مقاربات
شاعر الواحة : احمد مازن
نبي ننساه ردني أوهامه
سقط في خاطري وجدد غرامه.
يبدي الشاعر الرغبة لنسيان الحبيب، فالحياة القلقة المبنية على الانتظار و الترقب و الخوف نتيجة البعد و الفراق تحدث صاحبها بالنسيان و حتى نقض نسيج الحب و عراه
و لكن لقاء على غير موعد يوقظ جراحاً لم تندمل و يتجدد به عهد العشق و الهوى
وإذا ما التام جرح
جد بالتذكار جرح
فتعلم كيف تنسى
وتعلم كيف تمحو
فلا مكان للنسيان أو الفكاك من ربقة الهوى، استعمل الشاعر كلمة “سقط” و عدل عن استعمال خَشّْ بمعنى دخل أو سكن لها مدلولها حيث أن الداخل أو الساكن له فرصة اختيار مكان القعود بعكس الساقط الذي لا خيار له و كأن لسان حاله يقول أن هذا الحبيب لا مكان له إلا القلب فلم يكن هناك خيار فضلاً عن اللفظة ترتبط بتساقط الرطب او المطر كما هو الوارد في القرآن الكريم.و بعد أن أبدى رغبته في النسيان و أن أوهام حبيبته أو خيالها و صورتها عزفت به عن ذلك طفق يصف ذلك اللقاء الذي جدد جذوة العشق و الغرام
قابلني بذاته
وعيني بعد طول الموح راته
من لبعاد خطَّم فرزاته
وعرفت مشيته وبربخة حزامه
“قابلني بذاته” بشحمه و لحمه كما يقولون ليؤكد أن اللقاء حقيقي و ليس وهماً أو خيالاً و زاد أكده بقوله “وعيني بعد طول الموح راته” فلم يقل رأيته ليبعد شبهة رؤيا الخواطر أو الأحلام، و أظهر مدى معاناته في عشقه حين قال “بعد طول الموح” أي بعد طول الغياب و البعد، و الموح بُعْدٌ تكتنفه لوعة عشق لذا يكون مدلولها أعمق من أي لفظ آخر كالغياب مثلاً، و قبلها أتى بلفظ “الابعاد” جمع بعد مشيراً بأن المسافة بينهما حين رآها بعيدة جداً، يشيع الشاعر أن لقاءه كان على غير موعد حين قال “من لبعاد خطَّم فرَّزاته ،،
بِرَبْخَةْ مشيته و لَوْيَّةْ حزامه”
كانت نظرة عينه عن بعد و رغم هذا البعد استطاعت عينه أن تفرِّزَه و تتعرف عليه من خلال مشيته و لوية حزامه و استعماله لكلمة “فرَّزاته” يبين أنها لم تكن وحدها بل كانت تمشي في كوكبة من النسوة مشية “رابخة” أي أن بها شيء من الفخامة و سياق الكلام يفيد أن هذه هي مشيتها الطبيعية فلم تكن متصنعة
كَأنّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جارَتِهَا
مرّ السّحابة ِ، لا ريثٌ ولا عجلُ
ثم جاء على ذكر الحزام و جاء باسم الهيئة “لوية” ليشيع بأن لها طريقة خاصة لربط الحزام، و هنا لمحة جميلة من الشاعر من حيث ترتيب الكلام حسب علاقة الالفاظ ببعضها، فعندما ذكر المشية ذكر الحزام لما له من أثر في تسهيل عملية المشي و إظهار رشاقة الجسم و جماله و أن حبيبته له عناية خاصة بملبسها و مظهرها ليضفي عليها بعد جمال الخلقة جمال اللباس و رفعة الذوق.
“قابلني أَوِيينَه
بخطة حاجبه ولمعة جبينه
اللي كيف لريل وسع عينه
منه القلب متحير منامه”
“قابلني” تفيد اللقاء وجهاً لوجه و عن قرب، رغم أنه اتبعه بلفظ “اويينه” الذي يعني الإشارة للبعيد و ذلك ليربط بين شعوره الداخلي و واقع الحال فكأن اللقاء كان عن قرب رغم بعد المسافة فمكَّنه ذلك من الاتيان بأدق أوصاف حبيبته من رقة حاجبها “بخطة حاجبه” فغالباً ما يكون الخط رقيقاً ثم يصف الجبين بأنه يلمع و هذا يشير إلى بياض بشرة حبيبته يحاكي قول القائل، “تطبيسة على ضاوي جبينه” ثم أتى على العين فهي شبيهة بعين الغزال الواسعة و العين كما هو معروف تختزل الكثير من جمال المرأة و هي مدعاة للفتنة
عيون المها بين الرصافة و الجسر
جلبن الهوى من حيث أدري و لا أدري
أعدن لي الشوق القديم و لم أكن
سلوت و لكن زدن جمراُ
على جمر
و لكن العشق يحمل معه رياح الحيرة و السهر و القلق “منه القلب متحير منامه”
يمضي الشاعر في ذكر أوصاف محبوبته الحسية
[ ] ” سريت نار من صاقل ابسامه” يحاكي القول الذي يصف الأسنان الصقيلة ما يزيد المرأة جمالاً على جمالٍ
والاقحوان كالثنايا الغُرِّ قد صقلت أنواره بالقطر
قابلني رحيله ،،
“خاوي الجوف لسبط عوم جيله
وسيع العين بو عكسه طويله
نرجى فيه كان صحن أقسامه”
يصف هيئتها بأنها ليست ذات سمن و لها طول زادها جمالاً فالالفاظ “خاوي الجوف و الأسبط” من أجمل و أكمل ما توصف به المرأة،
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
و يضيف أنها “عوم الجيل” أي أنها ذات صيت و شهرة بين بنات جيلها، يرجع ليصبغ على عينها صفة الوسعة “وسيع العين” بعد أن وصفها بعين الغزال، و ليؤكد أن أجمل ما في النساء العيون و أن جمال عينيها أبرز جمال شعرها الطويل الذي يحمل نفس لون العينين السوداويْن “بو عكسة طويلة”
لها مقلة لو انها نظرت
بها
إلى راهب قد صام لله وابتهل
لأصبح مفتونا معنى
بحبها
كأن لم يصم لله يوما
ولم يصل
فهذه الأوصاف التي ذكر لامست شغافه و أوردته على حالة نفسية تُرَغِّبُه بالقرب منها و الفوز بها
“نرجى فيه كان صحن أقسامه”
بعد أن كانت حالته النفسية التي صدَّر بها قصيدته تحثه على النسيان
“نبي ننساه ردني أوهامه”
“قابلني و بَيِّنْ
عوم الجيل في المحفل مزين
نقشه سمح وزويله قنين
عليه الملح ينغز في عظامه”
يعيد بأن صاحبته ذات صيت عالي بين بنات جيلها و أن رؤيته لها كانت في محفل أو عرس فكانت طلتها في أبهى و أحلى صورها حتى طغت على الحاضرات إذ أن من خلق النسوة في مثل هذه المحافل التنافس في إظهار صور الجمال و الذوق الرفيع.
“عوم الجيل في المحفل مزيَّن
نقشه سمح وزويله قنين”
ثم عمد الجوهر بأنها ذات نفسية يصدر عنها البشر و السرور و خفة الظل و تلقى القبول من مجتمعها ليست ثقيلة الدم أو ذميمة الأخلاق، فلفظة الملح في الموروث الشعبي
تعكس هذه الخلال.
“عليه الملح ينغز في عظامه”
فإلى جمال البشر يضيف جمال الروح!!
“قابلني ضفيفه
نظيف الخد بو وشمه رهيفة
كان القسم والنية نظيفة
بعد الياس يبقى فالشلامه”
كل شيء فيها جميل بما في ذلك الوشم لرهافته و ظرفه، أتى على ذكر الوشم بعد ذكر الخد النظيف الذي يعني بياض البشرة ليستحضر السامع جمال الصورة، وشم غامق على بشرة بيضاء، يعيد مرة أخرى رغبته في القرب أكثر بأن تكون له وحده و بقربه و هذا على عكس رغبته الذي صدر بها قصيدته و إنما هذا يشير لمدى لوعته و حبه لها و حالته المتقلبة في عشقه كما هو حال العشاق
“كان القسم والنية نظيفة
بعد الياس يبقى فالشلامه”
و هنا كلام لطيف، إيمانه بالغيب و تعويله على السرائر و النية الصادقة يكونان عوناً له للفوز بمراده.
“قابلني ب جوده
نظيف الخد مولى العين سودة
قصير الحبل يصعب في وروده
عللي طولها ستين قامه
نبي ننساه ردني اوهامه
سقط في خاطري وجدد غرامه”
ربط بين بياض البشرة و سواد العينين لتكتمل صورة الجمال لدى السامع،
“نظيف الخد مولى العين سودة”
ثم يسمو بمكانتها التي قد تكون مادية أو اجتماعية أو ما حازته من رفيع الصفات التي ذكر حتى أصبحت عوم الجيل و لذا ليس أي أحد يفوز بها و يسعد بقربها مثلما قصير الحبل لا يستطيع استخراج الماء من البئر!!
“قصير الحبل يصعب في وروده”
تمضي القصيدة على وتيرة الوصف الحسي او الظاهري و الجوهري لحبيبته، دون أن يلج بواطنه لتصوير حر مشاعره تصويراً مفصلاً، فلم نسمع منه عن ألم الشوق و دموع السهر و حيرة القلق و حرقة الوجد و الحنين و غير ذلك مما يجده العشاق من فرط اللوعة و الهيام، يبدو أن رؤيته لها أنسته آلامه و أوجاعه فلم يعد يفكر في نسيانها بل شرع يطلب القرب و أن تكون في حظيرته. و على رأي القائل:
كل نار تصبح رماد مهما تقيد
إلا نار الشوق يوم عن يوم تزيد
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …._