جنيف والدبلوماسية متعددة الأطراف
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ تمثل جنيف الدولية مركزا مهما لما يعرف بالدبلوماسية متعددة الأطراف. لكن هذه التعددية تتعرض لضغوط شديدة. فما أن تم رفع القيود المفروضة بسبب وباء كوفيد-19 والتي قادت في السابق إلى تنظيم اللقاءات الدولية عبر الانترنت، حلّت أزمة جديدة تسبب فيها الغزو الروسي لأوكرانيا.
وإذا كانت الجائحة قد سلّطت الضوء بشكل خاص على منظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن الحرب في أوكرانيا قد حوّلت الاهتمام والتركيز إلى حقوق الإنسان والأوضاع الانسانية. وتوجد العديد من المنظمات في جنيف متخصصة في التعامل مع جوانب مختلفة من هذا النوع من القضايا، وفي مقدمتها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
بعد عاميْن من المؤتمرات الافتراضية (عبر تقنية الفيديو)، عاد الدبلوماسيون والصحفيون إلى المشاركة الحضورية في جلسات المجلس التي افتتحت في 28 فبراير 2022. وقام العديد من الدبلوماسيين باستخدام منصة المجلس للإدلاء بمواقف وبيانات حول الأوضاع في أوكرانيا، كما انسحب آخرون بمجرد شروع سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي في إلقاء خطابه عن بعد.
وفي الرابع من شهر مارس، أيّد المجلس بأغلبية ساحقة قرارا يدين الغزو الروسي لأوكرانيا وينص على تشكيل لجنة تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي المزعومة في هذا البلد. لكن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 7 أبريل لصالح تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، كان الأكثر “إثارة للتساؤل”، على حد قول أحد المحللين.
في الأثناء، تدارس المجلس العديد من المسائل الأخرى الخطيرة المتعلقة بأوضاع حقوق الإنسان في العالم، من ميانمار إلى جنوب السودان مرورا بسوريا، وقضايا أخرى مثل التمييز العنصري، وتجنيد الأطفال، وحرية الصحافة. SWI swissinfo.ch خصصت حلقة كاملة من بودكاست (مدونة صوتية) “من داخل جنيف” ( Inside Geneva) لعرض شهادات المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان والمحققين الدوليين، لتسليط الضوء على أسلوب عمل المجلس، وما إذا كان ذلك يؤدي إلى المساءلة وتحقيق العدالة.
ومع اندلاع أزمة اللاجئين في أوكرانيا وتزايد الضحايا، تفرّغت هيئات الأمم المتحدة الأخرى مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، وبرنامج الغذاء العالمي لمحاولة تقديم المساعدة. كما عملت، ولاتزال، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أشهر منظمة غير حكومية في سويسرا، ومقرها أيضا في جنيف، بجد في أوكرانيا، بالإضافة إلى محاولتها درء أضرار الحملات الدعائية التي تستهدفها.
وفي الوقت الذي تحوّلت فيه الأنظار إلى أوكرانيا، ظلت جائحة كوفيد-19 مستمرة. وبينما يحاول العالم التكيّف مع الأوضاع التي فرضتها هذه الجائحة، تريد منظمة الصحة العالمية استخلاص الدروس منها. ففي اجتماع خاص في ديسمبر 2021، تعهدت البلدان الاعضاء في منظمة الصحة العالمية بتدشين محادثات بغرض التوصّل إلى معاهدة عالمية جديدة للتعامل بشكل أفضل مع الاوبئة في المستقبل.
تأسست منظمة الصحة العالمية، وهي هيئة تابعة للأمم المتحدة تتخذ من جنيف مقرا لها، في عام 1948 لتعزيز الرعاية الصحية الشاملة، ووضع المعايير وتنسيق استجابة دول العالم لحالات الطوارئ الصحية.
منظمة التجارة العالمية واللقاحات
منظمة التجارة العالمية هي مؤسسة أخرى يُوجد مقرها في جنيف وتواجه أيضا دعوات للإصلاح. وقد كانت مسألة عدم المساواة في الحصول على اللقاحات أحد أكثر النقاشات إثارة للجدل. ويجب أن ننتظر لنرى ما إذا كان الخلاف حول التنازل عن براءات الاختراع بالنسبة للقاحات في حالات الطوارئ سيتم حله في اجتماعها الوزاري المقرر عقده في يونيو في جنيف.تضم منظمة التجارة العالمية في صفوفها مئة وأربعة وستين دولة ولها تاريخ طويل.
“بيئة خصبة”
لا تحتضن مدينة جنيف المقر الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة في القارة الأوروبية ولأكثر من أربعين منظمة دولية فقط، ولكنها تؤوي أيضًا أكثر من 700 منظمة غير حكومية ومعاهد أبحاث و177 بعثة دبلوماسية.
وفي الآونة الأخيرة، انضمت إليهم فرق من محققي العدالة الدولية والخبراء الموجودين في الأمم المتحدة لجمع الأدلة والحفاظ عليها وإعداد قضايا جنائية مستقبلية محتملة بشأن الجرائم الدولية الخطيرة المرتكبة في سوريا وميانمار وسريلانكا وغيرها.
أدى تواجد العدد الكبير من الهيئات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الأكاديمية في جنيف الدولية إلى ظهور ما يُطلق عليه “نظام بيئي خصب” للبحوث الدولية ولعملية صنع القرار. وفي حين أن بعض المنظمات غير الحكومية وحتى الأمم المتحدة نفسها قد تكون مهددة بالآثار غير المباشرة للجائحة، فإن الحكومة السويسرية تدعم “منصات” جديدة ومستقبلية في جنيف، مثل “المبادرة الرقمية السويسرية” ومؤسسة جنيف للعلم والدبلوماسية التي يُمكن العثور عليها في “مُركّب التكنولوجيا الحيوية” المكتظ بشركات ناشئة ذات تطلعات مُستقبلية.
وقد عقدت مؤسسة جنيف للعلم والدبلوماسية، التي تم إطلاقها في عام 2019 بتمويل من الحكومة السويسرية ومدينة جنيف وكانتون جنيف، قمتها الدولية الأولى في أكتوبر 2021، وقدمت عرضا علنيا لأول مرة للعمل الذي تقوم به:
عموما، يظل السلام وحقوق الإنسان والعدالة الدولية محاور اهتمام رئيسية. فمن جنيف، يقوم مجلس حقوق الإنسان، وهي هيئة حكومية دولية مشتركة ضمن منظومة الأمم المتحدة، ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، المدعُوميْن من طرف عدد لا يُحصى من المنظمات غير الحكومية والأكاديميين، بتعزيز وحماية حقوق الإنسان في شتى أنحاء العالم.
الدبلوماسية الرقمية في زمن الجائحة
في السابق، كانت الممرات وقاعات المؤتمرات في قصر الأمم، المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف، تعجّ عادة بالمندوبين والصحفيين من جميع أنحاء العالم. لكن مع أول قرار إقفال اتخذ في سويسرا في ربيع 2020، تحول قصر الأمم إلى “قصر بلا أمم”. ولا تزال العديد من أنشطته تنظّم عبر الإنترنت. وهذا هو الحال في العديد من مؤسّسات جنيف الدولية، ومن المحتمل أن تتغيّر طرق العمل في المستقبل حتى بعد انتهاء الجائحة.
تشكل الضغوط المالية مصدر قلق كبير للمنظمات في جنيف، وهي ضغوط تفاقمت في الآونة الأخيرة بسبب جائحة كوفيد-19، التي مثلت اختبارا حقيقيا للنظام الدولي متعدد الأطراف. وقد سارعت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية إلى التعامل مع الأوضاع الجديدة في ظل القيود التي فرضها الوباء.
على المدى البعيد، قد يكون الاتجاه السائد بالنسبة للوكالات الدولية الكبرى يميل إلى نقل موارد معينة إلى الميدان أو إلى أماكن أرخص، لكن – وعلى الرغم من أن جنيف مدينة مُكلفة – فإن عامل الجذب فيها لا يزال قوياً لأسباب أخرى. يتمثل أحدها في أن الجهات المانحة وصناع القرار والخبراء موجودون فيها بالفعل. لهذا يقول جوليان بوفالّيه، المشرف على قسم الخدمات الموجهة للمنظمات غير الحكومية في مركز الاستقبال لجنيف الدولية : “طالما ظلت الأمم المتحدة والنظام الدولي منفتحيْن على المجتمع المدني، تُوجد قوة جذب هنا في جنيف”.
Swi