العالم منشغل بأزمة الطاقة وإيران بأحلام الهيمنة!
حميد الكفائي
شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_منذ وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السلطة في يناير عام 2020، شرعت الإدارة الديمقراطية الجديدة بإجراءات حثيثة للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، الذي غادره الرئيس السابق، دونالد ترامب، عام 2018، قائلا إنه غير كاف، بل يساعد النظام الإيراني على التمدد، بدلا من أن يحد من تسلحه.
الإدارة الديمقراطية، سواء في ظل الرئيس السابق، باراك أوباما، أو الرئيس الحالي، جو بايدن، تتبنى أسلوب التعامل الدبلوماسي مع إيران والانخراط في التفاوض معها، من أجل إيقاف محاولاتها تصنيع قنبلة نووية، بدلا من سياسة “الضغط الأقصى” التي تبنتها الإدارة الجمهورية السابقة.
ومثلما فشلت سياسة “الضغط الأقصى” في ثني إيران عن سعيها الحثيث لتطوير برنامجها النووي، بما يمكِّنها من تصنيع القنبلة النووية، فإن سياسة التفاوض والدبلوماسية، التي تتبعها إدارة بايدن، هي الأخرى فشلت حتى الآن في أن تعيد إيران إلى الاتفاق النووي، رغم الإشارات الإيجابية التي أطلقها وفدها في جنيف في العام الماضي، بأن أطراف الاتفاق النووي الستة “على وشك التوصل إلى اتفاق”.
ما الذي حصل؟ ولماذا تلكأت إيران في العودة إلى الاتفاق النووي، تلك التي كانت سترفع عنها عقوبات مدمرة، أصابت اقتصادها بشلل آخذ في التفاقم، وتسمح لها بتصدير النفط والغاز، الذي سيوفر لها أموالا وفيرة، خصوصا بعد أن تضاعفت أسعار الطاقة العالمية، وتمكِّنها من استيراد ما تحتاجه من أجهزة وسلع وبضائع ومعدات وأدوية؟
لماذا فضلت إيران البقاء تحت عقوبات قاسية، وربما الأقسى التي خضعت لها أي دولة أخرى في العالم، قبل فرض العقوبات الغربية الأخيرة على روسيا، على العودة إلى الاتفاق النووي، ومعه العودة إلى التفاعل الطبيعي مع المجتمع الدولي؟
الموقف الإيراني تحول من مرن جدا إلى متشدد جدا، بل غير مستعد لإبرام أي اتفاق مع الدول الغربية حول البرنامج النووي، وقد حصل هذا بعد الاستقطاب الدولي، الذي تسببت به الحرب الروسية-الأوكرانية. يبدو أن الإيرانيين يرون بأنهم الآن أصبحوا في موقف أقوى، وأن بإمكانهم أن يفرضوا شروطهم على الولايات المتحدة والدول الأوروبية الراعية للاتفاق، التي تحتاج الآن إلى خفض أسعار الطاقة، لذلك فإنها ستوافق، في رأيهم، على ما تضعه إيران من شروط!
وفي الوقت نفسه فإن الإيرانيين لم يرغبوا أن يضعفوا موقف حليفتهم روسيا، التي تشترك معهم في مشاريع عديدة، أهمها العمل المشترك في سوريا، والتعاون العسكري في أوكرانيا، إذ أشارت تقارير غربية إلى أن إيران تزود روسيا بالطائرات المسيرة لاستخدامها في الحرب في أوكرانيا.
لذلك فإن أي اتفاق مع الدول الغربية سوف يخفف من أزمة الطاقة العالمية، الأمر الذي من شأنه أن يضعف الموقف الروسي، ويمكِّن الدول الغربية من الاستفادة من الطاقة الإيرانية، وتشديد العقوبات على روسيا. صحيح أن هذا الموقف الإيراني يلحق ضررا بالمصلحة القومية الإيرانية، لكنه يخدم مصلحة النظام وتحالفاته الخارجية.
من ناحية أخرى، فإن إيران تقيم منذ سنين عديدة علاقات جيدة مع الصين، التي ساندت روسيا، أو تعاونت معها، في عمليتها العسكرية ضد أوكرانيا، لذلك شعر الإيرانيون بأنهم الآن جزء من حلف دولي قوي، مكوّن من دولتين كُبريين، هما روسيا والصين، تعاديان أميركا وحلفاءها، وأن الأفضل والأسلم لإيران أن تبقى تتعاون معهما، بدلا من إبرام اتفاق مع الدول الغربية، قد لا يستمر طويلا، خصوصا إن تغيرت الإدارة الديمقراطية وفاز الجمهوريون في انتخابات 2024. إضافة إلى ذلك، فإن الاتفاق يسعى للحد من قدرات إيران العسكرية، وهذا لا يخدم توجهات النظام الحاكم.
الشروط الإيرانية للعودة للاتفاق النووي صارت شبه تعجيزية، وبعضها لا معنى ولا هدف واضحا له، غير تأخير التوصل إلى اتفاق. مثلا، أحد الشروط هو إزالة الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية، والتي أُدرِج فيها إبان عهد الرئيس ترامب. مثل هذا الأمر، الذي لا يضر الولايات المتحدة، ولن ينفع إيران بشيء، فالحرس الثوري ينشط داخل إيران، ولا يتأثر كثيرا، بمثل هذه العقوبة، بينما (فيلق القدس)، وهو الذراع الخارجي للحرس الثوري، والمتضرر من شموله بالعقوبات الأميركية، موجود على لائحة المنظمات الإرهابية مذ زمن بعيد، بينما لا تطالب إيران حاليا بإزالته من القائمة.
المطلب الآخر هو وقف التحقيق الذي تجريه منظمة الطاقة الذرية العالمية في وجود آثار لليورانيوم المنضَّب في أماكن في إيران، غير معلن عنها للوكالة الدولية! هذا المطلب يثير الشكوك، ويبرهن على أن هناك أمرا لا ترغب إيران بأن يعرفه المجتمع الدولي عن برنامجها النووي، الذي تدعي بأنه مخصص للأغراض السلمية، لا العسكرية، وأن لديها فتوى من المرشد خامنئي، تحرِّم تصنيع القنبلة النووية، وكأن هذه الفتوى تشكل ضمانة للمجتمع الدولي بأن إيران لن تقْدِم على تصنيع قنبلة نووية، ولن تستخدمها ضد خصومها.
المبعوث الأميركي الخاص إلى المفاوضات حول الاتفاق النووي الإيراني، روبرت مالي، قال لبرنامج الساعة الإخبارية في قناة “بي بي أس” الأميركية، “إننا فقط نريد أن نعرف أين ذهب اليورانيوم المنضب، الذي أخفته إيران عن وكالة الطاقة الذرية، ولن ندخل في أي تحقيق حول الماضي ولماذا أخفت إيران هذا الأمر”. لكن إيران ترفض الإفصاح عن مكان وجود هذه الكمية السرية من اليورانيوم المنضب، بل تريد إيقاف التحقيق الدولي فيها.
المطلب الثالث، هو أن تقدِّم الإدارة الأميركية ضمانة بأنها لن تنسحب من الاتفاق النووي مستقبلا! وهذا طلب تعجيزي فعلا، فليس بمقدور أي رئيس أميركي أن يقدِّم مثل هذه الضمانة، لأن صلاحيات الرؤساء الأميركيين متساوية وفق الدستور، ومازال الرئيس الحالي قادرا على إلغاء أو تعديل قرارات سلفه، فإن بإمكان الخَلَف أن يلغي قرارات السلف، مثلما فعل ترامب عندما ألغى الاتفاق الذي أبرمه باراك أوباما مع إيران، ومثلما يحاول بايدن حاليا، أن يلغي قرار ترامب ويعود إلى الاتفاق. مثل هذا المطلب الإيراني، يتطلب تعديل الدستور الأميركي، كي يسمح بأن يقدم الرئيس ضمانة لدولة أخرى لا يقدر على تغييرها أو إلغائها أي رئيس مقبل للولايات المتحدة!
رئيس وكالة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامي، أعلن مطلع هذا الشهر، حسب ما نقلته وكالة فارس الرسمية الإيرانية، أن إيران لديها القدرة على تصنيع قنبلة ذرية إن أرادت، “لكنها لا تخطط لذلك”! وهذا ليس الإعلان الرسمي الأول في هذا الصدد، إذ سبقه كمال خرازي، مستشار المرشد خامنئي، ووزير الخارجية الأسبق، في تصريح نقلته قناة تلفزيونية عربية، بأن إيران لديها القدرات التقنية لصناعة قنبلة ذرية “ولكن لا يوجد قرار بهذا الشأن”!
وكالة الطاقة الذرية الدولية تقول إن لدى إيران حاليا 43 كيلوغراما من اليورانيوم المنضب بنقاوة 60%، وهي تحتاج إلى 25 كيلوغراما فقط من اليورانيوم المنضب، بنقاوة 90%، كي تصنع القنبلة الذرية. وقال رئيس الوكالة الدولية، رافائيل غروسي، قبل شهرين إن إيران يمكنها أن تكتسب القدرة التقنية لتصنيع القنبلة الذرية خلال أسابيع، حسب ما نقلته بي بي سي، لكن الولايات المتحدة ترى أن إيران تحتاج إلى سنة كاملة كي تتمكن من صناعة القنبلة الذرية.
لا يوجد شك بأن إيران مصممة على تصنيع قنبلة ذرية، مثلما هي مصممة على تطوير صناعاتها الحربية الهجومية الأخرى، كالطائرات المسيرة والصواريخ البالستية بعيدة المدى. ولو كانت حقا تريد تطوير قدراتها النووية السلمية فقط، فإن العودة إلى الاتفاق لا تمنعها من ذلك، بل سوف تعزز هذه القدرات لأنها تسمح لها بالتفاعل مع العالم الخارجي وتصدير النفط والغاز وتطوير قطاعات الاقتصاد الإيراني المعتمد على الواردات، وما إلى ذلك من مزايا، بدلا من البقاء تحت عقوبات شديدة وشاملة، عانى منها شعبها معاناة قاسية منذ سنين عديدة.
لقد وصل معد التضخم الشهري في إيران إلى 12.2%، ومعدل التضخم المقارن إلى 52.5% في أواخر شهر يونيو الماضي، حسب بيانات المركز الإحصائي الإيراني الرسمي. وتقدِّر مصادر إيرانية أخرى معدل التضخم السنوي بـ 86%. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تتجاوز نسبة البطالة في إيران 10%، بينما تقدرها مصادر أخرى بحوالي 12%.
الوضع الاقتصادي الإيراني يزداد سوءا باستمرار، بسبب العقوبات الأميركية الشاملة التي فرضتها إدارة الرئيس السابق ترامب، والتي أبقى عليها الرئيس بايدن، ورغم ذلك، فإن إيران مازالت تعتبر التدخل في شؤون الدول الأخرى في المنطقة وخارجها، من أولوياتها القصوى، وهذا المسعى لم يتأثر بأي اتفاق أبرمته إيران سابقا، ولن يتأثر بأي التزام تقدمه لاحقا. لقد تعزز التدخل الإيراني في شؤون الدول المجاورة كثيرا بعد عام 2015، وهو عام الاتفاق النووي، واستمر بوتيرة متصاعدة بعد انسحاب الولايات المتحدة منه.
ترى القيادة الإيرانية أن العودة إلى الاتفاق النووي سوف تضع نشاطات إيران أمام المجهر الدولي، وتقيد حريتها في تحقيق الهدف الأسمى للنظام، ألا وهو التفوق العسكري على دول المنطقة، وتحُد من قدرتها على التدخل العسكري في شؤون الدول الأخرى، وهذا ما لا يروق للنظام الإيراني الأيديولوجي، حتى وإن كان سيعود بالخير والرخاء على إيران وشعبها، فهذا الأمر ليس مهما للنظام، على ما يبدو، بقدر أهمية تصدير الثورة والتوسع الأيديولوجي.
وبينما تحاول دول العالم الطبيعية أن تحل مشاكلها الاقتصادية وتقلص من معدل التضخم والبطالة وتجد مصادر بديلة للطاقة، تتجاهل إيران معاناة شعبها وظروفها الاقتصادية الصعبة، وتحاول استغلال الظروف الدولية الحالية كي تطور قدراتها العسكرية، النووية منها والتقليدية، وصواريخها الباليستية، من أجل الهيمنة الإقليمية.
سكاي نيوز