المرأة المسلمة في الغرب الصورة النمطية
كلاوديا منده
ترجمة: صهيب زمّال
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_صورة نمطية عن “المرأة العربية المضطهدة” مترسخة في نقاشات ألمانيا العامة. لكنها صورة مشوَّهة تحجب الرؤية عن تغيرات حاصلة في العالم العربي لأدوار أفراد العائلة، بل وتعبر عن حالة من التوجس الثقافي في الأوساط الألمانية. تحليل الصحفية الألمانية كلاوديا مِندِه لموقع قنطرة.
حوار صحفي جنوب الأردن مع سيدة ترتدي لباساً محافظاً للغاية , تضع حجاباً على رأسها وترتدي رداءً طويلاً ولا أثر لأيّ مساحيق تجميل على وجهها. ولكن ما أن تبدأ بالحديث عن عملها كعضوة في المجلس المحلي لمحافظة مادبا حتى تشرع وبلا هوادة في تسمية الأشياء بمسمّياتها. “لا يستطيع أحدٌ إيقافَنا نحن النساء بعد اليوم”، هكذا تلخّص هذه المرأة تجربتها الشخصيّة، حيث حدّثتنا عن الصعوبات التي واجهتها كي تجد أذنًا صاغيةً في تلك المناطق الريفيّة من الأردن التي يهيمن عليها الطابع الذكوري، وعن كفاحها داخل مجلس المحافظة لكي تؤخذ قضايا المرأة بعين الاعتبار. وأخبرتنا أيضا كيف كانت تستخدم كلّ نفوذها من أجل دعم النساء ومشاريعهنّ وعن الطريق الذي تريد أن تسلكه والذي لا يزال طويلا.
أسماء الرشاحنة البالغة من العمر 50 عاماً هي واحدة من بين الكثيرات من النساء العربيات الناشطات . فكلّ المنطقة من لبنان حتّى اليمن ومن الأردن حتّى المغرب ومن الإمارات حتّى السودان تشهد عمليّة تحوّل اجتماعي ضخمة. إذ طالت التغييرات كلاّ من دور العائلة ومن مؤسّسة الزواج، فالشابّات العربيّات أصبحن يتطلّعن نحو حياة أرحب من تلك الّتي عاشتها أمّهاتهنّ، ولكن في الوقت ذاته هنّ لسن مستعدّات كذلك لتحمّل ما تحمّله جيل الأمهات.
فعديد الأشياء التي كانت تعتبر لدى الجيل السابق أمراً استثنائياً أضحت في يومنا هذا أمراً اعتيادياً . فالمرأة اليوم تُنشئ الشركات وتكسب قوت يومها بنفسها وتُطعم عائلتها بمفردها، والمرأة اليوم رياضيّة محترفة وفنّانة ومحامية وسياسيّة. وتجد النساء اليوم في أوقات فراغهنّ مساحات جديدة تشكّل ما يشبه الفضاء الخاص بهنّ حيث لا وجود لأبٍ أو لأخٍ يمارس دور الرقيب. وهنّ يتظاهرن اليوم كذلك من أجل حقوقهنّ ويجادلن من أجل قراءةٍ نسويةِ للقرآن.
نظرة أحادية
لكن بالمقابل لا تحظى هذه التحوّلات في الواقع الحياتي للمرأة العربيّة بمكانة تُذكر في خضم النقاشات العامّة في الغرب. إذ يتواصل تصويرُ حياةِ المرأة في العالم الإسلامي وكذا حصرها في الزواج القسريّ وجرائم الشرف والعنف الذكوري. ولا تكُفّ دور النشر الغربيّة عن إصدار سيلٍ لا ينتهي من المؤلفات التي تحمل عناوين على شاكلة “إنّي قد اخترتُ الحريّة: قصة نجاتي من زواج قسري والاضطهاد وكيف وجدتُ الأمل” (دار نشر أدِيُو سنة 2019).
بينما تواجه النساء العربيّات في الحقيقة مشاكل من نوع آخر، مثل تأمين ثمن الإيجار أو تمكين الأبناء من الذهاب للمدرسة أو إيجاد سبلٍ للتطوير الذاتي المستمر. ولكن بالنسبة لتلك الكتب الغربيّة من صنف “أدب الاستغاثة” (أي تلك المؤلّفات التي تهدف لتنبيه القارئ الغربيّ للواقع المزري للمرأة المسلمة) والتي تشهد رواجا كبيرا فإن المرأة الشرقيّة لا تقدر أن تعيش حياةً مستقلّة إلّا إذا تخلّت عن جذورها الثقافيّة والدينيّة وتخلّصت منها بالكامل.
إن هذا التركيز المنتشي بقصص المعاناة الفرديةى البشعة يحجب الرؤيا عن المعارك وعن التطلعات وحتة عن التناقضات في حياة المرأة العربية . فالأمثلة الحادّة ليست لها دلالات كافية عن الواقع المُعاش للمرأة. إذ يسهم الجدل الإعلامي حول الحجاب في تغذية تلك الأفكار المسبقة، وهو جدل يكاد لا ينقطع.
إنّ التصوّر القائم عن “المرأة العربية المضطهدة” والمرتكز أساسا على الحجاب كعنصر مركزي لوضعها المتردّي قد أضحى بدوره صورةً نمطيّةً شديدة التجذّر في الأذهان وهي اليوم جزءٌ لا يتجزّأ من مفردات التعبير عن الرأي لدى قطاع واسعٍ من الطبقة الوسطى في الغرب. إذ تتسبّب صورة لامرأة ترتدي حجابًا ببثّ ما يشبه شريط فيلم في أذهان العامّة، حيث تؤدّي فيه المرأة الشرقيّة دورَ الآخر العاجز ضعيف الحيلة. وكل هذا يؤدّي بدوره لحجب الرؤية عن واقع المرأة المعيشي الذي يشهد تحوّلًا في المنطقة.
“نحن” متحرّرات بينما “أنتنّ” مضطهدات
لا ريب في أنّ النساء العربيّات يتعرّضن للإجحاف من قبَل القوانين ومن قبَل المجتمع كذلك، فالتمييز والعنف الجنسي هما مشكلتان جسيمتان جدا وجب شجبهما بكل حزم. فالإسلام مثله مثل المسيحيّة واليهوديّة والديانتين البوذيّة والهندوسيّة – اللتين يزعم البعض أنهما متسامحتان للغاية – قد رسّخ على مرّ القرون بُنيةً ذكوريّةً وسوّغ لها أيضا.
ولكن على الرغم من ذلك فإن صورة “المرأة العربيّة المضطهدة” تُخفي ورائها أمورًا جوهريّة. فهي بدايةً لا تعكس كامل الطيف للعلاقة بين الجنسين في المنطقة. فحتّى في العالم العربي نرى حياةً عائليّةً طبيعيّة يشجّع فيها الوالدان بناتهم (وأولادهم) بكلّ حبّ ويدعمانهم لشق طريقهم الخاصة في الحياة. فإلى جانب الرجال من نوعيّة “سي السيّد” يوجد آباءٌ وأزواجٌ يَقبلون بالحلول الوسط وبالعلاقات القائمة على المساواة. ولكن وقبل كل شيء علينا أن نلتفت لأولئك الذين ينشطون لكي تنال المرأة المزيد من الحقوق داخل المجتمع وإلى مساهماتهم كذلك.
وما يجعل تلك الصورة نمطيّة بالخصوص هو أنها تضع وبكل تبسيط وسطحيـّة بنات حوّاء من الغربيّات واللاتي من المفترض أنّهنّ ينعمن بكل الحريّات في مواجهة تلكُنّ الضحايا العربيّات المثيرات للشفقة. فقد أشارت باحثة علم الإنسان الاجتماعي السويسريّة آنّا ماري سانْكار بأنّه يجري تعميم وسم المجتمعات المسلمة بتهمة الذكوريّة، بينما تُصبَغ صفة الحداثة التقدميّة بالمقابل على المجتمعات الغربيّة باستمرار، وكِلا الوصفين لا يستقيمان بصيغة الحقيقة المطلقة تلك.
فالمرأة العربية تتعرض أيضاً للحيف والظلم وهكذا فإن التقيلل من مكانة المرألأة المسلبمة يقابله في الجهة الأخرى إلباس وضع المرأة في الغرب صورة مثالية . فعلى سبيل الذكر لا الحصر فإن كلّاً من حركة “مي تو” والفجوة في المرتبات بين الجنسين والعنف في العلاقات الزوجيّة (بحسب إحصائيّات جهاز مكافحة الجريمة الفيدرالي الألماني تقع كل ثلاثة أيام جريمة قتل من قبل رجل لشريكة حياته الحاليّة أو السابقة) هي مجرّد أمثلة تذكّرنا بأنه لا يزال يفصلنا طريق طويل عن المساواة الحقيقيّة بين الجنسين.
إنّ من لم يقبل الاعتراف بقصوره الذاتيّ في مجال حقوق المرأة فلن يتسنّى له إدراك “تعقيد وتناقض” حياة النساء في الثقافات الأخرى، وهذا ما تعرّضت له الباحثة في علم الجندر وأخصائيّة علم النفس بيرغيت روملسباخر، المتوفيّة سنة 2015، بالوصف في مقالها الصادر سنة 2013 والذي حمل عنوان “النسويّة والعلمانيّة والإسلام”. وكانت روملسباخر، وهي محلّلة ذات نظرة ثاقبة لسلوك الهيمنة الغربيّ، تعتقد بأن التركيز على “تخلّف ورجعيّة” المرأة الشرقيّة هو غالبا إصرار على وضعها في هذا الدور لكي يجري تطويعها “كصورة مناقضة لتطوّر المرأة الغربيّة”.
إنّ هذه الصورة النمطيّة لا تؤدّي لغض البصر عن الوضع الحقيقي للعلاقة بين الجنسين في ألمانيا فحسب، بل هي تحجب حقيقة أنّ كلّاً من النساء والرجال في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعانون من الفقر ومن القمع السياسي ومن القلق تجاه المستقبل. ولهذا فإن المساحات الشخصيّة المتاحة لهم للتّحرك محدودة للغاية. ولذلك فإنّ مسألة تقسيم الأدوار بين الجنسين لا يمكن عزلها عن مسألة القمع السياسيّ وعن المسؤوليّة الكليّة للغرب عن هذه الأوضاع، كما تشير لذلك العالمة المصريّة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة دينا مكرم عبيد.
وإضافة إلى مسؤولية الغرب المباشرة عن دعم النظم الديكتاتوريّة، لدينا أيضًا الدول الصناعيّة التي يتسبّب إسرافها في استهلاك الموارد الطبيعيّة بإضعاف فرص بقية مناطق العالم في التطوّر بشكل حادّ للغاية. فتأثير التغيّر المناخي على دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط سيكون أكثر عنفًا ممّا هو الحال عليه في أوروبا مثلا. وهنا تتساءل دنيا مكرم عبيد قائلة: “أوليس جليّا أن درجات الحرارة بمصر تشهدُ ارتفاعا متزايدا وأن خصوبة الأراضي الزراعية في تراجع وذلك لأن دول الشمال تَستهلك معظم موارد كوكبنا؟”.
زوال الهيمنة الثقافيّة
إن الصورة النمطيّة عن “المرأة العربيّة المستضعفة” ماهي إلّا تقليد قديم في التاريخ الأوروبي، حتّى أنها استُعملت وبشكل متكرّر لتبرير التدخّلات الاستعمارية. لكن السؤال هو: لِمَ تترسّخ تلك صورة اليوم من جديد في وقت تشهد فيه المرأة انطلاقةً إلى الأمام في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟ وإن كانت مكاسب المرأة لا تزال هشّة وعرضة للانكسار وللتراجع، لكنّها تبقى قائمةً رغم كلّ تهديدات المتطرّفين الإسلامويّين ورغم كل أولئك الطغاة المتلحّفين برداء العلمانيّة.
وكما يبدو فإنه كلّما تفاقم فقدان الغرب لسطوته الثقافيّة حول العالم اليوم تصاعدت حاجته لإثبات “وحشيّة الشرق” المزعومة تلك. وبينما تتلاشى قوّة أوروبا على أرض الواقع فإن الادعاء بالتفوّق الحضاري بالمقابل يزداد حضورا في النقاشات حول موضوع الهجرة. إنّ حالة الشك والتوجّس العميقين داخل المجتمعات الغربيّة والتي تتوزّع بين العولمة وبين أزمة اللاجئين وبين الخوف من تردّي الحالة الاقتصاديّة لدى الأفراد، كلّ هذا يؤدّي إلى حاجة ملحّة لإعادة الثقة بالنفس ثقافيّا.
وعلى الأرجح فإن أسماء الرشاحنة العضوة في المجلس المحلّي بالأردن لا تعرف هذه النقاشات الجارية في أوروبا، فاهتماماتها تنصبّ على مسائل عمليّة بالأساس، مثل الحق في حياة كريمة دون عنف وتحرّش جنسي أو مثل الحق في مصدر دخل خاص والحق في تعليم أفضل وفي مساحة في الفضاء العام. إن مثل هؤلاء النسوة لجديرات بأن يسمع الناس عنهنّ وعن كفاحهنّ من أجل عالمٍ أفضل.
قنطرة