الصين بعيدة عن الأضواء: الحوار الاستراتيجي الإسرائيلي الأمريكي حول التكنولوجيا

أساف أوريون وشيرا إيفرون 

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_ على الرغم من تركيز العناوين الرئيسية للصحف ووسائل الإعلام على مواضيع وقضايا مختلفة لم تشمل الصين، إلّا أن رحلة الرئيس الأمريكي إلى إسرائيل والسعودية تضمنت تصريحات، واتفاقيات، وحوارات تم الإعلان عنها حديثاً بين الوكالات والتي تنطوي على تداعيات عميقة على السياسة تجاه الصين.

ركّزت الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخراً إلى الشرق الأوسط على الأمور الأكثر أهمية لمضيفيه في إسرائيل والخليج العربي وهي: الضمانات الأمنية في وجه التهديدات الإيرانية وإعادة تأهيل العلاقات مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. كما تناول الرئيس بايدن القضايا الأمريكية ذات الأولوية القصوى، وفي مقدمتها زيادة تدفق النفط من دول الخليج إلى السوق العالمية، وإبداء لفتات رمزية حول القضية الفلسطينية. ولكن يبدو أنه بالكاد تمت الإشارة إلى المسألة الأكثر أهمية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهي التنافس الاستراتيجي مع الصين. فهل هذا صحيح؟ 

في مؤتمر صحفي مشترك عقده الرئيس الأمريكي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد في 14 تموز/يوليو 2022، شدّد الرئيس بايدن على أن زيارته تهدف إلى إظهار التزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط وتجنّب ترك فراغ قد تملأه الصين وروسيا. وكرّر هذه الرسالة في قمة مع قادة دول الخليج وبعض الدول العربية في 16 تموز/يوليو. وفي هذا السياق، رفض متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ملاحظات بايدن، مسلطاً الضوء على مساعي الصين للمساهمة في إحلال السلام وتعزيز التنمية في المنطقة، كما أعاد وكرر متحدث باسم السفارة الصينية في إسرائيل هذه الرسالة. ولم يجرِ على ما يبدو التعمق بمسألة الصين بحدّ ذاتها خلال زيارة بايدن، ولكن التفاصيل تشير إلى خلاف ذلك.   

في 15 تموز/يوليو، أعلن البيت الأبيض عن نتائج الاجتماعات مع العاهل السعودي ونجله، التي تضمنت اتفاقات في العديد من المجالات، من بينها سحب قوات حفظ السلام من جزيرة تيران (بموافقة إسرائيل)، وفتح المجال الجوي السعودي أمام الرحلات التجارية (والتي تشمل الرحلات الجوية الإسرائيلية) ووقف إطلاق النار في اليمن. ولاحقاً، رحّب الرئيس بايدن بالدعم السعودي لمبادرة “الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي” التي أطلقتها الولايات المتحدة، وتوقيع مذكرة تعاون بين الحكومات لنشر نُظم اتصالات شبكة الجيل الخامس والسادس. ويُذكر أن مبادرة الشراكة هي ردّ أمريكي متأخر على “مبادرة الحزام والطريق” الاستراتيجية الصينية للبنية التحتية التي تمّ إطلاقها في عام 2013. أما اتصالات شبكة الجيل الخامس والسادس، فتندرج ضمن إطار الصراع المحتدم بين الولايات المتحدة وشركات الاتصالات العملاقة الصينية، وعلى رأسها “هواوي”. بعبارة أخرى، ومن دون إصدار أي بيانات صريحة معادية للصين قد تُحرج المضيفين السعوديين، أطلقت إدارة بايدن تدابير عملية لحشد دعمهم للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة في إطار منافسة القوى العظمى. ولكن ماذا عن إسرائيل؟

في 13 تموز/يوليو، وقبل وصول الرئيس بايدن إلى إسرائيل، أصدرت القدس وواشنطن بياناً مشتركاً (مع اختلافات في الصياغة في كلا النسختين) حول إطلاق التعاون التكنولوجي الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة. وتَمثل الهدف من البيان في تعزيز جهود البحث والتطوير في أربعة مجالات، هي: حسن الاستعداد لمواجهة الوباء، من بينها الإنذار المبكر والإجراءات المضادة السريعة؛ والذكاء الاصطناعي لتحسين النقل والطب والزراعة؛ والاستجابة لتغير المناخ، والتي تشمل تكنولوجيات المياه ومعالجة النفايات والطاقة النظيفة والطاقة المتجددة؛ وبرامج التبادل العلمي في الحوسبة الكمومية ومجالات أخرى. وسيجري الحوار حول تنسيق مشترك بين الوكالات، مع عقد اجتماعات سنوية بالتناوب في البلدين، ومن المزمع عقد الاجتماع الأول في إسرائيل خلال الخريف المقبل.

إلا أن هذا البيان لم يحظَ بتغطية إعلامية واسعة بالمقارنة مع قضايا أخرى كإيران والفلسطينيين والتطبيع مع دول المنطقة، على الرغم من أنه أظهر على وجه التحديد تقدير الولايات المتحدة للقيمة الابتكارية التي تتمتع بها إسرائيل. ولم يُعقد مثل هذا الاتفاق حتى الآن إلا بين الولايات المتحدة وثلاثة من أقرب حلفائها وأكثرهم تقدماً، وهم: بريطانيا وأستراليا واليابان.

وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق قد يبدو تقنياً، فيما يتعلق بالاقتصاد والتكنولوجيا بشكل رئيسي، إلّا أن ترؤس رئيسَيْ “مجلسي الأمن القومي” في البلدين للحوار (وليس، على سبيل المثال، وزارتي العلوم أو الاقتصاد) يُشير إلى أن الاتفاق هو مسألة ذات أهمية استراتيجية وأمنية عليا. فضلاً عن ذلك، بينما تضمّ الشراكة بلدين فقط، إلّا أنه هناك جهة فاعلة أخرى، وإن لم تُذكر صراحة، ألا وهي الصين.

ويرد في الفقرة الثانية (في النص الذي أصدرته واشنطن) تعهُّد بـ “دعم منظوماتنا البيئية الابتكارية المتبادلة، وتعميق المشاركات الثنائية، وتعزيز وحماية التقنيات الهامة والناشئة وفقاً لمصالحنا الوطنية، ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلى جانب معالجة التحديات الجيواستراتيجية”، أي ليس مجرد التحديات الاقتصادية أو العلمية. إن الإشارة إلى هذه المبادئ المعلنة تسلط الضوء على القيم المشتركة للشراكة الإسرائيلية الأمريكية، والتي تتناقض مع قيم الأنظمة الاستبدادية، وفي مقدمتها الصين وروسيا. 

وفي مقام آخر من البيان، اتفق الطرفان على “السعي إلى زيادة التنسيق في مجال السياسات المتعلقة بإدارة المخاطر ضمن منظومات البيئية للابتكار التي نعتمدها، ومن بينها أمن الأبحاث والتحقق من الاستثمارات وضوابط التصدير، بالإضافةً إلى الاستثمار في مجال التكنولوجيا واستراتيجيات حماية التقنيات الحساسة والناشئة”. ويعكس هذا الاتفاق التفاهمات المشتركة حول التحديات التي يواجهها أمن التكنولوجيا التي تهددها الصين بطرق مختلفة، وفقاً لعدد من الدراسات الدولية، وهي: التجسس التكنولوجي؛ والنقل القسري أو غير المضمون للتكنولوجيا من خلال التعاون في مجال الأبحاث والاستثمارات والصادرات غير المرخصة أو غير المتعمدة، من بين وسائل أخرى؛ وتوظيف المواهب؛ ونشاط هجومي واسع النطاق في مجال التجسس السيبراني.  

وفي وقت مبكر من عام 2017، أشارت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية إلى الصين كأولوية قصوى، والابتكار كركيزة الأمن القومي وتكنولوجيات المستقبل الرئيسية كجبهة أساسية في منافسة القوى العظمى. ومنذ ذلك الحين، ضغطت إدارتا ترامب وبايدن على الحكومات الإسرائيلية لتقليل نقل التكنولوجيا إلى الصين، خشية أن يساهم ذلك في تقوية الجيش والاقتصاد الصيني على حساب الولايات المتحدة. وبالتالي، لا تسعى الشراكة التكنولوجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تشجيع تدفق التكنولوجيا من وادي السيليكون إلى “سيليكون فالي”، أي بين إسرائيل والولايات المتحدة فحسب، بل تهدف أيضاً إلى الحدّ من نفاذ الصين إلى التكنولوجيا والابتكار الإسرائيليين، مع التشديد على التركيز على أحدث التقنيات. 

وعلى مدى العقد الماضي، ركّزت السياسة الإسرائيلية على اغتنام الفرصة الاقتصادية في علاقاتها مع الصين، وحدّدت المخاطر الرئيسية الناجمة عن الاعتراض الأمريكي. وقد تركزت الضغوط التي مارستها واشنطن على إسرائيل على وقف مشاركة الصين في البنية التحتية الإسرائيلية وعدم استخدام البنية التحتية الصينية الصنع لشبكات اتصال الجيل الخامس في إسرائيل (والتي لم تكن على جدول الأعمال على أي حال)، والتحقق من الاستثمارات، وتقويض أي عمليات لنقل التكنولوجيا. واستجابت إسرائيل لهذه الضغوط بشكل جزئي من خلال إنشاء آلية استشارية لجوانب الأمن القومي المتعلقة بالاستثمارات الأجنبية في مجالات تخضع للوائح تنظيمية. ومنذ البداية، تم تصميم هذه الآلية لإعطاء الأولوية للاعتبارات الاقتصادية على حساب اعتبارات الأمن القومي، ولم تُغطِ الاستثمارات الأجنبية في التكنولوجيا، ويرجع ذلك أساساً إلى مخاوف (مبررة) من أن تقوّض الأنظمة الحكومية الإضافية قطاع التكنولوجيا المتقدمة. وفي ضوء القيود التي فرضتها واشنطن وتهديداتها، اختارت حكومات نتنياهو المضي بحذر وتجنّب أي مشاكل من خلال استخدام تدابير معتدلة ترمي إلى التخفيف من المخاوف الأمريكية بعض الشيء، في حين واصلت تعزيز العلاقات مع الصين، باستثناء الأمن والدفاع وغيرها من المجالات الحساسة.           

وعشية الاجتماع الأول لرئيس الوزراء آنذاك نفتالي بينيت مع الرئيس بادين، أعلن مكتبه أن بلاده تأخذ المخاوف الأمريكية بشأن الصين على محمل الجد وتعتبرها مسألة أمن قومي. ويعكس البيان الذي صدر مؤخراً عن بايدن ورئيس الوزراء لابيد التقدّم المحرز نحو تغيير المواقف على جانبيْ المحيط الأطلسي. وبدلاً من إقدام طرف واحد على فرض قيود وإطلاق تهديدات في ظل توخي الطرف الآخر الحذر، اتفقت إسرائيل والولايات المتحدة على تعزيز شراكتهما، وتكييفها مع تحديات القرن الواحد والعشرين وعصر منافسة القوى العظمى التي تشكّل التكنولوجيا جوهرها. وفي حين أن البيان والشراكة غير موجهين ضد أي طرف ثالث، إلّا أنهما يلبيان احتياجات إسرائيل إلى التطور، وتوسيع قاعدة الابتكار المشتركة مع الولايات المتحدة، ويبددان في الوقت نفسه مخاوف الأمن القومي الأمريكية المتعلقة بالمنافسة في مجال التكنولوجيا مع الصين وبدور إسرائيل في هذا المجال. وتسعى الولايات المتحدة أيضاً إلى تشكيل تحالف تكنولوجي بين الديمقراطيات المتقدمة، ومن شأن الإجراءات الضرورية للتعاون مع الولايات المتحدة أن تمهد أيضاً الطريق أمام مشاركة إسرائيل في هذا الإطار الناشئ المتعدد الأطراف.

ولم يُعلَن بعد عن الخطوات الرسمية الكامنة وراء البيان الأخير، ولكن سبق ونُشرت الخطوط العريضة لهذه المقاربة الجديدة إزاء العلاقات الأمريكية الإسرائيلية في عصر منافسة القوى العظمى في آذار/مارس 2022 في وثيقة مشتركة صدرت عن ثلاثة معاهد بحثية بعد عام من العمل، وهي: “مركز الأمن الأمريكي الجديد”، و”مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات”، وهما جهتان تمثلان طرفيْ الطيف السياسي في واشنطن، و”المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي”. وتم تقديم الوثيقة والورقة الداخلية التي سبقتها إلى المسؤولين في الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية، وساهمتا في تصميم الاتفاق المعلن عنه حديثاً. وشملت التوصيات الأولية الواردة في الوثيقة المشتركة، التي تضمّن البيان أجزاء منها، توضيح ومواءمة وجهات النظر الإستراتيجية المختلفة بين الجانبين بشأن الصين؛ وإنشاء مجموعة عمل مشتركة لتنسيق السياسات والاستراتيجيات في مجال التكنولوجيا؛ وتعزيز مشاركة القطاع الخاص والقطاع الأكاديمي والسلطات التشريعية ووكالات الإنفاذ؛ وإطلاق حوارات (بين جهات رسمية وغير رسمية)؛ وتحسين التنظيم والإشراف على التقنيات والاستثمارات الجديدة ذات الاستخدام المزدوج.

ومنذ 11 أيلول/سبتمبر 2001، وعلى مدى عقدين من الزمن، تركز التعاون بين إسرائيل والولايات المتحدة على الحرب العالمية ضد الإرهاب. وأصبحت التكنولوجيا محور التركيز الرئيسي في المنافسة الاستراتيجية بين القوى العظمى، وبالتالي، فإن التعاون بين واشنطن والقدس يتطلب التكيف. وسيخضع تصريح القادة حول الشراكة على صعيد التكنولوجيا للاختبار خلال مرحلة التنفيذ – من خلال نجاح مجلسيْ الأمن القومي، ليس فقط في إطلاق العمليات التي تؤدي إلى التقدم الفعلي في مجالات التعاون التكنولوجي، بل أيضاً في توطيد العلاقات الإستراتيجية بين إسرائيل وحليفها الأكبر، الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، ستعمل القدس وواشنطن على تعزيز العلاقات المثمرة والآمنة مع الصين، التي تُعتبر شريكاً اقتصادياً مهماً لكلا البلدين، وللعديد من الدول الأخرى في المنطقة والعالم أيضاً.

معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى

Previous post الأردن وتغير القيم الإسلامية …….
Next post ملك المغرب يحذر من الفتنة بينهم وبين الجزائر