تعزيز القبضة الطائفية في الهند
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ قد لا يكون هناك وصف للوضع السياسي، والإستراتيجي، والاقتصادي، لما يحدث في شبه القارة الهندية، يضاهي وصف مؤسس دولة باكستان، محمد علي جناح، حين وصف الهند بأنها «ليست أمة ولا دولة، إنها شبه قارة من جنسيات».
وقد ورثت حكومات ما بعد الاستقلال هذه التركة التاريخية الثقيلة لمجتمع غير متجانس، فيما استثمر بعضها في الانقسام وتقديم الطائفية بهدف إحكام القبضة على البلاد، وتجلى ذلك بشكل واضح جدًّا في حكومة نانديرا مودي، إذ عرفت الهند منذ وصول مودي وحزبه «بهاراتيا جاناتا» (حزب الشعب الهندي) إلى السلطة عام 2014، صعودًا للتوجُّه الهندوسي القومي المتطرف، وانتشار الخطاب العنصري والتمييز الطائفي، وأعمال عنف ضد الأقلية المسلمة.
وقد جاءت الأزمة الدولية التي أثارتها الحرب الروسية على الأوكرانية في صالح رئيس الوزراء الهندي الذي يدرك جيدًا الوضع الذي مَنَّتْ به الأزمة على بلاده، فكل من القوى الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين) تغازل الهند بشدة لحرمان خصومها من ميزة إستراتيجية، وهي الانضمام لأحدهم، ومن ثمَّ استفاد رئيس الوزراء الهندي، سياسيًّا، من الحرب الأوكرانية والاستنفار الغربي بقيادة واشنطن ضد روسيا، خاصة أن مودي يُعرف بأنه صديق للجميع وعدوهم في الوقت ذاته.
إذ يغازل الولايات المتحدة والغرب وينضم اتفاقات اقتصادية وعسكرية تستهدف تقويض مكانة الصين وروسيا ونفوذهما، وفي لحظة التصادم، مثلما في الحرب الدائرة في أوكرانيا يطعن الغرب من الخلف باتخاذ موقف محايد من روسيا، ورغم ذلك تَظَل لغة الجميع مع نيودلهي ودودة وبشكل اضطراري.
ومن ثم تعيش نيودلهي حاليًا لحظات زهو لم تعرفها منذ سنوات طويلة، كما يستمتع مودي وحكومته القومية الهندوسية بمكانتهم الجديدة، كونها تؤدي دورًا كبيرًا في صراع موازين القوى العالمي الجاري، الأمر الذي يعني إمكانية أن تتخذ الهند لنفسها مقعدًا دائمًا بين القوى العالمية، في نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
وقد صبَّت كل هذه المكاسب الخارجية في صالح ثقل حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم في نيودلهي داخليًّا، ليغذِّي نظامه المبني على أسس طائفية، رغم علمانية الدولة المعلنة، وتفاقم أزمة التفرقة على أسس دينية وعرقية تحت إشراف مباشر وغير مباشر من حكومة مودي، ولفهم طبيعة الواقع الإستراتيجي، والاجتماعي، في تلك المنطقة، يجب التطرق لكيفية تشكُّل الهند سياسيًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا، لفهم الديناميكية التي تحرك السياسة الهندية.
مع الجميع ضد الجميع.. كيف شكلت الطائفية الهند؟
جغرافيًّا، تشكلت شبه القارة الهندية كوحدة واحدة ضمت داخلها الهند وباكستان، يحيطها إطارٌ يبدأ بخليج البنغال، والمحيط الهندي، وبحر العرب على التوالي إلى الجنوب الشرقي، والجنوب والجنوب الغربي، ومن الشمال الغربي جبال الهندوكوش، ومن الشمال جبال الهيمالايا، ويحتوي الجزء الداخلي من الإطار، على ما هو في العصر الحديث، الهند وباكستان وبنجلاديش ونيبال وبوتان.
تاريخيًّا، لكون المنطقة كبيرة نسبيًّا ومتنوعة للغاية لم يكن ممكنًا أن تخضع لحكم مركزي قوي، فحتى الاستعماريين البريطانيين، مع بيروقراطيتهم الشهيرة، ونظام السكك الحديدية المتصل بهم، سمحوا بالحكم الذاتي الإقليمي واستخدموه في الواقع لكي يعمل القادة المحليون بعضهم ضد بعض، وفي هذا السياق استغلت الإدارة الاستعمارية ذلك التنوُّع اللغوي والثقافي في إحكام السيطرة على البلاد، مستفيدةً من عدم تجانسها وبالتالي تشتت قواها الوطنية.
لكن على الرغم من أن قوىً مختلفة قد غزت شبه القارة الهندية على مر القرون، إلا أنه لم يقم أي منها بغزوها حَقًّا وفرض سلطة مركزية عليها، وحتى الآن، لا تسيطر نيودلهي على الهند حَقًّا، كما أنَّ إسلام آباد لا تسيطر على باكستان إلى حد أكبر.
وقد حقق المسلمون أكبر قد ممكن من توحيد شبه القارة الهندية تحت قيادة واحدة، خلال فترة الحكم الإسلامي للبلاد التي استمرت لثمانية قرون، لكن حتى الإسلام بتأثيره الثقافي والحضاري الجارف، لم يتغلب على الاختلافات اللغوية، والدينية، والثقافية في الهند، ومنذ ذلك الحين بقيت البلاد بغالبية هندوسية.
وبعد عصور من الحكم الإسلامي جاء البريطانيون في بداية القرن التاسع عشر واحتلوا الهند وفرضوا إدارة بيروقراطية بالغة التعقيد، وعندما ذهبوا بحلول عام 1947، بإعلان مجلس العموم البريطاني، حدثت مذبحة، واندلعت أعمال شغب في كل من الهند وباكستان؛ إذ انقلب المسلمون والهندوس والسيخ وغيرهم بعضهم على بعض في حالة من الذعر والخوف، وقُتل ما لا يقل عن مليون شخص ونزح 15 مليون شخص.
القوات الهندية في كشمير
وأصبحت المناطق ذات الأغلبية المسلمة في الغرب- منطقة وادي السند غرب صحراء ثار وحوض نهر الجانج- باكستان الغربية بينما أصبحت المناطق الواقعة إلى الشرق من كلكتا باكستان الشرقية، وهكذا تشكَّلت شبه الجزيرة الهندية الحالية بالدماء، وقسَّمت قوى القومية والانفصالية الدينية في مرحلة ما بعد الاستعمار شبه القارة إلى قطعتين، وبعد ذلك ثلاث قطع رئيسية: الهند وباكستان وبنجلاديش.
وسواء باكستان الشرقية، المتقلبة بسبب المتشددين الإسلاميين، وحتى باكستان الغربية، لم تعرف الهند خطورة من جيرانها، إذ لم تصبح الأخيرة تمثل تهديدًا حقيقيًّا للهند، إلا مع تطويرها لتكنولوجيا الأسلحة النووية لاحقًا، في حين تعد كلٌّ من نيبال وبوتان دولتين فقيرتين غير ساحليتين تهيمن عليهما جارتهما العملاقتان، الصين والهند.
وكانت العلاقة الوحيدة بين شطري باكستان هي الإسلام، ومع ذلك لم يجتمعا أبدًا، لذلك لم يكن مفاجئّا عندما تمزقا في عام 1971؛ بعد أن تمردت باكستان الشرقية ضد هيمنة باكستان الغربية، مع دعم هندي، وبعد الكثير من إراقة الدماء، انفصلت باكستان الشرقية، لتصبح بنجلاديش.
وظلت العلاقة بين الهند وباكستان متوترة دائمًا، فكل منهما لا يريد الآخر بجواره، والهند راضية عن رؤية باكستان منقسمة داخل نفسها، وتعمل على الحفاظ على هذا الوضع، أما باكستان فتسعى لتقويض الهند عبر شركات مع أعدائها، فتهادن واشنطن في ملفات أفغانستان وغيرها حينما تكون على خلاف مع الهند، وتتشارك مع الصين في مشروعات طريق الحرير والاتفاقات العسكرية، حينما تكون الهند حليفة لواشنطن، وظل كل منهما يرتكن على عدائه للآخر في بناء سياسته الداخلية والخارجية، وتكللت مظاهر ذلك العداء في رقصة الموت اليومية بينهم على الحدود.
ولا تقتصر صراعات نيودلهي مع إسلام آباد، إذ أصبح الصراع المحرك لسياساتها الخارجية يرتكز أكثر على علاقتها المتوترة بالصين، فعلى الرغم من صداقتهما المبكرة في الخمسينيات من القرن الماضي، سرعان ما تدهورت العلاقات بين الهند والصين بسبب مشكلات حدود الهيمالايا التي لم يجرِ حلها.
فالخطوط الحدودية، التي وضعها المسَّاحون البريطانيون إلى حد كبير، غير واضحة ومتنازع عليها بشدة – كما كان وضع ممالك الهيمالايا مثل التبت وسيكيم وبوتان ونيبال، وقد أدى ذلك إلى حرب قصيرة في عام 1962 انتصرت فيها الصين.
كما تدعم الصين إسلام آباد في نزاعاتها مع نيودلهي، وأثارت مبادرة الحزام والطريق الصينية مخاوف الأخيرة، لا سيما ما يسمى بـ«الممر الاقتصادي» بين الصين وباكستان، وهو عبارة عن مجموعة من مشروعات البنية التحتية الضخمة.
ومن ثم فهناك قضايا تسبب الاحتكاك الدائم بين البلدين وعلى رأسها التبت، أعلى منطقة على وجه الأرض، وتريد الصين التبت لمنع نيودلهي من الحصول عليها، أو بصورة أدق لمنع وجود التبت المستقلة التي تسمح للهند بتمركز قوات عسكرية هناك، مما يمنحها المرتفعات القيادية.
وكان رد نيودلهي على الضم الصيني للتبت، هو إعطاء منزل للدالاي لاما وحركة استقلال التبت، في «دارامسالا» (مقر الدالاي لاما والإدارة المركزية للتبت) في ولاية هيماشال براديش، بوليصةَ تأمين طويلة الأجل، تدفعها الهند ولكن دون توقع أن يجري صرفها، بينما يبدو استقلال التبت مستحيلًا؛ ولكن إذا حدث المستحيل، حتى في غضون عقود عدة، فستكون الهند في وضع يمكِّنها من تذكير حكومة التبت، بمن كان أصدقاءها خلال السنوات الصعبة.
ويدرك الصينيون أن هذا السيناريو غير مرجح للغاية، لكنهم ما زالوا غاضبين من «دارامسالا» ويظهر ردهم في نيبال، حيث تضمن بكين وجودها فيها، فبكين تواجه «التدخل» الهندي في التبت بـ«التدخل» في نيبال.
وبهذه التحالفات الهشة والصدقات المؤقتة مع الجميع وضد الجميع، بنت نيودلهي سياستها الخارجية وفق منفعتها اللحظية التي لا تتعارض مع سياستها الداخلية، واستغلت تلك الاعتداءات والشراكات تاريخيًّا لصالح تعزيز النزعة الطائفية، وحشد الجماهير حول النظام الحاكم، بوصفه حاميًا للديانة الهندوسية وسط قارة متنوعة الديانات والقوميات.
الصراعات الخارجية تغذي الطائفية في الداخل
تعد «الهندوتفا» إيديولوجيا مؤسسة لحزب «بهاراتيا جاناتا» (حزب الشعب الهندي) الحاكم الحالي، وعلى رأسه يجلس واحد من أوفى اتباعه، وهو رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، وطوال فترة حكمه كان يستخدم سياسة «الكر والفر» مسلمون يحتجون ضد مودي
فيستخدم الحزب الجماعات المتشددة وكوادر الحزب في تشديد اللهجة الطائفية، لكن عندما يتجاوزون الحد يضطرون إلى الانسحاب، ويعود ليؤكد أنَّ «حزب بهاراتيا جاناتا يعارض بشدة أيَّ فكر يهين أو يحط من قدر أي طائفة أو دين. ولا يروج الحزب لمثل هؤلاء الأشخاص أو لهذه الفلسفة».
كما حدث آخرًا لتفادي أزمة مع الدول الإسلامية على إثر تطاول بعض أعضاء الحزب القياديين على النبي محمد، وعلى الرغم من تكذيب الخارجية الهندية لبيان منظمة التعاون الإسلامي، فإنَّها خفضت نبرتها في أحاديث سفرائها تحديدًا في دول الخليج، إذ تحرك الحزب ليوقف المتحدثة باسم الحزب «نوبور شارما»، وطرد متحدث آخر، أقل قيمة حزبياً وهو، نافين جيندال، وأصدر بيانًا يدين فيه هذه الأفعال وأنَّ «حزب بهاراتيا جاناتا يدين بشدة إهانة أيِّ رموز دينية لأيِّ دين».
وقد لجأ مودي عقب فشله في تحقيق النتائج الاقتصادية المنشودة، بعد انتهاء فترته الأولى، للحشد الطائفي لإعادة انتخابه مرة أخرى، وتدارك الفضائح المالية التي طالت الجميع في نظامه، حتى قادة من مجلس الشيوخ الهندي، في وقت لم تكن فيه نيودلهي مقدمة دوليًّا للمنافسة مع الصين بكل ما تحمله من امتيازات غربية، الأمر الذي كان يعني زيادة تسليط الضوء على الداخل الهندي المشتعل
فرسم حزب الشعب الهندي، حملته الانتخابية، حول المطالب الأساسية للقوميين الهندوس وأهمها: إلغاء الوضع الخاص لإقليم كشمير، وإنشاء قانون مدني موحَّد يلغي الاستثناء الذي يحظى به المسيحيون والمسلمون، وخلال هذه الحملة الانتخابية، كان قادة حزب الشعب، ومن بينهم مودي، «يخلطون بسهولة بين المعارضة- ولا سيما حزب المؤتمر الوطني- وبين العدو الباكستاني، أما أميت شاه، رئيس حزب الشعب، فقد كان يعد بتخليص الهند من هؤلاء «المندسين» و«الأرَض» (أي من المهاجرين غير الشرعيين المسلمين الذين أتوا من بنجلادش) وبرميهم في خليج البنغال».
وبالفعل في الخامس من أغسطس (آب) 2019، جعل أميت شاه البرلمان الهندي يصوت من أجل إلغاء المادة 370 من الدستور، التي كانت تمنح إقليم كشمير حكمًا ذاتيًّا واسعًا، وكانت نتيجة تسوية مع قادة هذه المنطقة للانضمام إلى الهند، فيما كانت باكستان تطمع في ضمها إليها أيضًا.
ورحَّب الهنديون خارج كشمير وكذلك وسائل الإعلام الهندية بهذه المبادرة، لكن في كشمير، جرى إعلان حظر تجوُّل قاسٍ، ووضع مسؤولون سياسيون تحت الإقامة الجبرية – من بينهم حلفاء قدامى لحزب الشعب- وقُطعت شبكة الانترنت.
كما مُنع الأجانب وحتى نواب المعارضة من الوصول إلى كشمير، فيما كانت السلطات تؤكد أن كل شيء على ما يرام هناك. أما المحكمة العليا التي سبق وأخذت مواقف أكثر شجاعة، فقد رفضت أن تنظر بصفة مستعجلة إلى حالات الاعتقال التعسفي التي مثلت أمامها. ولم تفعل ذلك.
وفي واحدة من ظواهر طغيان الجماعات الهندوسية المتطرفة، ليس على الجماعات الدينية والعرقية الأخرى بل حتى على دور الدولة المعلن، على الرغم من هامشية دور الدولة في حسم قضية المواطنة، طلبت نيابة ولاية ماديا براديش الهندية، في سبتمبر (أيلول) 2021، بالتحقيق مع 12 من ضباط الشرطة بتهمة محاولة قتل، سوريش ياداف، العضو بمنظمة «راشتريا سويام سيفاك»، القومية الهندوسية، بعد زعمه التعرض للتعذيب أثناء احتجازه لدى الشرطة.
كانت الشرطة قد اعتقلت ياداف، عقب نشره تعليقًا تشهيريًّا بالإسلام على وسائل التواصل الاجتماعي، هدَّد بتصاعد التوتر في الولاية، بعد تنديد المسلمين بذلك التطاول، ولم تكن الدعوى القضائية ضد ضباط الشرطة الاثني عشر، قد بدأت حتى التمس أفراد عائلات مسؤولي الشرطة المتهمين في القضية الحماية، متذرعين بالخوف من رد فعل عنيف من جماعة «RSS» والجماعة القومية الهندوسية «Bajrang Dal» وجماعات هندوسية أخرى.
في الوقت الذي كانت تستحضر فيه واشنطن كل الملفات لحشد دول العالم ضد الصين عدوتها الرئيسية، كان الوضع لا يختلف كثيرًا في الهند جارتها، إذ سلَّط الإعلام الغربي الضوء حجم المعاناة التي تعيشها أقلية الأويجور المسلمة في الصين، وأُثري المحتوى الحقوقي بالتقارير الاستخباراتية، وتبنت المنظمات الدولية قرارات تتماشى مع الولايات المتحدة، التي وصلت لقرارات عقابية اقتصادية على الواردات، وآخرها كان الامتناع عن التمثيل السياسي في الأولمبياد الأخيرة في الصين.
لكن على الجانب الآخر، في الهند نجد أن الحديث حول ما يتعرض له المسلمون والمسيحيون وكافة الأقليات على أيدي الهندوس نادرًا، ففي التقرير السنوي لعام 2021 المقدم للكونجرس من وزارة الخارجية الأمريكية عن الحريات الدينية في العالم، ورد أنَّ عام 2021 في الهند شَهْد أعمال قتل، واعتداءات، وأعمال شغب بدوافع دينية، وَشَهِدَ العام تضاعف في حوادث العنف من جانب مجموعات «حماية البقر» الهندوس ضد الضحايا، الذين يكونون في الغالب من المسلمين، بما في ذلك القتل والعنف الغوغائي والاعتداءات والترهيب على كافة الأقليات.
الأمر الذي دفع، الملياردير الأمريكي، تشامات باليهابيتيا، بالتعليق على حديث للرئيس الأمريكي جو بايدن قائلًا: «فلنكن صريحين، لا أحد يهتم بما يحدث الإيجور في الصين. أثرت أنت القضية لأنك مهتم بها، وهذا شعور طيب منك، ولكن نحن لا نهتم بالأمر. أود أن أقول لك هذه الحقيقة المرة».
واقع الأمر أن العالم الغربي لم يهتم بالتقارير القادمة من الهند، والتي هي خطيرة أكثر من نظيرتها الصينية، لأنها ترى في الهند شريكًا مهمًّا جدًّا في الحرب ضد الصين، ولا أحد منهم يريد أن يرى أكبر دولتين في العالم سكانيًّا متَّحدين.
وفي الوقت نفسه أدرك النظام الهندي بقيادة مودي الفرصة وعزز شراكته مع الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح الشريك الأهم. فعقدت نيودلهي وواشنطن مؤتمرات قمة سنوية ووقعتا العديد من الاتفاقيات الأمنية، وانضمت نيودلهي أيضًا إلى إطار العمل الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ من أجل الرخاء، كما تعهدت الهند والولايات المتحدة، بصفتهما أكبر ديمقراطيتين في العالم، بتوجيه قيمها المشتركة، ومصالحهما الإستراتيجية في احتواء الصين، لدعم النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد.
القوات الهندية
ومع تعاظم التهديد الصيني لواشنطن وحلفائها، مُهد للهند تولى دور ما يسمى «مزود الأمن الصافي في المحيط الهندي، وعبر منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لقد تعجَّب العالم من صعود الصين المذهل إلى هذه المكانة العالمية لدرجة أنه غالبًا ما يجري تجاهل جارتها، ولكن الهند تعد منافسًا للصين قوةً اقتصادية.
إنها سابع أكبر دولة في العالم، مع ثاني أكبر عدد من السكان، ولها حدود مع سبع دول، ولديها 9 آلاف ميل من الممرات المائية الداخلية الصالحة للملاحة، وإمدادات المياه الموثوقة ومساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، وهي منتج رئيسي للفحم ولديها كميات مفيدة من النفط والغاز، حتى لو كانت ستكون دائمًا مستوردًا للثلاثة.
ويتطلب دور «مزود الأمن الصافي» تحمل المسؤولية وتأكيد أهداف واشنطن الإستراتيجية في جميع أنحاء المنطقة، ما يعني صدامًا حتميًّا مع الصين. وبالنظر إلى البيئة الأمنية المتطورة في هذه المنطقة، سرعان ما أصبح من الواضح أن العديد من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، تريد أن تُصعِّد الهند ضد الصين ربما أكثر مما تريد نيودلهي نفسها، علاوة على ذلك، يبدو أيضًا أنَّ فهم الهند للدور يختلف اختلافًا كبيرًا عن أولئك الذين يطالبون بهذه المطالب.
إلا أنَّ الهند لا تريد صراعًا مباشرًا مع الصين على الأقل حاليًّا، وتدرك أنَّ لديها من الانقسامات الداخلية ما يكفي لإشعال البلد وإدخاله في أزمة بسهولة في أيِّ لحظة، غير أنها منذ صعود حزب الشعب للحكم وفي ظلِّ سياسته الخارجية الناجحة نسبيًّا، يمكن له وحزبه البقاء لأكثر فترة ممكنة في ظل المكاسب التي تأتيه من التزامه الحياد في وسط الأزمات، وأهمها هو تجنب الحديث عما يحدث في الهند داخليًّا.
لكن من ناحية أخرى، ليس لدى الهند، مانع من الاستفادة وتكوين شراكة مع عدو واشنطن الآخر، روسيا، ضد منافستها الأخرى الصين، فبجانب حجم التجارة الضخم المتبادل، وفقًا لأحد التقديرات الحديثة، فإن ما يقرب من 85% من المعدات العسكرية الهندية روسية المصدر، منها نظام صواريخ أرض- جو «إس- 400» الروسي، وعلى عكس تركيا ومصر الدول حين حاولتا شراء السلاح من روسيا في ظل غضب أمريكي، تغاضت واشنطن عن الصفقة، مما يشير إلى أنَّ الهند ببساطة مهمة للغاية لإستراتيجية الولايات المتحدة في المحيط الهندي، والهادي بحيث يصعب المخاطرة بإغضابها عن طريق فرض عقوبات.
لذا قد تساءل وزير الخارجية الصيني، وانج يي، بعد زيارته للهند نظيره الهندي، جايشانكار خطابيًّا: «هل يميِّز الأمريكيون ويفرِّقون بين الهند والصين حول مواقفهم تجاه روسيا وسط أزمة أوكرانيا؟ من الواضح أنهم يفعلون ذلك». ساسابوست