بعد إجهاضهما ربيع العرب.. أين حصاد “الثورة المضادة” وإيران؟
ياسر الزعاترة
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_قلنا مرارا إن لقاءً غريبا قد حدث بين معسكرين متناقضين ضد “ربيع العرب”؛ الأول هو معسكر “الثورة المضادة” الخائف من فكرة التغيير أو الإصلاح، أما الثاني، فتمثله إيران وحلفها، ولنقل توابعها، بتعبير أدق.
سيقول البعض إن إيران لم يكن لها دور في الضربة الكبرى التي أصابت ربيع العرب في مصر، وهذا ليس صحيحا في واقع الحال، إذ لولا العقبة الكبرى التي صنعتها للربيع في سوريا، وهي الدولة التي يُفترض أنها الأسهل؛ تبعا لوجود نظام أقلية طائفي متوحّش، ولا مثيل له في الكون.. لولا ذلك، لاستمرت المسيرة ووصلت حتى الدول التي مثّلت معسكر الثورة المضادة، ولما سَهُل أمر الانقلاب في مصر على ذلك النحو.
ولم يتوقف العبث الإيراني عند سوريا، بل ذهب إلى اليمن أيضا، ليأتي على آخر أمل لجعل نتيجة الثورة هناك معقولة؛ ولو في الحد الأدنى، وليدفعها نحو ذات اللون الذي أرادته الثورة المضادة، أي النار والدمار والمعاناة، على أمل أن تفضي إلى تعليم الشعوب درسا في الطاعة، بالقول لها إن البديل هو نماذج سوريا وليبيا واليمن. نفتح قوسا كي نذكّر بأن حضور قوى ما يسمى “الإسلام السياسي” كهدف للهجمة، لم يكن إلا بسبب تصدّرها لربيع العرب، وأقلّه مرحلته التالية، وليس بسبب الهوية الأيديولوجية، ولو حدث أن تصدّرت قوىً من لون آخر، لما تغيرت السياسة حيالها.
في النتيجة العامة، وبعدما جرى في تونس، يمكن القول إن الطرفين المشار إليهما قد نجحا في تحقيق المطلوب، أي إجهاض ربيع العرب.
ولأن هذا ليس الوجه الوحيد للصورة، فإن سؤال حصادهما يبدو ضروريا أيضا.
في حصاد إيران يمكن القول إنه بائس، ولولا أن المعسكر الذي يواجهها (جزء من معسكر الثورة المضادة) يعيش تخبّطا عجيبا، لكان الحصاد أسوأ بكثير.
سيقول البعض إنها انتصرت في سوريا والعراق واليمن وتسيطر في لبنان، وهذا صحيح (نسبيا) من ناحية عسكرية، ولكن الحصيلة الكبرى لهذه التدخلات جميعا هو تكريس حالة عداء غير مسبوق مع غالبية الأمّة، الأمر الذي يعني نزيفا طويلا ومرعبا؛ إذا تم الإصرار على ذات السياسات، فضلا عن تراجع وأزمات في كل المواقع إياها.
في العراق، ها هي إيران تفقد حاضنتها الشعبية، كما أكدت نتائج الانتخابات، الأمر الذي كان واضحا منذ أن هتف شيعة في الشوارع “إيران برّا برّا”. وفي سوريا ما زال المأزق كبيرا جدا، بحضور الموقف الروسي المجامل للطرف الصهيوني، والباحث عن “تأهيل” عربي للنظام. وتذكّر أنك تتحدث عن بلد مدمّر ومدجّج بالثارات في زمن العنف الرخيص، وبلد له “شتات” بالملايين؛ سيصعب التعايش معه في زمن الفضاءات المفتوحة. أما في اليمن، فهناك دمار لا يتوقف، ولن يتوقف لأن الآخرين وداعميهم لن يصمتوا، ولو استمرت الحرب مئة عام، ولن يكون الحوثيون سوى أقلية مهما دار الزمان ودار. ثم أضف إلى ذلك لبنان الذي صار “حزب الله” فيه بحالة صعبة، ويتجرّأ عليه كثيرون، بل يفقد جزءا من حاضنته الشيعية المطحونة مثل غيرها، بل ربما أكثر.
كل ذلك في الدول المذكورة؛ يترك ظلاله على الداخل الإيراني المطحون بالوضع الاقتصادي الصعب، لا سيما أننا أمام نظام جعل عنوان نشاطه طوال 3 عقود هو مشروع التمدد ومتطلباته. وحين يدخل المشروع في مأزق كبير، فلا بد أن يرتد ذلك على الداخل؛ في وقت لا يبدو التفاهم مع أمريكا بشأن النووي قريبا؛ وتبعا له رفع العقوبات.
ماذا عن معسكر الثورة المضادة؟
هل يمكن القول إن نجاحه في سحق ما يسمى “الإسلام السياسي” يُعدّ إنجازا عظيما؟
هو كذلك في الظاهر، لكن الحقيقة أن ربيع العرب لم يكن مسألة دينية، بل حركة مطلبية طبيعية للشعوب، ما يعني أن سحق تيار أيديولوجي لا يعني سحق المطالب التي تزداد وضوحا بمرور الوقت، ولا تسأل بعد ذلك عن حقيقة أن القوى المسحوقة تحظى بالتعاطف، وقوتها لا تقاس بوجودها التنظيمي، بل بما تملك من حاضنة شعبية، وهي حاضنة لا تزال معتبرة رغم كل ما جرى.
ماذا بعد سحق “الإسلام السياسي”؟
لقد صنعت الثورة المضادة حالة بؤس كبيرة، وما تعيشه في اليمن ونزيفه هو الحالة الأبرز، لكن الحالات الأخرى ليست أفضل حالا، بخاصة أن أولويتها الأهم واقعيا تتمثل في وقف التمدّد الإيراني، وهو ما لم يحصل، بدليل أن المسيّرات الإيرانية والصواريخ البالستية ما زالت تهدد العمق السعودي ذاته، وتبتز آخرين.
سيُقال إن مأزق إيران الراهن، بجانب مأزق تركيا، يُسجّل كنجاح لـ”الثورة المضادة”، وهذا صحيح على نحو ما، لكنه مأزق صنعته سياسات قصيرة النظر من الطرفين، وكان يمكن تجاوزها في الحالتين. أما الأهم، فهو أن الإنجاز يُقارن بالهدف، وهدف “الثورة المضادة”، كان تركيع الشعوب.
نسأل بعد ذلك: هل يمكن لجنون “حفتر” أن يحمل ليبيا نحو أفق جديد؟ هل يمكن لانقلاب قيس سعيّد أن يفعل ذلك؟ هل نجاح الانقلاب في ترهيب الشعب المصري، يُعد نجاحا، بينما يغيب حضور مصر الإقليمي، ويُهدَّد أمنها القومي عبر “سد النهضة”، وعبر مجاملة الخطر الأكبر عليها “المشروع الصهيوني”، وكذا الصمت على التغوّل الإيراني؛ وفي وقت تتم مطاردة الطبقة الفقيرة بمنظومة اقتصادية جديدة لم تُعرف من قبل، بجانب انسداد سياسي شامل، وحالة قمع غير مسبوقة؟!
أضف إلى ذلك كله حجم النزيف المالي الرهيب الذي تمّ دفعه في عملية المطاردة، والذي لم يتوقف إلى الآن، ولا يبدو أنه سيتوقف قريبا، بخاصة ما يتصل بالنزيف اليمني، ويكفي دليلا على ذلك تلك الحوارات التي تجري مع إيران على أمل وقفه.
هل يمكن توصيف ذلك كله (في المعسكرين) على أنه نجاح عظيم، أم هو نجاح عابر ومؤقت، لا سيما أنه بديله في الحالتين كان يتمثل في تغييرات تحافظ على مصالح البلاد والعباد، وتستجيب لمطالب الشعوب، أو جزء منها، بدل ضربها لوقت لن يطول، لأن منطق التاريخ ما زال يشير إلى أن الثورات جولات، وفشل جولة لا يعني النهاية بحال.
عربي 21