العلاقة بين الثورة الهاييتة ومذبحة المماليك

سامح عسكر

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_يُقال أن مذبحة القلعة ضد المماليك سنة 1811 م مستوحاة من مجزرة هاييتي
كيف ذلك؟
القائد الأوروبي “محمد علي” باشا كان جنديا ألبانيا وقت قدومه إلى مصر كجزء من الجيش العثماني المحتل، وعندما حصلت مجزرة هاييتي سنة 1804م ضد السكان البيض ملأت أخبارها أوروبا كتعبير عن أمرين اثنين:
الأول: (وحشية الرجل الأسود) وضرورة إبقاء العبودية..
الثاني: إمكانية دفع الضرر القريب بمبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) حتى لو كانت تلك الوسيلة بشعة أخلاقيا

والأمر الثاني كان منتشر في تلك العصور وسبق أن عرضت أحداث قتل (مليون مغولي) في آسيا بتحالف مسلمي الإيجور مع الصينين ضدهم في القرن 18 وهي الأحداث التي خفّضت أعداد المغول لأدنى معدلاتها منذ هذا التاريخ ليصبحون من أقل شعوب العالم في التعداد السكاني بعدما كانوا قوة كاسحة في القرون الوسطى..
مجزرة هاييتي حدثت ضمن أحداث الثورة الهاييتية (1791 – 1804م) ضد الاحتلال الفرنسي للجزيرة القريبة من سواحل أمريكا الشرقية، وقتها كانت فرنسا تستعمر الجزيرة وتستعبد شعبها الأسود ذي الأصول الأفريقية، وعندما اشتعلت الثورة الفرنسية أواخر القرن 18 م أدى ذلك لتحفيز الهاييتيين للثورة واستغلال ضعف الجيش الفرنسي المشتت وقتها..
وعندما نجح زعيم الثورة الهاييتية “جان جاك ديسالين” في هزيمة فرنسا بمعركة “فيرتيير” سنة 1803 لم تنجح فرنسا بإعادة تجميع قواتها مرة أخرى ولكن بقيت (جالية فرنسية بيضاء) بالجزيرة تقدر بعدة آلاف كانت قد استوطنت الجزيرة مع الاحتلالين الأسباني والفرنسي..
قرر الزعيم الهاييتي (قتل جميع البيض) بالجزيرة، رجالا ونساء، بدعوى أن ترك أي أبيض بالجزيرة سوف يخلفه إعادة استعباد السود مرة أخرى، وهي نفس دعاوى محمد علي بأن نجاة أي مملوكي سوف يخلفه استعباد الألبان والأوروبيين في مصر وقتله هو شخصيا مع أسرته، فقرر الزعيم “ديسالين” إلغاء العبودية لتصبح هاييتي سنة 1804 أول دولة في التاريخ تلغي العبودية رسميا، وبعدها قرار رئاسي امبراطوري هاييتي بقتل جميع البيض ليسقط حوالي 5 آلاف ضحية جراء ذلك لتكون هاييتي بنسبة 95% سوداء اللون منذ هذا التاريخ..

وهذا مختلف عن دولة الدومينكان المتعددة الأعراق
علما بأن كُلّا من (هاييتي والدومينكان) جزيرة واحدة على نصفين، الشرقي دومينكان والغربي هاييتي، لكن القسم الغربي بنسبة 95% كله أسود اللون منذ هذا التاريخ أي منذ عام 1804 عام المجزرة الشهيرة، لكن القسم الشرقي يغلب عليه الطابع اللاتيني الأسباني لغةً وثقافة مع أقلية سوداء، ولأن أصداء المجزرة تاريخيا كانت محفورة في وعي هذه الشعوب ومشاعر الانتقام الأبيض ضد السود رد الدومنيكان بمجزرة مماثلة ولكن في القرن 20 سنة 1937 سميت ب (مذبحة البقدونس) ليموت 20 ألف هاييتي أسود بقرار من الدكتاتور الدومينكاني “رافائيل تروخيو” ذي الأصول الأسبانية..وكأنه كان ينتقم لضحايا فرنسا البيض في القرن 19م
تخيل حضرتك ماذا تفعل المجازر بالشعوب؟
إن مجزرة هاييتي ضد البيض كانت محركا لأثرياء وحكام البيض لاحقا في معظم دول العالم بالقتال من أجل استمرار العبودية خوفا على حياتهم من تكرار نموذج “ديسالين” وأشهر تلك الحروب هي “الحرب الأهلية الأمريكية” 1861- 1865م
المهم: أن محمد علي في تلك المذبحة كان يفكر (كأوروبي) وليس (كمصري) فالمماليك ليسوا أوروبيين في الغالب بل (أسيويين من القوقاز وخراسان) والباشا العثماني أصوله ألبانية أرناؤوطية أوروبية يثق فيه الإنجليز والفرنساويين والأتراك، وهذا سر الصمت الأوروبي على المجزرة، لكن أنظر حينما هدد محمد علي اسطنبول كيف اتحدت أوروبا ضده لتجبره على توقيع معاهدة لندن سنة 1840م..
المنطق يقول أن تلك المجزرة لو كانت ضد أوروبيين لانتفضت أوروبا وأعلنت الحرب على مصر، ولو كانت ضد مسيحيين لحدث نفس الأمر ولتدخلت روسيا القيصرية أيضا، لكن محمد علي اختار هدفه بعناية، فهو الأضعف على الإطلاق، وفي ذات الوقت هو الأخطر على مُلكه وأسرته على الإطلاق، فكانت الغاية تبرر الوسيلة فاتخذ قراره بالمجزرة مثلما اتخذ الزعيم الهاييتي قراره مبررا بدعاوى سياسية لا تتصادم مع الأخلاق..
معلومة على الهامش: ثورة هاييتي ومذبحتها ضد البيض معدودة في التاريخ ضمن أحداث ثورات تحرير العبيد التي بدأها سبارتاكوس ضد الرومان في القرن 1 ق. م، وعلي بن محمد (ثورة الزنج) ضد العباسيين في القرن 9 م، وكان لها حضور في ما يسمى (جيش البخاري) في القرنين 16، 17 م في المغرب، وجيش البخاري هذا حكايته حكاية والكلام فيه يطول..فهو أول وأشهر جيش يسمى بإسم فقيه إسلامي (مقدس) كعلامة على تقديسه في ذلك العصر، نظرا لأن مسلمين هذا الزمان كانوا يرون البخاري وصحيحه (فوق القرآن) ويُحمل في المعارك لجلب النصر ضد الأعداء، وحفظه وترديده يزيد البركة ويؤتي بالملائكة قبيلا وتتنزل الرحمات من السماء، فكان الطبيعي أن يرث مسلمي العصر قداسة غريبة لهذا الرجل وكتابه الصحيح فهي طبيعية وفق السياق الزمني وسلوك المسلمين وفقهائهم خصوصا في العصر العثماني..

باختصار: الثورة الهاييتية كانت هي الثورة الوحيدة الناجحة لتحرير العبيد في التاريخ، لكن مذبحة البيض شانتها وسوّدت صفحتها وظلت حجة للبيض لاحقا في ضرورة استمرار العبودية آخرها في جنوب أفريقيا، وكذلك فمذبحة محمد علي كانت أشرس وأبشع مجزرة ضد الوجود المملوكي في التاريخ، فلم ينجح العثمانيون ولا الفرنسيين والإنجليز والقياصرة في إنهاء ذلك الوجود..لكن الباشا الألباني هو الذي فعل ذلك..
وأضيف أن هناك شعورا للأمريكيين السود أن ثورة هاييتي هي التي أنقذت أمريكا من هجوم نابليون بونابرت، فالجنرال ديسالين فعل ما لم يفعله كبار قادة أوروبا ونجح في هزيمة فرنسا التي كانت في ذلك الزمن (القوة العسكرية البرية الأولى)
وحجة السود الأمريكيين منطقية فعلا، ففي عام 1803 أي في عز اشتعال الثورة الهاييتية اضطر نابليون لبيع منطقة “لويزيانا” للرئيس الأمريكي “جيفرسون” فيما عرفت تاريخيا بصفقة لويزيانا Louisiana Purchase التي سيطرت فيها أمريكا على (ثلث) مساحتها الحالية ، ومع ذلك ترفض هوليود أي عمل سينمائي كبير يخلد ثورة هاييتي التي ساهمت في صناعة أمريكا الحالية على غرار فيلم “سبارتاكوس” واهتمام هوليود بها..ويعزون سبب تغاضي هوليود عن ثورة هاييتي أن الأبطال ليسوا من البيض، لكن هوليود في المقابل مليئة بأبطال سود ولا زال رفض السينما الأمريكية تخليد ثورة الهاييتيين غامضا..
وأختم بأن الموقف الأمريكي من هاييتي لا زال عنصريا في جوهره رغم محاولات قادة أمريكا لنفي هذا الطابع، فبعد زلزال 2010 الذي قتل فيه أكثر من 250 ألف شخص لم تساعد أمريكا الهاييتيين كما ينبغي، وعندما ساعدتهم فنزويلا فرضوا عقوبات عليها وشنوا حملة عدائية ضد شافيز برغم أن الرئيس الأمريكي وقتها “باراك أوباما” ليس من البيض لكن السياسة العامة للولايات المتحدة تحكمها مبادئ ومصالح أوليغارشية شرحت معالمها في محاضرتي “هل أمريكا دولة ديمقراطية” منذ فترة..

الحوار المتمدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post سنكتب قصيدة 
Next post مقدونيا الشمالية التي حرمت إيطاليا من المونديال