من “مجازر” اليرموك إلى التضامن.. لماذا تختار القوى الفلسطينية بين الصمت أو مغازلة القاتل؟
ماهر حسن شاويش
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ قبل الولوج إلى طبيعة تلقي الفلسطيني رسمياً وشعبياً مجزرة التضامن، وانعكاس وقعها عليه وفي نفسه، لا بد من إطلالة على الواقع الجغرافي الذي يربطه بالمكان ذاته، حيث تقارب وامتزاج المصير خلقته البيئة الواحدة.
يقع حي التضامن، التابع إدارياً لمحافظة دمشق، في أقصى جنوب شرقي العاصمة السورية، وكان يقطنه قبل الحرب قرابة 250 ألف نسمة، ويحده من الغرب مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، التابع إدارياً أيضاً لمدينة دمشق، ومن الشرق لدتا ببيلا ويلدا وحي سيدي مقداد التابعة لمحافظة ريف دمشق، ومن الجنوب مدينة الحجر الأسود وبلدة يلدا التابعتان أيضاً إلى محافظة ريف دمشق، ومن الشمال حيا دف الشوك والزهور الدمشقيان ومنطقة الزاهرة.
ويفصل بين حي التضامن ومخيم اليرموك من الجهة الغربية شارع فلسطين الرئيسي، ومن الجهة الشمالية يفصل بينه وبين حيي دف الشوك والزهور شارع ابن بطوطة، في حين يفصل بينه وبين منطقة ببيلا وبلدة يلدا وحي سيدي مقداد من الشرق شارع دعبول.
هذا التداخل الجغرافي بين حي التضامن ومخيم اليرموك يقترن بتداخل في النسيج المجتمعي بين اللاجئين الفلسطينيين وأشقائهم السوريين، وهو ذاته الذي تعكسه المجزرة التي اختلط فيها الدم السوري مع الفلسطيني في حفرة الموت التي جمعتهم أمواتاً كما احتضنتهم الجغرافيا أحياءً.
في تقديرنا، طبيعة هذا التداخل رجحت ومنذ اللحظات الأولى وجود فلسطينيين بين ضحايا المجزرة، وجعلته توقعاً حاضراً وبقوة، لا سيما أن مؤسسات حقوقية أبرزها مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا كانت قد وثقت فقداناً واختفاء قسرياً لمعتقلين فلسطينيين في المنطقة، وأصلاً لا يغيب عن بال كل فلسطيني عاش في تلك المنطقة بذلك التاريخ الرعب الذي كانت تشكله حواجز شارع نسرين وشبيحته وإجرامهم.
حيث كشفت مجموعة العمل عن “إعدام 16 لاجئاً فلسطينياً على يد قوات النظام السوري في حيّ التضامن، بالإضافة لفقدان عشرات الفلسطينيين في الحي نفسه، بينهم عائلات بأكملها، ونساء وأطفال من سكان حي التضامن ومخيم اليرموك، اعتقلوا من منازلهم أو أثناء مرورهم على الحواجز العسكرية والأمنية التابعة للقوات السورية في محيط المنطقة”.
الفصائل الفلسطينية دون استثناء، التي اختلفت في رؤيتها للثورة السورية، اتفقت مع الأسف هذه المرة جميعها على اختيار الصمت المطبق في ردة فعلها على المجزرة.
فلم يصدر عن أيٍّ منها حتى مجرد بيان شجب أو استنكار، ولم يكترث صانع القرار الفلسطيني لانعكاس هذه المجزرة، التي بلغ صداها العالم أجمع على عموم شعبنا الفلسطيني ولا على ذوي الضحايا ومشاعرهم، في تنكّر واضح لدماء وآلام شريحة كبيرة من بيئة كانت حاضنة لهم في يوم من الأيام، وخزان انطلقت منه مكونات واسعة من الحركة الوطنية الفلسطينية!
الأنكى من ذلك أن الأمر لم يتوقف على الصمت والتجاهل، بل تعداه للإصرار على الوقوف إلى جانب الفاعل عبر تقديم الشكر للمحور الذي ينتمي إليه المجرمون الذين ارتكبوا هذه الجريمة وغيرها في كل محفل من المحافل، وإسباغ ألقاب البطولة وأوسمة الشرف لقياداتهم، في مبالغة فجة وممجوجة تعكس ضيق أفق، ولا مبرر لها سوى المصالح!
مخزٍ ومعيب جداً ذلك، ومؤسف أن تخصم هذه المواقف من الرصيد الأخلاقي للقضية الفلسطينية، فكل من شاهد فيديو مجزرة التضامن ولم تتحرّك مشاعره لينطق لسانه باستنكارها وشجبها وإدانة مرتكبيها ومن يقف خلفهم -هذا بالحد الأدنى- فليراجع إنسانيته.. لا عذر ولا مبرر لأحد، لأن مثل هذه الأحداث تعكس معايير ومؤشرات حقيقية للفوارق بين الإنسانية السمحة والبهيمية المتوحشة.
المؤسف أكثر أن ثمة عشرات، وربما مئات من المؤسسات الحقوقية الفلسطينية في الداخل والخارج، تزعم دفاعها عن حقوق الإنسان، ابتلعت ألسنتها وصمتت صمت القبور أمام هول مجزرة بهذا الحجم، ما زال صداها يتردد في جهات العالم الأربع، فقط عدد منها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة أشار لهذه الجريمة النكراء، علماً أنه لا أقل من ضرورة التأكيد على أن ما ورد في التقرير الذي نشرته صحيفة الغارديان عن المجزرة هو جرائم “إبادة جماعية”، ارتكبتها القوات الحكومية السورية بدم بارد بحق المدنيين، وانتهاك فاضح للقوانين والأعراف الدولية.
وإن واجب هذه المؤسسات دعوة المجتمع الدولي لإجراء تحقيق مستقل يكشف عن مصير عشرات المدنيين من أبناء المخيمات الفلسطينية، فضلاً عن المطالبة بتقديم المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا إلى العدالة، لضمان عدم إفلاتهم من العقاب، والعمل على إطلاق سراح آلاف المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين، وألّا يقتصر ذلك على الفلسطينيين وحسب، بل كذلك الأشقاء السوريين، فهذه مؤسسات شعارها الإنسانية، وعليها أن تخاطب بذلك البشرية جمعاء.
بقي القول: حتى لو تغافل العالم كله عن مجزرة التضامن، ولم يُحاسِب فاعليها والنظام المجرم الذي رعاهم، المهم ألا يطويها النسيان عند أولياء الدم، وتبقى حاضرة وبقوة في إعادة رسم ملامح العلاقة مع مرتكبيها وحلفائهم، ومن يهرولون للتطبيع معهم.
الأصل أن تكون هذه المجزرة ومثيلاتها هي الحد الفاصل بين الحق والباطل في الوعي الجمعي للثورة السورية ولكل من يدعمها ويساندها.
عربي بوست