خدعة «لجان التحقيق».. ما الذي تستفيده إسرائيل من التحقيق في جرائمها؟

محمد آدام

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_ حين تقع جريمة جنائية بحق شخصٍ ما، فإن الأطراف المعنية بالتحقيق تبدأ عملية التحقيق الجنائي، والتي تنقسم إلى قسمين: أولهما هو المهام الاستقصائية مثل التعرف إلى الأدلة وجمعها وحفظها، وجمع المعلومات، واستجواب الشهود والمتهمين، وثانيهما هو التفكير الاستقصائي مثل تحليل المعلومات التي جمعت ووضع نظريات لما يمكن أن يكون قد حدث، وتحديد المتهمين بناءً على ذلك؛ لكن، إذا كان المجني عليه فلسطينيًّا، والمحقق إسرائيليًّا، فإن التحقيق لا يشمل أي خطوة من الخطوات السابقة، رغم ما تجنيه تل أبيب من مكاسب بادعائها إجراء تحقيقٍ في جريمةٍ ارتكبتها عمدًا وعلى الملأ. 

ففي الفترة ما بين 2011 إلى 2019، وثقت المنظمة الحقوقية الإسرائيلية «بتسيلم» قرابة 200 تحقيق أجرتها السلطات العسكرية في جرائم ارتكبت بحق فلسطينيين، منهم جريمة قتل شهيرة صورت بالفيديو، إذ قتل جندي إسرائيلي الشهيد الفلسطيني عبد الفتاح الشريف بعد أن أصابه وشل حركته، لكن جيش الاحتلال خفف الحكم على الجاني ليقضي في السجن تسعة أشهر فقط.

كان هذا التحقيق، بالإضافة إلى تحقيقٍ واحدٍ آخر، هما اللذان أفضيا إلى إدانة الجناة فقط من أصل جميع تلك التحقيقات التي افتقر معظمها لأبسط قواعد التحقيق من جمع للأدلة واستجواب للشهود والمتهمين الرئيسين، فكيف تجري تل أبيب التحقيقات؟ وما الذي تستفيده منها؟ 

كيف تحقق إسرائيل في جرائمها ضد الفلسطينيين؟

في الثامن من يونيو (حزيران) 2022، سُئل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في مؤتمر صحفي عن عدم محاسبة بلاده لتل أبيب بشأن جريمة اغتيال الصحافية الفلسطينية-الأمريكية شيرين أبو عاقلة، فتهرب من الإجابة بشكلٍ مباشرٍ، وقال إن الحقيقة لم تظهر بعد، وأن الولايات المتحدة تدعم إجراء تحقيق مستقل في الجريمة لتصل إلى الحقيقة، رغم أن تل أبيب أعلنت في التاسع عشر من مايو (أيار) 2022 أنها لن تُجري تحقيقًا بشأن الجريمة لأنها لا تعد نفسها «متهمة».

بينما نشرت كلٌّ من «أسوشيتد برس» و«سي إن إن و«واشنطن بوست» تقارير معتمدة على تحليل مقاطع الجريمة وتصريحات شهود العيان لتصل في النهاية بما لا يدع مجالًا للشك إلى أن قوات الاحتلال هي من قامت متعمدة بقتل شيرين أبو عاقلة.

وقبل تصريحات بلينكن بقرابة شهرٍ، كانت تل أبيب قد لوحت بإمكانية إجراء تحقيقٍ من طرفها في الجريمة، بعد أن غيرت رواياتها المتهافتة بشأنها أكثر من مرةٍ ثم تراجعت فيما بعد عن قرارها، ومع ذلك، أصر نيد برايس، المتحدث الإعلامي للبيت الأبيض، على تكرار جملة واحدة حينما سُئل عن إمكانية إشراك الفلسطينيين في التحقيق، وهي: «إن تل أبيب لديها الوسيلة والقدرة على إجراء تحقيق معمق وشامل».

وما قاله برايس حقيقة فعلًا، فلا يختلف اثنان على أن تل أبيب لديها القدرة (نظريًّا) على ذلك، وبالفعل تقوم تل أبيب بالتحقيق في الجرائم التي يقوم بها جنودها ضد الفلسطينيين في فلسطين المحتلة، لكن الغالبية العظمى من تلك التحقيقات تفتقر إلى أدنى مقومات التحقيق الكامل الذي يمكننا أن نصفه بالمعمق والشامل، مثل جمع الأدلة وحفظها واستجواب المتهمين، وتلك وسيلة إسرائيل للتستر على المجرمين الفعليين الذين تسببوا في تلك الجرائم.

تظاهرة تطالب بحق الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة

فعلى سبيل المثال حققت تل أبيب، في مقتل 24 فلسطينيًّا على يد جنودها بالضفة الغربية وغزة عام 2021، وانتهت جميع تلك التحقيقات إلى عدم إدانة أو حتى تقديم لائحة اتهام ضد أي جندي إسرائيلي، وهو ما دأبت عليه تل أبيب على مدار تاريخ قريب حافل بالبطش والانتهاكات.

وفي إعدادنا لهذا التقرير، تتبعنا بعضًا من تلك التحقيقات المتعلقة بعددٍ من الأحداث الكبرى في فلسطين منذ بداية الألفية والتي انتهت إلى هدفها المرجو، لا ليس تحقيق العدالة، وإنما إعطاء تل أبيب الشرعية الدولية والأهلية اللازمتين لعدِّها جهةَ تحقيق من الأساس، الشرعية التي لا يمكن إعطاؤها لمجرمٍ ليحقق في جريمته، والتي بمجرد أن يعطيها المجتمع الدولي لإسرائيل؛ فإنه يفترض فيها الحياد والنزاهة اللازمتين لإجراء ذلك التحقيق، وهو ما تريده تل أبيب فعلًا، والذي يسمح لها بالتغطية على الأصوات الناقدة في الخارج لتستمر في سياساتها الإجرامية بحق الفلسطينيين كما تشاء.

تحقيقات حرب غزة 2008

في 12 يناير (كانون الثاني) عام 2009، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارًا بإنشاء لجنة تقصي حقائق برئاسة القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد جولدستون، والذي سميت اللجنة باسمه، لتقصي جرائم الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته بحق الفلسطينيين في حرب غزة التي كانت قد انتهت للتو.

وراجعت اللجنة تقارير وتحقيقات إسرائيلية، وكذلك فلسطينية، كما استجوبت ضحايا وشهودًا من فلسطينيين وإسرائيليين وآخرين تابعين لمنظمات دولية غير حكومية وتابعين للأمم المتحدة من مختلف الوظائف والتخصصات، وعقدت ثماني جلسات استماع عامة وقامت بزيارتين إلى غزة.

لكن اللجنة نشرت في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، تقريرها النهائي الذي أدان الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بارتكابهما جرائم ضد الإنسانية في غزة! جدير بالذكر أن تلك الحرب خلفت حوالي 1440 شهيدًا فلسطينيًّا نصفهم من المدنيين، في حين قُتل 13 إسرائيليًّا منهم أربعة مدنيين فقط لا غير.

فلسطيني ينظر لمبانٍ دمرتها غارة للاحتلال من منزله المدمر في غزة 2008

بعدها بعامٍ، شكلت الأمم المتحدة لجنة أخرى من خبراء مستقلين للنظر في نتائج اللجنة الأولى، وطلبت اللجنة التعاون مع السلطات الإسرائيلية والفلسطينية، لكنها لم تتلق ردًّا من الجانب الإسرائيلي على طلباتها العديدة، في الوقت الذي رحبت فيه السلطة الفلسطينية بالتعاون.

ورغم ذلك التعنت من جانب سلطات الاحتلال، استطاعت اللجنة أن تصل إلى استنتاجات بناءً على وثائق رسمية ومقابلات مع عسكريين وشهود من الطرفين، وصرح رئيس اللجنة القاضي الألماني كريستيان توموشات قائلًا: «حققت تل أبيب في العديد من الوقائع التي اتُهمت بها، لكن أربعة فقط من تلك التحقيقات أسفرت عن إدانة، منهم تحقيق في جريمة سرقة بطاقة ائتمان!» 

ووجدت اللجنة أيضًا أن تل أبيب لم تحقق مع صانعي القرار الكبار في الجيش والحكومة، كما أنها لم تحقق في انتهاكات متعلقة بحقوق الإنسان في الضفة الغربية، والتي ارتكبتها بشكلٍ موازٍ مع جرائمها في قطاع غزة.

وكان السبب الذي قدمته اللجنة لذلك، على سبيل الإدانة، هو أن المحامي العسكري العام في ذلك الوقت «أفيخاي ماندلبلِت» المختص بمحاسبة جنود جيش الاحتلال عن جرائمهم في فلسطين المحتلة هو ذاته المسئول عن إعطاء الاستشارات القانونية للجيش بشأن حربه على غزة، ما يخلق تضاربًا للمصالح، ويجعل في مصلحة الجميع في تل أبيب أن يكون التحقيق صوريًّا لإعطاء المجتمع الدولي انطباعًا بأن تل أبيب مؤهلة للتحقيق في جرائمها، دون أن تنتج عن تلك التحقيقات إدانات حقيقية.

تحقيقات حرب غزة 2014

شنت تل أبيب حربها الثالثة على غزة (بعد حربي 2008 و2012) في صيف عام 2014، وقتلت فيها أكبر عدد من الفلسطينيين منذ حرب عام 1967، ما يقدر بـ2202 شهيد منهم 1391 مدنيًّا و526 طفلًا، ودمرت أكثر من 18 ألف بيتٍ، وشردت 100 ألف فلسطيني.

وسارعت تل أبيب، كالعادة، بفتح تحقيق في جرائمها لكي تظهر بمظهر الباحثة عن العدالة، وأن أيًّا ما كانت الجرائم التي ارتكبها جنودها في تلك الحرب فهي لا تمثل سياسات الدولة الرسمية، وحتى لا تتيح الفرصة للمحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق خاص بها، إذ تتدخل المحكمة فقط إن كانت الدولة المعنية بالاتهام غير قادرة أو غير راغبة في فتح تحقيق.

آثار الحرب على غزة

وكالعادة، كان الشخص المعني بإجراء التحقيق في انتهاكات الجيش هو المحامي العسكري العام في ذلك الوقت داني إفروني، والذي كان يغرق في تضارب المصالح حتى أذنيه، إذ كان هو الذي يتابع موقف الجيش القانوني في أثناء الحرب، وهو الآن مطالب بأن يحدد ما يستحق فتح تحقيق بشأنه من انتهاكات الجيش على الأرض، وإذا كانت تلك الانتهاكات مبنية على استشارات قانونية مقدمة منه، فإنه سيكون مطالبًا بأن يضمن نفسه أو أفرادًا من مكتبه في التحقيق.

بحسب مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة «بتسيلم»، وهو مركز مستقل يراقب انتهاكات قوات الاحتلال في فلسطين، فإنه وحتى عام 2016، استقبل المحامي العسكري العام شكاوى متعلقة بحوالي 360 واقعة انتهك فيها جيش الاحتلال القانون في حرب عام 2014، وفي كل تلك الوقائع تقريبًا، قدم المحامي تفسيراتٍ بعيدةً عن الحقيقة تبرئ ساحة الجميع، بدءًا من رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، مرورًا به هو شخصيًّا، وحتى الجنود الذين ارتكبوا الانتهاكات بأيديهم.

ونشرت حينها «بتسيلم» تقريرًا بعنوان: «نظام إنفاذ القانون العسكري الإسرائيلي كآلية تبرئة»، تقول فيه إنه من ضمن 739 شكوى تقدمت بها المنظمة إلى المحامي العسكري العام بشأن انتهاكات جيش الاحتلال في فلسطين المحتلة على مدار 25 سنة منذ تأسيسها، رفضت 182 شكوى منهم دون فتح تحقيق، وأُغلق التحقيق في 343 شكوى منهم دون اتخاذ إجراء فعلي، وانبنت إدانات على التحقيق في 25 شكوى منهم فقط.

ويدل ذلك، حسب تقرير «بتسيلم» على أن النظام في تل أبيب يسعى لهدفٍ واحدٍ أساسي، وهو خلق صورة كاذبة عن نفسه بوصفه نظام إنفاذ قانون يسعى للعدالة والحقيقة، لكنه في الواقع يسعى إلى توفير أقصى قدرٍ من الحماية للمجرمين في صفوفه واكتساب الشرعية الدولية بوصفه جهة تحقيقٍ موثوقًا بها تغني عن تدخلات المجتمع الدولي عمومًا والمحكمة الجنائية الدولية خصوصًا.

تحقيقات مسيرة العودة الكبرى

في يوم الأرض من عام 2018، انطلق عشرات الآلاف المدنيين من غزة في مظاهرات حاشدة إلى السياج الحدودي الذي يحاصر القطاع ويعزله عن بقية فلسطين للاحتجاج على الحصار الطويل، بينما ردت تل أبيب على تلك المظاهرات بقوة غاشمة، ونشرت على السياج عشرات القناصة برصاص حي بهدف تفريق المتظاهرين.

واستشهد على أيدي القناصة 223 فلسطينيًّا وجُرح 8 آلاف آخرون، وفي سعيٍ منها للالتفاف حول جريمتها والإفلات من الانتقادات الدولية، أعلنت تل أبيب عن نيتها فتح تحقيقات بشأن الاتهامات الموجهة إليها عبر إجراء تحقيقات غير مستقلة يقوم بها الجيش ضد نفسه.

من أرشيف العدوان على غزة

في ديسمبر (كانون الأول) عام 2021، نشرت «بتسيلم» تقريرًا عن النتائج التي وصلت إليها التحقيقات الإسرائيلية تحت عنوان: «غير راغبة وغير قادرة»، في إشارة لتل أبيب، ووصف للحالة التي تتطلب تدخلًا من المحكمة الجنائية الدولية في التحقيقات، إذ سارعت تل أبيب في بدء تحقيقاتها بعدما أوعزت إليها المحكمة بإمكانية تدخلها إذا لم تكن هناك تحقيقات معمقة وشاملة من جانبها.

لم تكن تلك النتائج مفاجئةً بالمرة، إذ تغاضت تل أبيب بشكلٍ كاملٍ عن السياسات الحكومية المعلنة المتسببة في الجريمة والمدعومة من المسئولين الحكوميين في البلاد وصناع القرار، وحتى المحامي العام المسئول عن التحقيق، مثل سياسة إطلاق النار التي تتيح للجنود الإسرائيليين إطلاق النيران على الفلسطينيين إذا «شعروا» أنهم يمثلون تهديدًا لهم، حتى وإن كان الفلسطيني أعزل أو لا يمثل خطرًا فعليًّا على الجندي.

اختارت تل أبيب التركيز في تحقيقاتها على جرائم القتل التي قامت بها قوات الاحتلال فقط، أما الإصابات، والتي بلغت 13 ألفًا، منهم 8 آلاف مصاب برصاص حي، و3 آلاف مصاب بالاختناق، و156 مصابًا بقطع في الأطراف، فإن تل أبيب لم تخضعها للتحقيق أبدًا.

الأمر الغريب، والمثير للسخرية في الوقت ذاته، هو أنه بعد أن واجهت تل أبيب انتقادات حادة بشأن طريقتها في إدارة تحقيقاتها الجنائية بحق الفلسطينيين، وعدت تل أبيب المجتمع الدولي بأنها ستحقق في طريقة الإدارة تلك، لرأب أي صدعٍ بها، وهو ما لم يحدث أيضًا، وبذلك تؤكد تل أبيب على دور التحقيقات الفعلي في نظام إنفاذ القانون الخاص بها، والذي هو أبعد ما يكون عن هدفه الأصلي في الوصول إلى الحقيقة.

ساسا بوست

craftsman pouring remnants on a metal basin Previous post إعادة تقييم المهن في لوكسمبورغ
Next post استقدام مغاربة إلى إسرائيل للعمل