عندما ينفصل عنا الأصدقاء
زينة مكحل
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_قبل عدة أشهر وتمامًا في شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021 لعب فريق إنتر ميلان على أرضه ضد فريق لاتسيو ضمن الدوري الإيطالي، انتهى اللقاء بفوز الفريق الضيف لاتسيو على الفريق صاحب الأرض الإنتر بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد. وعند نهاية المباراة مباشرةً قفز اللاعب لويز فيليب الذي يلعب لفريق لاتسيو الفائز على ظهر اللاعب كوريا من فريق الإنتر الخاسر ليحتفل بفوز فريقه في لقطة تبدو للبعض طريفة وللبعض الآخر غريبة ومستهجنة! لينتفض كوريا على فيليب ويدفعه بعيدًا ويتدخل الجميع لإبعاده قبل أن يقوم بضرب لويز! ويقوم الحكم بطرد لويز، وتنتهي المباراة بشجار، ويخرج لويز وهو يبكي والدموع تملأ وجهه. القصة ليست هنا، ففي نفس اليوم خرج لويز فيليب للإعلام ليتعذر عما حصل ويقول حيث اقتبس:
«في نهاية المباراة، قفزت على أكتاف توكو لأنه أحد أعز أصدقائي الذين منحتني كرة القدم إياهم. نحن عائلة وكنا دائمًا قريبين جدًا. أردت أن أحضنه وأمزح بشأن النتيجة، بقدر ما تسمح به صداقتنا، ربما لم يكن هذا هو الوقت الأفضل أو المكان الأنسب. أعتذر لأي شخص شعر بالإهانة لم أحاول بأي شكل من الأشكال عدم الاحترام اتجاهه أو اتجاه اللاعبين الآخرين أو الإنتر ومعجبيه. لقد كان عملًا بريئًا، من قبل شخص لديه مودة كبيرة لصديقه! أحبك كوريا!» انتهى الاقتباس.
بقي كوريا بالمقابل صامتًا لعدة أيام قبل أن يكتب في قصته على الإنستجرام نصًا واقتبسه: «أنا آسف لما حدث بالأمس، أعتذر من جميع الأطراف، أولًا وقبل كل شيء لمشجعي كرة القدم، الذين يجب أن نبقى إيجابيين اتجاههم. بالتأكيد أخطأ صديقي لويس، الإيماءة واللحظة، ثم كان رد فعلي خاطئ كذلك. تمنيت لو لم يحدث ذلك أبدًا، ولكن الآن دعونا نقلب الصفحة ونتوجه إلى المباراة التالية للإنتر والتحديات القادمة. محاولة جعل المشجعين يهتفون للأشياء الجيدة في كرة القدم. السلام» انتهى الاقتباس.
اللاعبان كانا صديقان! ربما لا يمكن لكرة القدم الصغيرة أن تلغي صداقة عميقة وكبيرة أو تكسرها، ولكنها ربما استطاعت ذلك! لا نعرف حتى الآن!
القصة أن اللاعبين أصدقاء مقربين جدًا وهناك علاقات بين العائلات تجمعهما. أحدهما شعر أن هذه الصداقة تسمح له بمثل هذا تصرف والآخر وجد في التصرف وقاحة وغباء. وجدت نفسي أتابع مجريات الحادثة وردود الأفعال عنها وأشعر بالحزن والأسى تجاه لويز فيليب! الذي تعاطفت فعلًا مع فعلته الرعناء، وجلست أفكر كم مرة وقعنا في مثل هكذا تصرف أسيء فهمه وتمت ترجمته على أنه إهانة وعدم احترام للآخرين، في الوقت الذي كنا نظن أننا قادرون على المزاح أو التصرف بطريقة سخيفة نوعًا ما مع أصدقائنا. وكم مرة لم نكن على نفس السوية من القرب والفهم والتعاطف منهم رغم رغبتنا الشديدة بذلك وظننا أننا فعلًا كذلك. وكم مرة قرر صديق جيد ومقرب أن يخرجنا من حياته ربما لأسباب أتفه من تصرف لويز فيليب الصبياني. قرأت خلال محاولتي فهم الصداقة ومكوناتها عدة قصص واستوقفتني قصة عن صديقين قديمين أحدهما ماثيو في الـ61 من عمره والآخر جوزيف في الـ56 انقطع الاتصال بينهما وقرر أحدهما قطع العلاقة مع صديقه القديم والسفر لمنطقة أخرى بعد صداقة استمرت لـ30 عامًا، حاول ماثيو التواصل مع جوزيف لمدة ثلاثة أيام متواصلة بعد خلاف حصل بينهما دون أي إجابة منه.
وفي محاولة أخيرة وخوف على سلامة صديقه أرسل إليه إيميل يقول فيه «لا أريد منك أي شيء سوى أن تخبرني أنك بخير أريد أن أعرف أنك على قيد الحياة وإلا فإنني سأتصل بالشرطة!» ومع ذلك لم يكن هناك رد. فاتصل بالشرطة، وجدت الشرطة صديقه بخير، ولكنه بكل بساطة لا يريد التواصل معه! لقد قرر قطع التواصل نهائيًا. ولحد هذه اللحظة ليس هناك سبب واضح سوى حادثة تجادلا خلالها على موضوع ما لا يستحق هذه القطيعة. ظن أحدهما أن الموضوع قد انتهى بالجدال، بينما رأى الآخر في الجدال والخلاف الذي وقع سببًا مقنعًا لإنهاء الصداقة. وأنا شخصيا تعرضت لمثل هذا الموقف المؤسف والقاسي الذي يترك الشخص أحيانًا في حالة ذهول واستغراب لا يعلم ماذا حصل وما الذي يحصل. فقد تصارحنا نوعا ما خلال الجدال، ولكن ما حصل بعده هو أنني حصلت على قطع للعلاقة! إنه لا يجعلك فقط تعيش في صدمة، ولكن أيضًا تصبح أنت شخصيًا تحت المساءلة. هل أنا سيئ لهذه الدرجة! هل أنا فعلًا لا أستحق هذه الصداقة وهذا الحب؟ لماذا كان كل هذا؟ «كل دا كان ليه؟» كما يقول إخواننا المصريون.
في بعض الأحيان لا نحصل على جواب ويبقى الموضوع مؤرقًا ويتكرر في رأسنا كل يوم. وأحيانًا أخرى نقنع أنفسنا بجمل وكليشات مكررة كلا شيء يبقى للأبد. ليس هناك صداقة تدوم. محسودين.. ما كان يجب أن أقول هذا وذاك! وغيرها من المبررات حتى يسكت عقلك ويهدأ ويقتنع أن ما تمر به هو انفصال وعليك أن تواجهه. يحدثوننا دائما عن انفصال الأزواج أو الأحبة وما الذي يجب أن تفعله في هذه الفترة، وكيف أنه عليك اللجوء إلى الأصدقاء للدعم، ولكن عندما تنفصل عن صديقك. فلن يكون هناك وصفة جاهزة يقدمونها لك لأنه لا يوجد نموذج واحد من انفصال الأصدقاء، وما الذي علينا فعله في هذه الحالة وإلى من يجب أن نلجأ.
ساهمت التكنولوجيا في جعل التخلص من الأصدقاء أمرًا سهلًا والـ«Ghosting» – ببساطة حيث تتوقف عن التواصل مع شخص ما دون توضيح السبب – فهي تسمح للأشخاص بتجنب المحادثات الصعبة وإخراج صديق من حياتهم.
ربما يحزن الشخص على خسارة الأصدقاء بشكل أكبر مع التقدم بالعمر لأنه يعلم تمامًا أنه سيكون من الصعب جدًا تعويض وجودهم حيث يفقد الأشخاص الراشدون أصدقائهم بعد الـ25 ويصبح تشكيل الأصدقاء أمر غاية في الصعوبة بعد الثلاثين مع تغير الأولويات، السفر، الانشغال، العائلة والالتزام والبعد بشكل عام. مع تغير مسارات الحياة وأحيانًا اختلاف وجهات النظر علمًا أنه في بعض الأحيان يكون أكبر دافع لنا ومطور لشخصياتنا الأصدقاء المختلفون عنا، أولئك الذين يتحدون أفكارنا ويخالفونها. لنجد أنفسنا نتقارب من هؤلاء الذين لا يشبهوننا أبدًا ونجد في مخالفتهم لنا ولأفكارنا تحدي ونكهة ونمو وفهم أكبر لأنفسنا وليس عداء. هؤلاء هم أقوى مصدر في معرفة ذواتنا الحقيقية.
للأسف يجد البعض هذا الاختلاف عداءً وتغير. يرفضونه ويبتعدون بحجة أننا مختلفون في وجهات النظر. علمًا أن بعض الاختلاف لا يجوز أن يفسد للود قضية وبعض الاختلاف لا يعني أبدًا مخالفة للمبادئ التي نشأنا عليها ودافعنا عنها. لكن أحيانًا نفكر هل كانت هذه حجتهم في الابتعاد؟ أم أنهم فقط لم يفهمونا ولم يعرفونا أبدًا منذ البداية!
إنه أمر سيئ بما يكفي أن تنتهي الصداقة بعد كل تلك السنوات، لكن عندما يجري هجرك ولا يوجد سبب حقيقي، يمكن أن يكون الأمر أسوأ. فمن الأسهل التعامل مع الألم عندما لا تُترك مع نفسك للتحليلات اللانهائية. لا أقول إنني شخص مثالي، ولا أرتكب الأخطاء، وأنهم وحدهم يتحملون الخطأ، لكنني أقف مذهولة كيف يمكن للنساء خاصة (من تجاربي الشخصية طبعًا) الثرثرة والمجادلة لساعات، وأيام مع أزواجهن أو أحبائهن عما يضايقهن، وما يزعجهن فيهم والأخطاء التي ارتكبوها معهن، بينما تصيبهن السكتة والخرس مع صديقتهن! أليست هذه من المفارقات العجيبة في المرأة! أحاول غالبًا أثناء عملي مع المراهقات اللواتي يتشاجرن مع صديقاتهن أن أعلمهم التخلص من هذه العادة المقيتة وأخبرهم أن الحوار والتعبير عما يزعجنا في الآخرين هو أساس حل أي مشكلة أما السكوت، وحركات الغمز واللمز من تحت الأنف، فلا تفيد أحدًا.
وأخبرهم أن يتغاضوا عن بعض الأفعال وأن يضعوا النية الجيدة قبل أي شيء وألا يصنفوا الآخرين إلى حرباء وثعبان ونمس قبل أن يتأكدوا من خلوهم من هذه الصفات أولًا، وأن يحبوا دون ندم لأن النهايات قادمة لا محالة ولا يجب أن نتوقع أن يحبنا الجميع كما نحبهم أو أن يعبروا عن حبهم لنا كما نريدهم أن يفعلوا ويتقبلوا «سخافاتنا» كما هي، لعل الجيل القادم يصبح قادر على معرفة ما الذي يجب أن يفعله في حال قرر أحد أصدقائه الانفصال عنه.
عندما ينفصل عنا الأصدقاء فإننا نفقد الكثير من اللقاءات اللطيفة والحوارات العميقة والطريفة أحيانًا، الثرثرة والنميمة، إكمال لجمل بعضنا البعض وكره لنفس الأشخاص. عندما ينفصل عنا الأصدقاء نفقد الشخص الذي يهبنا وقته ومشاعره ودعمه. في الحقيقة أشعر براحة الضمير أنني بذلت قصارى جهدي لتصحيح الأمور في بعض الصداقات التي باعتقادي انتهت – لقد فعلت ما يجب أن يفعله أي شخص ما زال يحب صديقه ويتمنى لو أن الأمور لم تجر باتجاه الهاوية رغم الحزن والشعور بمرارة الانفصال لشخص كان يستحوذ على مساحة كبيرة من حياتي لعدة سنوات. لقد قررت التركيز على الصداقات العظيمة التي أمتلكها، التي تجعلني أكون لويز فيليب الذي يتصرف مع أصدقائه بحسن نية وسخافة لأنه يرى في الصداقة تقبَل وحرية وخلو من قيود وخبائث وسوء الظنون.
ساسا بوست