الانتظار لا ريب.
في الثالث من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1993، اندفع الروس إلى مبنى البرلمان لإزاحة العوازل الأمنية والأسلاك الشائكة التي كان الرئيس بوريس يلتسين قد أقامها حول المبنى حيث حاصر البرلمانيين لأسبوعين، بعد إعلان المحكمة الدستورية “عدم دستورية” القرارات التي كان أقرها بحلِّ المجلس في الواحد والعشرين من شهر
أيلول (سبتمبر) من العام نفسه. وكانت الأزمة الدستورية بروسيا قد نجمت، وقتها، عن الخلافات حول الإصلاحات وأساليب بناء الدولة الجديدة ما بعد الحقبة السوفييتية، بين السلطة التنفيذية بقيادة يلتسين والبرلمان برئاسة روسلان حسبلاتوف، الذي كان من أشد أنصاره قبل أن يتحول إلى عدوه اللدود.
لم يتورع بوريس يلتسين عن قصف مبنى البرلمان، بمن فيه، بالدبابات في الرابع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) بدعم غربي كان يعتبر المكان واحدا من “المعاقل الأخيرة للشيوعية” فغضّ الطرف عن تدميره إن لم يكن قد شجع عليه. استحوذ يلتسين على سلطات واسعة بموجب دستور 1993، فانطلق وحيدا، بعد اعتقال معارضيه والتنكيل بهم، لـ”إصلاحات” اقتصادية بنى بها أوليغارشية من رجال الأعمال لحماية حكمه مقابل إضعاف الجيش، الذي استخدمه ضد خصومه، في حروب انفصالية لمواجهة “الإرهابيين” أنهكت البلاد وانتهت بتعثر روسيا عن سداد التزاماتها
المالية ورهنت مستقبلها لمؤسسات الإقراض الدولية.
بعدها بست سنوات، وبعد انتخابات مزورة في العام 1996 أبقته على كرسي الحكم، وبعد تزايد السخط الشعبي ضده ومناقشة مجلس النواب الجديد (الدوما) مسألة عزله، لم يجد يلتسين غير التنحي وتسليم السلطة لرئيس الوزراء يومها فلاديمير بوتين المستمر معنا حتى اليوم.
في تونس تحققت “نبوءة” حكاية الحمار الذي أكل دستور ضيعة دريد لحام، كما استشهد بها قيس سعيد ذات يوم وهو يعبر عن مخاوفه من الانقلاب على دستور الثورة الذي ارتضاه التونسيون قانونا لا يعلى عليه. يظن “الحمار” أن الفرصة سانحة ليرتع في ما يعتقده “زريبة”. لكن الاحتماء بالجيوش واستخدام الدبابات أو التهديد بها أو تجييش “الأنصار” لم يكن يوما حاجزا بين الأمة و”ممثليها” من دخول البرلمان. اقتحام الكونغرس لم يمنع دونالد ترامب من مغادرة البيت الأبيض، وقصف البرلمان لم
يمنع بوريس يلتسين من التنحي.
“قيس سعيد”، الذي يشبه الرجلين في تعمد الحدة في الحديث وتصنع القدرة على إيذاء الخصوم، لن يختلف مصيره عن مصيرهما، وإن اختلف عنهما في الحجم والطول وفي شعر الرأس الكثيف. المسألة مسألة وقت ليس إلا.
عربي 21