حكاية غينيا والكفاح ضد الاستعمار الفرنسي
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_كان العقد الثامن من القرن التاسع عشر مسرحًا للاستعمار الفرنسي في القارة الأفريقية ككل، وتحديدًا في منطقة غرب أفريقيا، ومع نهاية القرن، وتحديدًا سنة 1897. كانت فرنسا من خلال مجموعة من المعاهدات مع القبائل المحليّة قد سيطرت على مرتفعات «فوتا جالون» في غينيا الحالية.
وقد كانت مرتفعات فوتاى جالون في غينيا، المعروفة بطبيعتها الساحرة، وجبالها الشاهقة، التي ينطلق منها أكبر نهرين في المنطقة: نهر السنجال، ونهر النيجر؛ أحد أبرز بؤر المقاومة الإسلامية ضد الاستعمار الفرنسي مطلع القرن العشرين بقيادة الشيخ المتصوّف أليو وألفا يحيى.
وتملك منطقة «فوتا جالون» بغينيا تاريخًا عريقًا وثريًا، وتتكوّن أساسًا من عرقيّتين رئيستين هما شعب الفولاني، والجالونكي، وقد اتحدت المنطقة تحت راية الحكم الإسلامي
خلال القرن الثامن عشر من خلال نظام سياسي واجتماعي توافقي بين القبائل، قائم أساسًا على الشريعة الإسلامية.
ويرجع تأسيس هذا النظام إلى شخصية تدعى « المامي » أو أمير المؤمنين كارماكو ألفا، إلا أنه بعد وفاة كارماكو سنة 1751 حدث جدال بين شيوخ القبائل حول خليفته بسبب صغر سنّ ابنه؛ ليقرّروا تداوُل السلطة بين أكبر أسرتيْن، في عهدة لا تزيد عن سنتيْن، وقد استمرّ هذا النظام بصورة سلسة أكثر من 100 سنة من التداول السلمي على السلطة في سبع محافظات تشكّل دولة «الفوتا»، أو فيدرالية «فوتا جالون» بغينيا، والتي استمرّت حتى 1888، عام انطلاق عهد الاستعمار الفرنسي في المنطقة.
ويقرّ الفرنسيون، مثلما يذكر كريستوفر هاريسون في كتابه «فرنسا والإسلام في غرب إفريقيا 1860_1960» بأن النظام السياسي والاجتماعي في «فوتا جالون» في غينيا كان متماسكًا إلى حدّ كبير، ولم يسعَ الفرنسيون إلى إرباك النظام القائم، بل إنهم لم ينجحوا في إحكام سيطرتهم على المنطقة، إلا بعد التحالف مع مختلف الفصائل القبلية ضد شخص الحاكم بوكار بيرو، وحافظوا على الانقسامات القبلية الموجودة – بل غذّوها – لكي يُبقوا على سيطرتهم في غرب أفريقيا باعتبارهم الجهة التي تحتكم إليها الأطراف المتنازعة.
«الإسلام الأسود».. تأثير المشرق وشمال أفريقيا على مسلمي غينيا
عندما وصل الفرنسيون إلى غرب أفريقيا، كانت منظومة الاستعمار الفرنسي قد راكمت خبرات وأدوات معرفية حول ماهية «الإسلام» وديناميكيته الاجتماعية في مستعمراتها في الجزائر وتونس وغيرها، وكان باحثوها قد أنتجوا العديد من الأدبيات حول الإسلام والطرق الصوفية ومختلف الفرق، بالإضافة إلى بعثات الأنثروبولوجيين والإثنوغرافيين، وغيرهم من الذين درسوا المجتمعات المستعمرة، وقدّموا خدمات جليلة لآلة الاستعمار الفرنسي في فهم هذه المجتمعات، وبالتالي تسهيل السيطرة عليها.
فعلى سبيل المثال يذكر الباحث الفرنسي في شؤون الإسلام روبرت أرنود، والذي عُهد إليه دراسة الإسلام في أفريقيا السوداء، واصفًا الأفارقة المسلمين في غينيا بتقرير له سنة 1912: «الأسوَد، عندما يصبح محمّديًّا يقلّ إعجابه بنا – نحن الفرنسيين – لأنّه يعتقد أن الثروة والعلم يأتيان من الله. بل إنه يملك إحساسًا بالفوقية التي يعطيها الله للمؤمن على الكفار، إنه يؤمن أنّ جنتنا المصنوعة بجهدنا مرتبطة بمرحلة انتقالية، بينما هو سيستمتع بجنّته الأبدية من خلال الصلاة».
وفي هذا السياق كان موضوع الإسلام في غرب أفريقيا، وفي منطقة «فوتا جالون»، محلّ اهتمام بالغ من طرف هؤلاء الباحثين؛ إذ جرى الاهتمام بإثنية الفولاني، باعتبارهم الإثنية المسلمة التي حكمت المنطقة، ووصفتها الأدبيات الاستعمارية بـ«المتسمّكة بالدين»، كما كانت سلطات الاستعمار الفرنسي تتخوّف أشد الخوف من «المرابطين»، أو الزعماء الدينيين المتصوّفة.
كما أبدى الفرنسيون تخوّفًا شديدًا من هؤلاء «المرابطين» شيوخ الزوايا الصوفية العائدين من مكّة، وبالتحديد من المكانة الروحية والاجتماعية التي يحوزون عليها في مجتمعاتهم المحليّة، وتأثّرهم بأفكار الجامعة الإسلامية، بالإضافة إلى الحركات الفكرية والثورية التي كان يعرفها العالم الإسلامي حينها، مثل الحرب بين السنوسية وإيطاليا في ليبيا، والزخم الذي اكتسبته تلك الطريقة الصوفية باعتبارها مقاومة إسلامية ضد الأجانب، واحتمالية انتقال هذه الشرارة إلى غرب أفريقيا.
مقاومة القبائل في شمال أفريقيا للاستعمار الفرنسي
لذا نُظر إلى الإسلام ورموزه بتشكّك كبير. ولم يُخف الفرنسيّون قلقهم من أن يتطوّر الإسلام في غينيا إلى فكرة قوميّة على شاكلة المسار الذي انتهجته الحركات الوطنية في شمال أفريقيا؛ إذ دمجت بين القومية والإسلام في مطالبها برحيل الاستعمار الفرنسي، وتحقيق الاستقلال الوطني.
ومنذ 1899 بدأ التخوف الفرنسي من احتمالية انتفاضية إسلامية في فوتا جالون ضد الوجود الاستعماري، وقد حذّر بعضُ المتعاونين المحليّين الاستعمارَ الفرنسي من «الخطر الإسلامي» في ظل الشائعات التي الرائجة حول الدعوة للجهاد ضد الفرنسيس، إلا أنهم لم يأخذو ذلك على محمل الجدّ.
لكن في سنة 1909 تغيّرت هذه النظرة الفرنسية بعد مقتل اغتيال إداري فرنسي، وهو ما أثار حالة من الهلع لدى الأوروبيين البيض، وقد اتّهموا أحد الزعماء الصوفيين، تيرنو أليو، بافتعال هذا الحادث والدعوة إلى الثورة.
كان تيرنو أليو أكبر شيوخ الإسلام في منطقة جومبا، ويحمل لقب «الوالي» وهو أعلى لقب ديني حينها، وكان من أتباع الطريقة الشاذلية التي ترجع أصولها إلى شمال أفريقيا؛ مما يشير إلى التواصل الديني والتجاري بين شمال أفريقيا، وغربها في تلك الفترة التاريخية، وكذلك إلى التأثيرات السياسية بين الشمال والغرب.
وكان تيرنو أليو قد بلغ الثمانين من عمره حين اندلعت أحداث سنة 1911، وقد استطاع أن يجمع أتباعًا له، من العبيد المحرّرين والمسلمين السود الجدد، بعيدًا عن نفوذ الفرنسيين، ويوسّع دعوته الدينية السياسية دون إثارة انتباه الاستعمار الفرنسي.
وينبغي التذكير هنا بأنّ مطلع القرن العشرين كان مسرحًا للكثير من التحوّلات السياسية والفكرية، سواء في القارة الأفريقية، أو في العالم الإسلامي المتأثّر بفكرة «الجامعة الإسلامية»، وقد شهدت تلك الفترة انتفاضة في المغرب بقيادة كل من الأمير عبد المالك حفيد الأمير عبد القادر الجزائري ضد الفرنسيين، بالإضافة إلى ثورة عبد الكريم الخطّابي ضد الإسبان.
وكانت 1911 سنة انطلاق ثورة عمر المختار والسنوسيين ضد الإيطاليين في ليبيا أيضًا؛ وكانت هذه الأخبار والتأثيرات الإسلامية تصل إلى غرب أفريقيا من خلال الاتصال بكلّ من المغرب وموريتانيا، إذ كان بعض المرابطين القادمين من موريتانيا يصلون إلى منطقة فوتا جالون ويبشّرون بقدوم «المهدي المنتظر» الذي سيعلن «الجهاد ضد الفرنسيين»، ولا شكّ أن هذه الأقاويل كانت تجد صداها لدى المجتمع الأفريقي المحلّي المتذمّر من الحكم الأجنبي.
الدين الثوري.. انتفاضة مسلمي غينيا المجهضة
في الوقت الذي كان الفرنسيّون يتجاهلون كل المؤشرات حول ثورة إسلامية في الأُفق في فوتا جالون، إذ كان الشيخ تيرنو أليو بصدد حشد أتباعه في سبيل الثورة على الفرنسيين في السرّ، وقد استطاع تيرنو أليو أن يكسب ثقة الفرنسيين من خلال التودّد إليهم وإظهار الطاعة والخضوع في العلن، فكان دائمًا أوّل من يسدّد ضرائبه للإدارة الفرنسية في وقتها من أجل إبعاد الشبهات عنه، ناهيك على أنّه أعلن تبرّؤه من حادثة قتل الإداري الفرنسي سنة 1909، على الأقل في العلن.
إلا أنّ بذور الثورة كانت تُحاك في الخفاء، فقبل واقعة الاغتيال بقليل، كان تيرنو أليو قد طلب من الفرنسيين السماح له بتجميع رجاله المسلّحين «من أجل القيام برحلة صيد للفيلة»، لكن ذلك لم يكن سوى حجّة من أجل حشد أنصاره وتسليحهم للثورة ضد الفرنسيين، واستطاع أيضا التجسّس على الفرنسيين من خلال عناصره التي تعمل داخل الإدارة الفرنسية؛ مما سمح له بالحصول على أخبارهم وخططهم، وأن يسبقهم دائمًا بخطوة إلى الأمام.
كما كانت عودة ألفا يحيى، الزعيم القبلي في منطقة لابي، في ديسمبر (كانون الأول) 1909، وهو الذي جرى نفيه لخمس سنوات في سنة 1904 لاتهامه بالتخطيط لمؤامرة ضد الحكم الفرنسي، حدثًا سياسيًا شغل الرأي العام في غينيا، وثارت العديد من الشائعات بأنّه قد يقود ثورة ضد الفرنسيين.
ومع وصول أصداء الثورة الإسلامية والتحرّكات العسكرية من طرف المرابطين والطرق الصوفية وأتباعهم إلى مسامع الاستعمار الفرنسي جرى القيام باعتقالات شاملة في صفوف القيادات الإسلامية، وفي مقدّمتهم تيرنو أليو والي جومبا، والذي رغم أنّه كان يُنظر إليه من طرف الفرنسيين باعتباره شيخًا هرمًا جاوز الثمانين وعلى فراش الموت، فإن صحته قد تحسّنت بصورة مفاجئة وصادمة، وأضحى يشكّل تهديدًا حقيقيًا للوجود الفرنسي.
وأرسل الفرنسيّون قائدًا عسكريًا يدعى تالاي من أجل القبض على تيرنو أليو، ورغم التحذيرات
الأوّلية من أن الشيخ مُحاط بـ500 من أتباعه، فإن القائد تالاي قرر ترك قوّته الرئيسة بعيدًا عن العملية، والاكتفاء بالهجوم على مسجد أليو بفرقة صغيرة مكوّنة من 12 جنديًا، وهو ما أدّى إلى مقتله رفقة أتباعه.
وبذلك اندلعت المعركة بين أتباع الشيخ أليو وباقي القوّات الفرنسية، والتي استمرّت لأكثر من ثلاث ساعات من القتال المتواصل، ولم يستطع الفرنسيون الانتصار في المعركة إلا بعد أن أقدموا على إضرام النار في القرية بأكملها، وهو ما أدى إلى انتهاء القتال، وسقوط أكثر من 300 ضحية السكان المحليّين في مجزرة مروّعة.
بعد هذه المعركة حوكم الوالي تيرنو أليو أمام القضاء الفرنسي محاكمة شكلية، وصدر عليه الحكم بالإعدام، إلا أنه توفي قبل تنفيذ الحكم في الثالث من أبريل (نيسان) 1912؛ لينسج المخيال الشعبي في فوتا جالون حكايات وتأويلات عن أنّ الله قد نجّاه من أيدي الفرنسيين ونقله إلى رحمته.
ساسا بوست