في الأزمة الأوكرانية، أي دور لِفرنسا؟
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_يتصاعد التوتر في أوروبا الشرقية مرة أخرى بعد زيادة القوات الروسية مؤخراً بالقرب من الحدود الأوكرانية حيث يقاتل الانفصاليون المدعومون من روسيا القوات الأوكرانية. وتمثل الأزمة التي أُعيد تنشيطها تحدياً كبيراً للاتحاد الأوروبي أيضاً؛ لأنها تختبره والدول الأعضاء فيه -خاصة فرنسا- لمعرفة ما إذا كانوا قادرين على أن يكونوا فاعلين دوليين حاسمين، إذ تُظهر التجارب السابقة، وكذلك الوضع الحالي أن الاتحاد الأوروبي يمارس تأثيراً ضئيلاً إلى حد ما في المنطقة.
أزمة أوكرانيا – من الناحية الجيوسياسية – يجب أن تكون أزمة أوروبية تشمل القوى الأوروبية بشكل مباشر ومصير ملايين الأوروبيين، ومع ذلك يتم التعامل معها من قبل الولايات المتحدة الامريكية، مثلما تجسد في المحادثات الثنائية الأمريكية-الروسية في جنيف في 10 يناير 2022. فعلى الرغم من إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن التوصل إلى اتفاق تام مع القادة الأوروبيين حول الأزمة الأوكرانية، فإن جملة من الإشارات تدل على حجم التعارض بين الرؤى الأميركية والأوروبية، إذ إن الموقف الأميركي الداعي إلى التصعيد في أوروبا الشرقية لم يُقابل بإيجابية لدى الجانبين الفرنسي والألماني.
هناك فجوة واحدة واضحة: لا ترى فرنسا وألمانيا خطر الغزو الروسي لأوكرانيا بنفس الإلحاح مثل واشنطن ولندن. فرنسا، بالنظر إلى المعلومات الاستخباراتية نفسها التي قدمتها وكالة المخابرات المركزية، لا ترى غزواً وشيكاً، أو تجمعًا للقوات المجهزة للغزو في الأسابيع الثلاثة المقبلة – وهو تقييم يشاركه أفضل محللي الدفاع الأوكرانيين. وفقاً لـ”رويتز” في 27 يناير 2022.
الموقف الفرنسي – وقف التصعيد
القرار الفرنسي يفترض الحوار مع الدولة الروسية والوصول إلى حلول دبلوماسية تضمن من خلال رؤيتيه: الحفاظ على تماسك الاتحاد الأوروبي في الدرجة الأولى، وَوحدة الأراضي الأوكرانية وسلامتها في الدرجة الثانية، مع الإشارة إلى أن هذا القرار لا يستبعد خيار العقوبات، إنما يضعها في خانة الخيار الاحتياطي، كي يقيها من تأثيره السلبي المتبادل.
ماكرون أكد عزم فرنسا على مساعدة أوكرانيا في الحفاظ على سيادتها وسلامة أراضيها خلال مكالمة هاتفية مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يوم 28 يناير 2022. وفي ذات الوقت، تحدث إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أجل التوسط بين الطرفين. وهي خطوة وضعت الزعيم الفرنسي على وجه التحديد في المكان الذي يسعى فيه إلى أن يكون قبل الانتخابات الرئاسية (أبريل 2022) في نقطة ارتكاز دبلوماسية الأزمة بشأن مستقبل أوروبا.
إن الوضع الحالي يبرز مدى التعقيد الذي سيكون عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمنح أوروبا “استقلالية استراتيجية” كما أعلن خلال مؤتمر صحفي في ديسمبر 2021 إنه يريد أن يجعل “أوروبا قوية في العالم، وذات سيادة كاملة، وحرة في خياراتها وسيد مصيرها”. وذلك بمناسبة تولى فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي لمدة ستة أشهر حتى يونيو 2022 .
التوسط في الأزمة الأوكرانية، قد تكون فرصة لفرنسا في صراعها القيادي مع ألمانيا في الاتحاد الأوروبي، فهي منخرطة في بعض المبادرات لتبني أدوار دبلوماسية في الأزمة، أهمها محادثات “صيغة النورماندي”، التي شارك فيها ممثلو ألمانيا وروسيا وأوكرانيا وفرنسا منتصف عام 2014.
خلال خطابه أمام البرلمان الأوروبي في 19 يناير2022، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاتحاد الأوروبي إلى وضع اللمسات الأخيرة على اقتراح للتفاوض مع روسيا، قائلاً “يجب أن تقودنا الأسابيع القليلة القادمة إلى تحقيق اقتراح أوروبي يبني نظامًا جديدًا للأمن والاستقرار. يجب أن نبنيها بين الأوروبيين، ثم نشاركها مع حلفائنا في إطار حلف شمال الأطلسي. ثم اقترحه على روسيا للتفاوض”.
منذ بداية رئاسته، دفع ماكرون برؤيته لأوروبا القوية مما جعل ثقلها محسوساً على الساحة الدولية، ووعد أنه في دوره كقائد لفرنسا سيبذل قصارى جهده لتحقيق ذلك. وفي خطاب تاريخي ألقاه في جامعة السوربون بباريس في سبتمبر 2017، حدد خطة من ستة ركائز يسميها “مفاتيح” لإصلاح أوروبا وجعلها “ذات سيادة وموحدة وديمقراطية”، وهو على استعداد للمراهنة بإعادة انتخابه بناءً على هذا الوعد. وفي مواجهة انعزالية ترامب، دعا ماكرون في خطاب رئيسي في عام 2019 إلى إنهاء “النزاعات المجمدة” مع روسيا. وفي حديثه إلى أعضاء البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ في 18 يناير 2022، قال إن خطة الأمن والاستقرار “يجب أن تُبنى أولاً بين الأوروبيين ، ومن ثم تقاسمها مع حلفاء الناتو”. ومن هنا جاءت المكالمة الهاتفية مع بوتين، وهي مكالمة قد تثير توتر بايدن والأمريكيين، حيث أن المعنى الضمني هو أن حل الأزمة الأوكرانية يمكن أن يتم خارج الناتو وبالتالي خارج أمريكا.
وبالفعل، جاءت هذه المحاولة الفرنسية أحادية الجانب لحل الأزمة الأوكرانية على رأس اجتماع “صيغة نورماندي” الذي عقد في باريس، في 26 يناير 2022، وهو منتدى غير رسمي يجمع بين المتنافسين الرئيسيين روسيا وأوكرانيا مع فرنسا وألمانيا في دور صانعي السلام. هذه هي المرة الأولى التي تُعقد فيها مثل هذه المحادثات – التي جرت بصفة استشارية – منذ عام 2019، وهي أيضاً المرة الأولى منذ بدء الحشد العسكري الأخير لموسكو على الحدود الأوكرانية. حسبما جاء في “DW”.
الهدف الفرنسي من الأزمة واضح: “وقف التصعيد”، وهي كلمة كثيراً ما تتكرر. ويبدو أن النهج الدبلوماسي الفرنسي الأكثر هدوءً يؤتي ثماره، حيث أدت المحادثات الرباعية إلى تجديد وقف إطلاق النار في الحرب في شرق أوكرانيا، إذا تبين أن الرئيس قد لعب دوراً مركزياً في تحقيق ذلك، فإنه بذلك سيُعزز موقعه في الانتخابات، حيث يحظى حالياً بما بين 24 و27% من نوايا التصويت (المنشورة على “فرانس 24” في يناير 2022)، مع تقدّم بعشر نقاط على منافسيه الرئيسيين.
دوافع تجنب التصعيد
يتضح من الاعتبارات سابقة الذكر، أن ما يريده ماكرون من استراتيجيته الدبلوماسية في التعامل مع الأزمة الأوكرانية-الروسية، هو تطوير قدرة دفاعية أوروبية قوية، ونظام استقرار جديد تشارك فيه روسيا. فمن مصلحة أوروبا تطوير حوار مع روسيا وتجنب تعزيز الشراكة الروسية الصينية. إن محاولة ماكرون لإعطاء تجسيد سياسي لصيغة “ركيزة الاتحاد الأوروبي داخل الناتو”، التي لا يزال يدافع عنها، لا تتعلق باستبدال حلف شمال الأطلسي- الناتو ، بل تتعلق بجعل الأوروبيين يؤمنون لأنفسهم مكاناً على طاولة المفاوضات الكبيرة.
فيما يُعد أهم الدوافع لتجنب فرنسا سياسة المواجهة مع روسيا يتعلق بالانتخابات الرئاسية التي ستجرى في أبريل 2023. سيكافح إيمانويل ماكرون، الرئيس الحالي في منصبه، الآن للعودة إلى منصبه للمرة الثانية، مع تراجع شعبيته في السنوات الأخيرة. لذلك، لا يريد ماكرون اتباع سياسة محفوفة بالمخاطر والهزيمة في الانتخابات. علاوة على ذلك، لا يمكن لفرنسا أن تشارك بشكل مباشر في هذه الأزمة وأن تواجه روسيا وجهاً لوجه كقوة سياسية وعسكرية كبرى.
بالإضافة لما سبق، تحاول فرنسا إلى جانب ألمانيا تجنب التصعيد ضد روسيا بسبب تمتعهما بعلاقات تجارية عميقة مع روسيا، وسيعانيان من الآثار المترتبة على أي عقوبات. فقد يؤدي تهديد بوتين بقطع الغاز عن أوروبا إلى ارتفاع أسعار الطاقة بشكل أكبر، ودفع التضخم، وتقويض الانتعاش الاقتصادي في أوروبا. بشكل عام، توفر روسيا حوالي ثلث استهلاك الغاز الطبيعي في أوروبا، والذي يستخدم للتدفئة الشتوية بالإضافة إلى توليد الكهرباء والإنتاج الصناعي. كما يلجأ الاتحاد الأوروبي أيضًا إلى روسيا لأكثر من ربع وارداته من النفط الخام، أكبر مصدر منفرد للطاقة في الاتحاد. وبينما تحصل فرنسا على معظم احتياجاتها من الكهرباء من الطاقة النووية لكنها لا تزال تعتمد على الواردات الروسية لتلبية احتياجاتها من الوقود الأحفوري. وفقاً لتقرير لـ”مجلس العلاقات الخارجية” بعنوان “دور روسيا في مجال الطاقة في أوروبا: ما هو على المحك في أزمة أوكرانيا”.
يصف الكثير من المحلّلين الموقف الفرنسي الداعي إلى الحوار ورفض الدولة الألمانية بيع السلاح لأوكرانيا بـ”المتردّد”، يمكن القول إن هذا الوصف يفتقر إلى فهم الرؤية الأوروبية لكيفية التعاطي مع الجار اللدود، فالخيارات الأوروبية أضيق بكثير من نظيراتها الأميركية في هذا الملف، إذ إن مواجهة الدولة الروسية على الأراضي الأوكرانية، وبالتالي الأوروبية، ستكون مكلفة أكثر للجانب الأوروبي مقارنة بالجانب الأميركي.
دبلوماسية حذرة
لم تترك فرنسا القضية للدبلوماسيين فحسب، بل تُعيد التأكيد على تهديد روسيا بالرد في حالة اعتداء الأخيرة على أوكرانيا. وبهذا الصدد، يقول إيمانويل بون، المستشار الدبلوماسي والأمن القومي للرئيس الفرنسي في حديث لـ “إذاعة NPR ” في 21 يناير2022: “في حالة الاعتداء على أوكرانيا، سنرد بقوة شديدة، لكن قبل الوصول إلى هذه النقطة، نحتاج إلى استخدام جميع أدوات الدبلوماسية، ونعتقد أنه لا يزال لدينا مساحة وقدرة كافية لممارسة الدبلوماسية “.
وهو ما يتوافق مع ما أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال مؤتمر صحفي عقب محادثاته مع المستشار الألماني أولاف شولتز في برلين يوم 25 يناير 2022، إن فرنسا وألمانيا مستعدتان لمواصلة الحوار مع روسيا، لكن إذا هاجمت موسكو أوكرانيا، فإنهم يعدون لرد مشترك، و”سيكون الثمن باهظاً”.
في هذا السياق، اقترحت فرنسا قيادة قوة تابعة لحلف شمال الأطلسي في رومانيا كإجراء ضمان، حيث أعلنت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي في تصريح وفقاً لـ “يورونيوز” في 29 يناير2022 أن بلادها تنوي إرسال عدة مئات من الجنود إلى رومانيا في إطار نشر محتمل لقوات من حلف شمال الأطلسي وأوضحت أن الأمر يتعلّق بالطمأنة في إطار تحالف دفاعي.
وإذا كان الاتحاد الأوروبي – ومن ضمنه فرنسا وألمانيا- سوّق لإمكانية فرض عقوبات على الدولة الروسية، في حال قيامها بأي عمل يهدد سيادة الدولة الأوكرانية، فإنَّ تقييم هذا الموقف يندرج في خانة إظهار التكافل الأوروبي في الدفاع عن حدوده الشرقية، ومحاولة حث الدولة الروسية على تبني خيارات يصنفها الاتحاد الأوروبي خيارات عقلانية. ولذلك، إنَّ الفرق سيظهر شاسعاً بين المسارين الأوروبي والأميركي لفرض العقوبات.
التقييم
تبدى فرنسا موقفاً وسطياً فى علاقاتها مع روسيا؛ ففى الوقت الذى تتخذ فيه تجاهها موقفاً حازماً وتساهم فى فرض العقوبات الدولية عليها؛ فإنها تشجع موسكو فى الوقت ذاته على إبداء مواقفها بشأن القضايا الدولية المختلفة.
تسير فرنسا ماكرون على خط حساس، يريد أن يُظهر أن لأوروبا دوراً أساسياً تلعبه في نزع فتيل الأزمة، وإثبات قيادته الأوروبية لناخبيه، والتأكد من أن ألمانيا والعديد من الدول الأوروبية المتشككة تدعم رؤيته الاستراتيجية الطموحة.
الدعوات الفرنسية إلى البحث عن استقلالية القرار الأمني الأوروبيّ لا تُعبر عن ترف الاستقلال عن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، إنّما تشكّل ترجمة لاختلاف المعايير والمصالح الاستراتيجية التي ظهرت منذ احتلال العراق، والانسحاب من افغانستان، والتي يمكن القول أنها لن تلتقي مع انتهاء الأزمة الأوكرانية.
المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات