لبنان يغرق وحيدا

شريف أيمن

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية” (البند ح من مقدمة الدستور اللبناني).

أواخر 2019 اندلعت تظاهرات تطالب بإنهاء حكم الطبقة السياسية في لبنان، وارتفع شعار “كلن يعني كلن”، وأشرق الأمل بإنهاء الطائفية في لبنان، بعد تحرك كتل واسعة من المتظاهرين، ثم جاءت جائحة كورونا، فأفقدت المظاهرات قدرتها على الاستمرارية، وأدخلت لبنان في أسوأ أزمة مالية في العالم خلال القرنين الأخيرين.

عقب استقلال لبنان عن الاحتلال الفرنسي عام 1943، وُضع الدستور اللبناني، وجرى تقسيم السلطات التشريعية والتنفيذية على أساس طائفي، فينال المسيحيون الموارنة رئاسة الدولة، ويتولى السنة رئاسة الوزراء، بينما يرأس الشيعة المجلس التشريعي. ولا يوجد نص دستوري بهذه التقسيمات، لكنها بذرة طائفية فرنسية لم يكن لها نظير في زمن بَذْرِها، وقد أفضت إلى ترسيخ النعرة الطائفية. وبعد ثلاثة عقود فقط اندلعت حرب طائفية حصدت ما حصدت من أرواح اللبنانيين، لكنها تركت جراحا لم ينسها من عاصروها، وقطعا تسرّب إلى أبنائهم بعض من إرثها المرير.

عندما ارتفع شعار “كلن يعني كلن”، كان الأمل مصحوبا بالخوف من ردود فعل “ملوك الطوائف” اللبنانيين، وقد شابهوا ملوك الطوائف في الأندلس، الذين تقاسموا السلطة والمال والنفوذ، فانتهت حضارة الأندلس التي قدحت مشاعل عصور التقدم فيما بعد، وانتهت الحضارة بفعل تغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة. وما أخوفنا من ردود فعل ملوك الطوائف اللبنانيين على أي مطلب يُعلي مصلحة الوطن فوق مصلحة الطائفة، وما أخوفنا على انهيار الدولة اللبنانية وقد انقسم أهلها، وتدهورت العملة المحلية، وغرق البلد في الأزمات الاقتصادية، وترتب عليها شح الوقود، وانقطاع الكهرباء، ويوشك مرفق المياه على الانهيار، وهي القضايا التي تُفصّلها تقارير على النحو التالي:


أولا: “لعل الأزمة المالية والاقتصادية التي تضرب لبنان، من بين الأزمات العشر، وربما من بين الأزمات الثلاث الأكثر حدة عالميا منذ أواسط القرن التاسع عشر (..) خلال الحقبة 1857- 2013. في الواقع تراجع إجمالي الناتج المحلي في لبنان من حوالي 55 مليار دولار أمريكي في العام 2018؛ إلى حوالي 33 مليار دولار في العام 2020، مع تراجع إجمالي الناتج المحلي للفرد بالدولار الأمريكي بنسبة 40 في المئة.

غالبا ما يُعزى مثل هذا الانقباض القاسي والسريع إلى نزاعات أو حروب. وحتى قبل ذلك لطالما صنّف البنك الدولي لبنان على أنه دولة هشاشة ونزاع وعنف، وبالتالي، قد تهدد الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتردية بانهيار وطني منهجي، قد تكون له انعكاسات محتملة على المستويين الإقليمي والعالمي، مما يجسد حجم الكساد الاقتصادي الذي يشهده البلد، من دون بارقة أمل بتغيير تلوح في الأفق، نظرا إلى التقاعس المتعمد عن اتخاذ السياسات الملائمة” (تقرير البنك الدولي عن لبنان- ربيع 2021).

والعودة إلى نص التقرير ستكون مفيدة في بيان الأرقام وتشريح الأسباب، لكن يمكن الإشارة سريعا إلى تأكيد التقرير على أن ما يجري بلبنان “كساد متعمّد”، وأن هناك غيابا للإجماع السياسي بشأن مبادرات سياسية فعالة، وهناك إجماع سياسي على الدفاع عن نظام اقتصادي مفلس. ويَرجع التقرير في تفسير الوضع اللبناني إلى تقرير آخر صدر عن البنك عام 2016، بعنوان “التشخيص المنهجي في لبنان”، وأحال عوائق التنمية في لبنان إلى عاملين؛ الحكم الطائفي، والنزاعات والعنف الناجميْن جزئيا عن صراعات واسعة النطاق في منطقة الشرق الأوسط.

ثانيا: صدر تقرير عن البنك الدولي أيضا وبالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، عقب كارثة انفجار مرفأ بيروت، وقدّر الخسائر والأضرار والاحتياجات لخمسة عشر قطاعا، فتراوحت خسائر القطاعات الإنتاجية والمالية، والقطاعات الاجتماعية، وقطاعات البنية التحتية، والقطاعات المشتركة، بين 3755 و4585 مليونا، بينما قُدّرت الأضرار بين 2865 و3510 ملايين، أما الاحتياجات فتتراوح بين 1785 و2215 مليونا، والأرقام كلها بالدولار الأمريكي.

وهذه الأعباء أتت في آب/ أغسطس، بعد الاحتجاجات التي اندلعت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 جراء الظروف المعيشية الصعبة، وبعد تفاقم جائحة كورونا مطلع عام 2020، فأضافت للأعباء اللبنانية أعباء أعمق، وللجراح جرحا آخر في الكبرياء والكرامة الوطنية لشعب ينفر من الذل؛ إذ تحرر مرتين في أقل من ستة عقود (فرنسا والكيان الصهيوني).

ثالثا: أصبح اللبنانيون مهددين بفقد إمدادات المياه العامة، في غضون أربعة إلى ستة أسابيع، بحسب اليونيسيف، وأصبح إطعام أسرة مكونة من خمسة أفراد يحتاج إلى 3.5 ملايين ليرة لبنانية، بما يساوي خمسة أضعاف الحد الأدنى للأجور، فضلا عن الاحتياجات الأخرى كالماء والكهرباء والوقود والغاز، بحسب دراسة للجامعة الأمريكية في بيروت. وأصبح الغاز المتبقي في لبنان لا يكفي سوى لعشرة أيام فقط، بحسب نقيب موزعي المحروقات، وأصبح الناس يموتون من أجل نيل الأولوية في ملء الوقود.

هذا الوضع لم ينشأ في لحظة مفاجئة، بل كان إرث قرن من التقسيم السياسي والاجتماعي. والمفارقة أن إعلان لبنان الكبير في أيلول/ سبتمبر 1920 من قِبل الجنرال الفرنسي هنري غورو في قصر الصنوبر، تصادف بعده بقرن كامل حادث المرفأ، في آب/ أغسطس 2020. وتقدمت فرنسا إلى المشهد، وذهب ماكرون إلى لبنان وتحدث كزعيم لبناني أو وصيّ على لبنان، وقال حينها: “لن نترك لبنان وحده”، ووبّخ النخبة السياسية اللبنانية، وأعلن نية بلاده دفع مساعدات مباشرة إلى اللبنانيين بعيدا عن السلطة السياسية القائمة. وبدا حينها ماكرون زعيما وطنيا، لا رئيس دولة أخرى احتلت هذه الأرض لربع قرن تقريبا، ووضعت أساس هذا التقسيم الطائفي، وهذه مسألة أخرى تستحق التفصيل.

عندما قامت ما تُسمى بـ”الثورة العربية الكبرى” ضد الوجود العثماني في المنطقة، تلقى قادتها وعودا بالاستقلال. وفي آذار/ مارس عام 1920 أُعلن استقلال سوريا بنظام حكم ملكي دستوري مدني، وكان دستورها ومؤتمرها التأسيسي قد تجاوزَا الإشكالات المتعلقة بالمواطنة ومكانة الدين في السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي، ورأس هذا المؤتمر الشيخ رشيد رضا، فكان ضمانة للمتدينين، ونجحت أول تجربة مستقلة في المنطقة، لكن فرنسا لم تقبل وجود حكومة مستقلة، رغم ما سبق من نزوع نحو الديمقراطية، وتذرعت فرنسا وبريطانيا بأننا لسنا مؤهلين بعد للحكم الذاتي، فجاء الجنرال غوابيه بتكليف من الجنرال هنري غورو في تموز/ يوليو من نفس العام، وأُسقط هذه الحكومة واحتلت فرنسا سوريا الكبرى، وقسمتها إلى وضعها الحالي (سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين).

خلال الحرب الأهلية بين أعوام 1975- 1989، كان نبيه بري، ووليد جنبلاط، وسمير جعجع، وميشال عون، أطرافا شاركوا في الاقتتال الذي أوقع ما يقرب من 120 ألف قتيل، والأول شيعي يرأس مجلس النواب اللبناني، والثاني زعيم الطائفة الدرزية، والثالث زعيم حزب القوات وهو مسيحي ماروني، والأخير ماروني أيضا ويرأس الجمهورية.

هؤلاء الذين أمعنوا في القتل والمذابح والانقلابات العسكرية هم الذين يحكمون لبنان، ومن يَفترض أنهم بعد حرب طائفية لأجل تقاسم المكاسب الخاصة في السلطة والثروة سيقومون بإنهاء الطائفية في لبنان فلا بد أن يراجع قدراته العقلية، ومن يظن كذلك أن فرنسا “الأم الحنون” لن تترك لبنان وحيدا وستعمل على إنهاضه فيحتاج إلى مراجعة عقله أيضا؛ ففرنسا هي التي وأدت تجربة الحكم الدستوري المدني في لبنان، وهي التي احتضنت ميشال عون في سفارتها 11 شهرا حتى لا يتم اعتقاله على جرائمه، وهي التي استضافته في المنفى 15 عاما بعد هروبه من بلده ليعود رئيسا.

اليوم يقف لبنان واللبنانيون وحدهم في ظل أزمة طاحنة، وهؤلاء الزعماء لا يأبهون حتى لمصالح طوائفهم أو قيم طوائفهم، بل تعنيهم مصالحهم التي ستروها برداء الطائفية، وما أخسها من مصلحة، وما أخبثه من رداء. وفي ظل ذلك يتمسك زعماء الطوائف بمواقفهم المتصلبة، ويقف اللبنانيون خائفين من تغيير الواقع السياسي الطائفي، بعدما امتلأت آذانهم وقلوبهم من تحذيرات زعمائهم الطائفيين الكاذبة حول خطورة أبناء الطوائف الأخرى، ورغبتهم في السيطرة على مكاسبهم. ولبنان يدفع ثمن هذا، ويجري قتال عنيف وشرس حول مركب غارقة.

على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية. وفي المرحلة الانتقالية: أ- تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة. ب- تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة، مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة” (المادة 95 من الدستور اللبناني).

عربي 21

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post مفاوضات فيينا حول النووي
Next post حكايا المدار الفنية ((فارس السينما المصرية أحمد مظهر))