«الأمومة» قبل التاريخ
أميرة حسن
شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_عندما نسمع كلمة أم أو أمومة في عصرنا الحالي تقفز إلى أذهاننا الكثير من التصورات والقيم التي ربطها المجتمع بمفهوم الأمومة، مثل ضرورة التضحية والرعاية والحنان، وأن تكون الأم هي الراعي الأول والمسئول عن الطفل وأي مساهم آخر في تلك الرعاية، غير الأب، يندرج تحت بند «المساعد»، ولكن: هل كانت الأمومة على هذا الشكل الذي نعرفه الآن قبل بناء الحضارة وقبل التاريخ المكتوب؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب التسليم بأن معلوماتنا عن الأمومة في عصور ما قبل التاريخ ليست كثيرة؛ ولكن علماء الحفريات وعلماء الآثار جاهدوا طويلًا في محاولة فهم طبيعة الأمومة ودور الأم في عصور ما قبل التاريخ؛ وفي هذا التقرير نذكر لكم بعض المعلومات عن الأمومة في تلك الفترة السحيقة من عمر الكائن البشري.
مهد الجنس البشري.. الولادة كانت سهلة نسبيًّا
أصبح من البديهيات أن عملية الولادة في عصرنا الحديث تحتاج إلى مساعدة طبية، بحكم صعوبتها والألم الناتج منها، كما أنها في بعض الحالات قد تستغرق أيامًا، لكن إذا نظرنا إلى قطتنا الأليفة التي في المنزل، قد نستيقظ من النوم لنجدها قد ولدت، وكذلك أي حيوان آخر بداية من الطيور التي تبيض، ووفقًا لنظرية التطور فقد كان أسلاف البشر من القردة العليا يلدون بالسهولة نفسها ودون أي مساعدة.
ففي علم التطور؛ يعد «أوسترالوبيثكس سيديبا» وهو أحد أنواع الـ«أوسترالوبيثيسين» المنقرض؛ «مهد البشرية»، وقد وجد علماء الحفريات عظامه في جنوب أفريقيا، وحددوا عمر تلك الهياكل العظمية بما يقرب من 1.95 مليون سنة أي في أوائل العصر الجليدي.
ووفقًا لعلم الحفريات فإن أنثى الـ«أوسترالوبيثكس سيديبا» لم تكن تعاني الأم كثيرًا في حالات الولادة، وهذا وفقًا لتصريحات «ناتالي لوديسينا»، عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة بوسطن بالولايات المتحدة، ويرجع سبب هذا إلى أن هذا النوع من البشر في سلم التطور؛ كان لإناثه هيكل عظمي ذو حوض واسع يسمح للطفل المرور بكتفيه ورأسه بسهولة شديدة.
ولكن مع تطور البشر واستمرارهم في المشي على الأقدام فحسب؛ فقد طوَّرت الأنثى البشرية حوضًا أضيق؛ صعَّب عليها وعلى الطفل عملية الولادة الطبيعية، وأصبح الجنين في حاجة للمساعدة في المرور من الرحم لخارج الحوض.
لكن هذا التطور البشري لم يكن في صالح الأمومة في هذه الحالة، ونستطيع أن نتخيل أول امرأة فوجئت بكونها لا تستطيع الولادة مثل أسلافها من الأمهات بكل سهولة؛ حتى توارث الإناث عبء تطور الهيكل العظمي في ولادة أطفالها.
4 أعوام.. الرضاعة لدى الإنسان الأول
لا يُعرَف الكثير عن عادات الرضاعة الطبيعية لدى الإنسان ما قبل التاريخ، وكل ما هو معروف مستمد أساسًا من الافتراضات والمؤشرات التي تعد قريبة إلى حد ما من الواقع، ومن خلال الأدلة التي جرى العثور عليها يعتقد العلماء أن البشر الأوائل من صيادين وجامعي الثمار ومزارعي العصر الحجري كانوا يربون أطفالهم مثل الرئيسيات العليا الأخرى، أي عن طريق إرضاعهم طبيعيًّا من ثدي الأم لعدة سنوات.
وتقدم سجلات الحفريات مؤشرات قليلة عن أوقات الفطام، لذا فكان الترجيح الأكثر شيوعًا هو أن الأم كانت تفطم أبناءها في سن أربع وحتى ست سنوات كما تفعل أمهات الشمبانزي والبونوبو، وتلك الفترة تعد أطول من فترة الرضاعة في عصورنا الحديثة والتي قد تستمر سنتين فقط. .
وفي دراسة نشرت في العام 2019 تحت عنوان «First human ancestors breastfed for longer than contemporary relatives» أو «أسلاف البشر الأوائل كانوا يرضعون من الثدي لفترة أطول»؛ حلل فريق من الباحثين الأسنان المتحجرة لبعض الهياكل العظمية للبشر الأوائل في فترة ما قبل التاريخ، واكتشف الباحثون أن الأطفال كانوا يرضعون رضاعة طبيعية لفترة أطول من الفترة التي نعرفها في عصرنا الحديث.
وقدمت نتائج هذه الدراسة نظرة ثاقبة عن ممارسة الرضاعة الطبيعية لدى إنسان ما قبل التاريخ، وهذا من خلال تحليل عينات دقيقة أُخذت من ما يقرب من 40 سنًّا متحجرًا للبشر الأوائل الذين عاشوا في جنوب أفريقيا.
وقاس الباحثون ما يعرف بنسب نظائر الكالسيوم الموجودة في مينا الأسنان، فأظهرت النتائج أنه في النسل المبكر للبشر الأوائل كانت الأم تستمر في الرضاعة الطبيعية للطفل لما يقرب من أربع سنوات، وهو الأمر الذي قد يكون لعب دورًا مهمًّا في ظهور السمات الخاصة بالإنسان الحديث، مثل تطور الدماغ.
وعلى النقيض من ذلك تقف عادات الرضاعة لدى «بارانثروبوس روبستوس» الذي انقرض منذ نحو مليون عام، وكان من الأنواع الأكثر قوة من حيث تشريح الأسنان، وكذلك أطفال الـ«أسترالوبيثكس أفريكانوس» والذين كانت تفطمهم أمهاتهم بعد شهور قليلة من الولادة.
«كاثرينا ريباي سالزبوري» عالمة آثار متخصصة في العصور البرونزية والحديدية الأوروبية، والتي تعمل في أكاديمية العلوم النمساوية في فيينا وهي المشرفة على مشروع «The value of mothers to society: responses to motherhood and child rearing practices in prehistoric Europe» أو «قيمة الأمهات للمجتمع: الاستجابة لممارسات الأمومة وتربية الأطفال في أوروبا ما قبل التاريخ»؛ تخبرنا أن الأمهات في عصور ما قبل التاريخ عرفن أيضًا «الرضاعة البديلة»، فمن خلال تحليل أسنان هياكل العظام للأطفال الذين عثر عليهم؛ وُجِد أن الأم كانت تلجأ أحيانًا للبن الحيوانات في رضاعة أطفالها بدلًا من اللبن الطبيعي.
طبيعة الرعاية
وهي أم لطفلين، ترأست كاثرينا هذا المشروع في محاولة للكشف عن طبيعة دور الأم في مجتمعات ما قبل التاريخ، وهل كانت رعاية الأطفال جماعية أم فردية، وفي محاولة للإجابة عن سؤال: هل رعاية الطفل مسئولية الأم وحدها منذ بداية وجود البشر على الأرض؟
كانت النتائج التي ظهرت لكاثرينا ليست كثيرة حتى الآن، ولكن الباحثة ترى أن هناك دليلًا واحدًا قد يكون مهمًّا؛ فتحليل الحمض النووي للهياكل العظمية التي وجدت لأنثى ومعها طفل متوفى؛ أكدت أن الأمهات والأطفال المدفونين سويًّا لا ينتمون جينيًّا بعضهم إلى بعض؛ ما يرجح – من وجهة نظرها- أنه ربما كان الأطفال ينشأون من خلال مسئولية جماعية للمجموعة أو القبيلة التي يعيشون فيها.
بشكل عام، ولسنوات طويلة كان العلماء يظنون أن الأمهات في عصور ما قبل التاريخ لم يقدموا للأطفال حديثي الولادة الرعاية الكافية، وهذا يرجع إلى العدد الكبير من الهياكل العظمية التي وجدت لأطفال من تلك العصور لم يصلوا إلى عامهم الأول، وقد وصلت نسبة وفيات الأطفال في عصور ما قبل التاريخ لنسبة تصل إلى 40%؛ فمن الذي يتحمل ذنب تلك النسبة في الوفيات في التفسيرات الأولى للعلماء غير الأم؟
في عام 2021 نشرت دراسة تحت عنوان «Determinants of infant mortality and representation in bioarchaeological samples: A review» أو «محددات وفيات الرضع والتمثيل في العينات البيولوجية الأثرية» غيرت وجهة النظر عن أسباب وفيات الأطفال في عصور ما قبل التاريخ وعدم إرجاعها إلى إهمال رعاية الأمهات لهم، وأوضحت الدراسة أن أسباب وفيات الأطفال الكثيرة ترجع لأسباب اجتماعية وغذائية وجغرافية، ولا يجب أن تُوجَّه أصابع الاتهام لمدى قدرة الأمهات في عصور ما قبل التاريخ على رعاية أطفال.
وكشفت تلك الدراسة أيضًا عن أن معدل وفيات الأطفال في المجتمعات القديمة ليس انعكاسًا لسوء الرعاية الصحية والمرض فقط، بل هو مؤشر إلى عدد الأطفال المولودين في تلك الحقبة، بمعنى أن معدلات الخصوبة وزيادة عدد الولادات؛ تزيد نسبيًّا من عدد الوفيات بشكل تلقائي، وجاء في نص الدراسة أن «عينات الدفن لا تظهر دليلًا على موت الكثير من الأطفال، لكنها تخبرنا أن الكثير من الأطفال يولدون».
أمهات ما قبل التاريخ وبقاء الجنس البشري
قد تختلف وجهات النظر عن طبيعة الأمومة في عصور ما قبل التاريخ، ولكن الأمر المتفق عليه هو أن أمهات ما قبل التاريخ لهن الفضل في نجاة البشر ووصولهم إلى النقطة الحالية من التطور، وقد نُشر تقرير على شبكة «بي بي سي» تحت عنوان «How prehistoric mothers were crucial to our survival» أو «كيف كان دور الأمهات في عصور ما قبل التاريخ حاسمة لبقائنا على قيد الحياة».
وناقش التقرير نتائج بحث جديد عن الدور الأساسي الذي لعبته الأمهات في عصور ما قبل التاريخ في زيادة النمو السكاني خلال العصر الحجري الحديث، وقد نشرت نتائج هذا البحث تحت عنوان «Neolithic mothers and the survival of the human species» أو «أمهات العصر الحجري الحديث وبقاء الجنس البشري».
وغالبًا ما ترتبط نهاية العصر الحجري، وهي الحقبة التي تُعرف باسم العصر الحجري الحديث؛ بانتقال البشر من قبائل بدوية صغيرة من الصيادين، إلى مستوطنات أكبر وأكثر تنظيمًا وقائمة على الزراعة، لكن هذه الفترة كانت أيضًا فترة يُعرف عنها زيادة الخصوبة لدى الإناث.
وتقول صوفيا ستيفانوفيتش أستاذة الأنثروبولوجيا الفيزيائية بجامعة بلجراد: «على الرغم من الصعوبات والمخاطر العديدة المرتبطة بالولادة في ذاك الوقت، كانت فترة العصر الحجري الحديث واحدة من فترات النمو السكاني الكبيرة».
وقد قدر ذلك البحث معدل الولادة لدى إناث هذا العصر بما يقرب من 10 أطفال، واكتشف الباحثون زيادة في عدد خطوط الإجهاد في ملاط الأسنان للإناث من العصر الحجري الحديث، وهذا ليس فقط من أوائل المؤشرات المعروفة على زيادة الخصوبة، بل يشير أيضًا إلى أن إناث العصر الحجري الحديث عانين من ضغوط فسيولوجية قوية، وفي النهاية؛ قد لا نملك الدلائل الكاملة على طبيعة الأمومة قبل التاريخ؛ ولكن الأكيد من الدلائل الموجودة حتى الآن؛ أن للأمهات دورًا مهمًّا لوصول البشر لهذه المرحلة التي نحن فيها الآن من تطور وحضارة.
ساسابوست