أيام معهم ((باب البيت القديم-))ذكريات على عتبات الوجع 

Read Time:8 Minute, 5 Second

تكتبها : كوثر الفرجاني 

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_ فرضت الحداثة والعنصرية نفسها علينا بلا مقدمات ، وأجبرتنا على ارتداء أصحابها،  ولبسناها حتى وآن لم تكن على مقاسنا،  أو  لا تليق بنا، وجعلتها تعبث بنا  حتى فقدنا  خصوصيتنا، والكثير من ملامحنا.

ولكنها عندما وصلت وأعادت رسم بيت جدي دمرت كل معالم ذكرياتي،بيت جدي الذي لا زالت صورته ترفض الحداثة المدمرة بجميع أشكالها  وقوالبها التي تسببت  بفقد الناس نبض  الحياة ، وأن يدخل أشكالها  وقوالبها، والتي تسببت بفقد الناس نبض الحياة ، وإن يدخل الأسمنت قلوبهم بقتل الصدق والطيبة، ليبقى بيت جدي مجرد ذكرى في الذاكرة، تذكرنا بماض لن يعود.

ولا نملك سوى الكلمات لتعيد  في ذاكرتنا  شذرات من ذكريات بعض من ملامح تلك الأيام. 

صور قديمة ..جعلتني أرنو يبصر إلى الذكريات العتيقة، حيث رحلت أيامها وأهاليها إلى الغيب البعيد.

صورة رحلت إلى قديم الأيام..فهيئات لي زورقا صغيرا أبحرت فيه إلى بيت جدي. الذي وقف شامخا صامدا عزيزا .. يصارع الزمن.. فكسب الرهان على البقاء..يقف صامتا صامدا.. في وجه كل عوامل التعرية الطبيعية والصناعية على السواء.. والتي تدخلت لتخلق ذلك الصراع على البقاء.. ولكنه قلوبها..  وتصدى لها .. وكأنه يقول : أكون أو  لا أكون. 

بيت جدي كان ملتقى ومصنعا لرجال افذاذ احتضنت الحضانة دافئة للعوائل عدة واسر وأحفاد..

كل ما فيه ينادينا.. جيرانه..نوافذه..أبوابه.. 

آه من بااااااابه….!

وقفت على عتبة الباب القديم .. استحضر ماض ذهب ولن يعود.

شواهد على حياة مختلفة ، تعكس مرحلة من مراحل حياة اجتماعية؛ ذاكرة المكان خزنت حياة أخرى، لمجتمع آخر، بكل نشاطاته وعلاقاته؛ ومكوناته الاجتماعية، والثقافية، ويستنطق فصوله وأحداثه؛ التي لا تخلو من الروح الإبداعية، حيث  أثار الأنامل 

التي رسمت خطوطا ونقاشات بقيت صامدة من جيلا إلى  جيل، لتروي القصص والحكايات.. 

بيوتنا القديمة تروي بمعمارها وأبوابها حكالي أيام زمان..التي نعجز عن فك طلاسمها والغازها..

فتبقى سرا لدينا في صندوق الحكايات الذي لا ينضب معينه. . أو  يضمحل .. أو يتلاشى.. 

مهما مرت السنين والأعوام .. والعقود والقرون..

نعشق القديم المخزون في ذاكرة مليئة بالتجارب والتاريخ، ليس المدون والمحفوظ بالثقافة الشفاهية  فحسب، بل ذلك القديم الذي يسكن التفاصيل، يسكن الأماكن، محفورا في صخور الجبال، وكان سلوكا وفعلا، وقيمة ومبدأ  ، تركتها تجارب أسلافنا  من جدودنا وجداتنا، يسكن الأيام  والليالي؛ مرسوما على ما تركوه من عادات وأخلاقيات، جعلت للحياة يومها؛ طعما مختلفا في الأمكنة والأزمنة.

علي إبريق قديم ، أو جدار، أو  باب، في بيت من بيوتنا القديمة بالقرية الصغيرة التي احتضنها الجبل، 

حيث تتلقفنا النقوش والمنمنات الصغيرة، ليرحل بصبرنا إلى تلك التفاصيل الدقيقة ، فتأتي لنا الذكريات تباعا ؛ تستثير في مكامن النفس الشوق، لتلك الأيام  الخوالي، عندما كانت هنا؛  تزهر بالحياة؛ وتصخب بالمودة والألفة، وتجيش بالنفس ذكرى الجدود، وتعرف على أوتار الذكريات ألحاناً  شجية، وأصوات ندية، وهو أركان القلب شوقا؛ ليالي الأجداد العامرة، يستصحبها دموع الحنين في صفحات السنين الغابرة.

تبرز لنا خيال وجوه في خلواتها..أبدعت في لحظة تخليق وتدقيق، يعكس شغف الإبداع؛ ووله الإتقان، 

وهو غير الخيالات حينما تنساب كشلال لا يتوقف ، إلا  بعد ما يثبت للرؤى وجودها وتصبح كائنا  نلمسه بأطراف أناملنا، بعيدا عن ضجيج الآلة وجودها.

نعود للماضي تستلهم روحه وإنسانيته، التهافت أرواحنا على تلك المنمنات العتيقة؛ الفارقة في نعيم العراقة، هروبا من جفاف هذه الأيام وجمودها، في محاولة يائسة الإبقاء على خيط اتصال بمن رحلوا من المكان، ولكنهم خلفوا لنا فيه من عبق الأيام الخوالي ما يربطنا بهم بلا انقطاع، من خلال ايقونات

مازالت شاهدة على أيام، كانت  الليالي فيها خالية إلا من قمر ونجوم، لا طائرات ولا أقمار صناعية ، ويوم كان السهل والسفح خاليا، إلا  من أناسا ودواب وشرح وريح وأزهار برية، حيث الطبيعة لا الآلة هي المحفزة الرؤى  الخلاقة. 

لذا…لا استغرب اذا استوقفني باب بيت جدي القديم، ذلك الباب الخشبي العتيق،  الذي حفظ سيرة إبداع حافلة، بعد أن  وجد له أجدادنا مادة مطواعة، تسيير مشاكل  على هواهم، ولأن شجرة الزيتون أعطتهم جسدها في بيئتهم ومحيطهم، فلقد كانت كريمة إلى حد لا يطاق، سجلت على أغصانها وجذوعها أحلى الذكريات ، حيث نقشت عليها كلماتهم، ورسمت حواليها أسرارهم، وصارت وكأنها صفحات من خشب يطعمونها  بكل إحساساتهم.

يشدنا القديم إليه: لأنه محمل ومكتنز بإيداع لأيام  تمازجت وأساليب حياة جمعتهم على المحبة والرحمة والرأفة، وها هي قطعة الخشب تعيدنا براعتها وخططها النحتية إلى أرشيف الذاكرة ، وإلى ذلك العمق في الزمن، وإلى  استحضار سيرة أولئك الاوائل الكرام ، بعيدا عن مقارعة الآلة بهذه الروح التي احتفظ بها الخشب،  أنها علاقة بقاء لقوى الإنسان الداخلية بعيدا عن تدخل الآلة وجودها.

لن يشتاق لعبق بيوتنا القديمة ، ويستشهد أصالتها إلا 

من عاش بين أكنافها، وتقولي بين حناياها، موسى بين مساربها، وتسل جدرانها، واحتضن حيطانها، وشم رائحة قهوتها، وسمع عند الفجر ابتهالات جداتها،  وصوت الرحى بين جنباتها،  منازل قوية واسعة رحبة، سعة صدور أهلها، فاجتمعت فيها الأسرة الممتدة لأسرة وأسرتين،  وحتى ثلاثة وأربعة مع متاعهم ودوابهم، وما ضاقت عليهم، وما ضاقت نفوسهم، دافئة بألوان زاهية، تزداد بهاء مع فصل الربيع، ومع الأعياد يعجز القلم عن وصف ماضي يعبرها وعبق اريجها، وهو ما يوضح الفرق بين الحياة في الماضي ببهائها وبساطتها وتماسكها، وبين حياتنا في الحاضر ببهرجتها وتعقيداتها ومظاهرها الزائفة وتفككها.

تشبه بيوتنا القديمة وأبوابها، رجالها، في شدتها ودلالتها وتماسكها، رغم ابتعاد أهلها وكرامتهم لها، تقف شامخة ، وكأنها تنظر لمنازل اليوم ، وهي تتهاوى رغم العناية والرعاية ،  والتصميم الباذخ وبعضها لم يبلغ من العمر الثلاثين عاما،  بينما تقف منازل القرية القديمة بأعمارها الطويلة، وأزمنتها المديدة، والتي يبلغ عمرها أكثر  من  القرن ونصف القرن، شامخة صامدة.

منازل القرية تماما .. كرجالها في شدتها وصلابتها، وفي نفوتها..  ومنازل اليوم كجيل اليوم ..

إلا ما رحم رب.

يعتصر القلب كلما وقفت على عتبة الباب القديم، ربما لأن قرينة البحث عن العلاقة الساكنة في عيوننا عن روح المكان ، الذي يشكل ما لا نتصوره، ويرشدنا إلى  ما لا نعرفه، بحيث يصبح منفذا للاحتلال على فضاءات واسعة، تنقلها إلى ذاكرة ثقافية تختزل فيها الشخصيات تجاربها بين السعادة والشقاء، وتتشكل ملامحها بين الحضور والغياب، بعد تغير شكل القرية ، ولم يتبقى إلا الليل .. وقد حط بظلاله على جنبات البيت القديم.

فعند ملامسة الملامح الخارجية لحياتنا اليوم ، وأنماطها، نراها مفرغة ، جوفاء، محاطة فقط بالمظاهر الزائفة والمخادعة، والجمال الوهمي الذي يغري الناظرين، ويكفي وراءه همجية مفجعة، وقسوة بلا حدود، فتبدو موجه بارد بلا روح، روشة وألوان لبنايات كثيرة تدهش المارين، وناس غريبين، وخراب الروح ومنها الغربة وضياع القيم…!

بيوت اليوم ليست أكثر من وعاء مكاني يحتوي مجموعة من المتناقضات توحي بحجم المهانة التي يقع تحت حالها الإنسان المهمش الذي يعاني من صعوبة ومشقة الحياة، التي لا تسمح بالتمهل ولا تعرف التوقف، والعلاقات مفككة، والمسافات البعيدة، وليس هناك مكان جامع لمعاني الألفة، فقط الملل المسيطر ونمط الحياة الرتيب ، وكأننا خارج إطار الزمن والصورة لا تجسد إلا حالة تتسم بالانقياد والانصياع والخضوع!

يدفعنا الحنين إلى العودة إلى أشياءنا العتيقة، بعيدا عن تفاصيل حديثة تعكس جفاف الآلة ، فتبدو وحدتنا المعمارية اليوم اقرب إلى التكرار،  تتشابه كصناديق وعلب.. ولأن الإنسان ملول بطبعه؛ يسكننا ذلك الهاجس إلى القديم، رغم أن الآلة لم تترك لنا شيئا إلا واجتاحته ؛ فهل هو يا ترى هروبا من زفافها وجمودها؟ أم هو اشتياق ما له حد!!!

أم  تراه بحث بائس عن أولئك الذين أحببتهم  وافتقدناهم؟ ولكنهم مازالوا  يوقعوا خطواتهم بنبض الدم في الشرايين؟

ولن يسعنا مقام؛ ويكفينا مداد، أن نصف ويحكي تاريخ بيوتنا القديمة في قريتنا؛ وقصة الحياة فيها،  وما تمثله من قيمة تراثية وحضارية وإنسانية، بعد أن  كان عمارا يسكن وجداننا بالعطاء بلا توقف،  ولتكون لجيل الأمس تذكارا وعنوانا،  ولجيل اليوم درسا ونبراسا،  نسطرها على الصفحات مرحبة عزيزة علينا،  مضت وناقشت بأهلها وأيامها،  بأفراحها وأحزانها، ورحلت وكأنها لم تكن.

بيت جدي القديم ؛ يهمس في أذني بكل أمل وحنين؛ على من راحوا..وعلى من لازال حيا.. لا يقف على بابه..حنين الغريب لوطنه..والفكين لأمه..

بيت جدي.. يظل لي مسكن عاش فيه أحبابي من أهلي وعصابة راسي، فهناك الجد والجدة، والخال والخالات، هنا كبرت أمي، وفي ذاك الدرج الصامد تسابقنا وتدحرجنا، وعند النافذة المطلة على

( حوش الحفر) كان مجلس جدي على مصطبة إسمنتية، كل قطعة فيه تحكي عن أيام وليالي تعود بكل أطيافها وأحلاها..

..تصرخ كل حجرة فيه.. تنادي على تلك الأيام الجميلة التي ولت ولن تعود..

حلم جميل وردي؛ اختلط فيه الفرح والحزن؛ والسعادة والشقاء، فكانت أمشاج وأخلاط من الأيام والليالي التي ما برحت اذكرها واحن إليها. 

اليوم..وفي زيارة خاطفة للقرية؛ أصبحت شوارعها ومغاربها وكأنها مجرد حلم قديم في ثنايا الذاكرة، عدد من عاشها من آباءنا  وأمهاتنا، أما لنا لا تعدو كونها خيالات القصص التي رويت لنا، في ليالي الصيف ذي النسمات ؛ أو  لحظات اختلسناها من شفاه جدودنا؛ نحت إلحاح الفضول الطفولي الذي لا يشبع؛ أو ذكريات عشناها في بيت جدي الذي تسكنه الآن آهات وانات..

بيت جدي؛ اسمع جدرانه انين ليس له انقطاع، وبكاء من غير دموع، وهمهمات نحيب ..

اقتربت منه وسألته بابيت جدي!

فنطقت كل ذكرى فيه..وتستكين منه عبرات الأيام القديمة.. وحكى لي عن الامس.. عن من كانوا هنا..يحتضونه..يسكنوه.. وابتسم لكل من دخل من بابه..وعانق زواياه.. 

كم من أحلام وردية تسللت إليه في وقت السحر، وكم من عاشق حالم امسك بالنجوم في ليل قريتنا؛ وداعب القمر بخياله، وابتسم له القمر.

يابيت جدي.. 

احن احترامك وحركاته.. واشتم عبير عطر جاء من الماضي القريب.. فيهفو إليك قلبي..

وتسطرها خواطري؛ ويسجلها بناتي في دفتر ايامي التي تبكي شوقا إليك.. وحنينا لعتباتك..

يابيت جدي.. 

أقف على عتبة بابك..فاذكر الكرام الذين كانوا هنا

عاشوا في كيفك وحواهم وسط حوشك.. 

فكان أن ولد القاسم المشترك بيني وبينك.. وهي الذكريات.. حيث ولد الحب بين جدرانك .. وتحت سقف..وبدأت خطواته مرتعشة عند عتباتك ..

ااااااه يابيت جدي..

لقد تبدلت الأحوال بعد غياب الكرام الاجواد..

من أهلي وعصابة راسي.. 

سبقنا إليهم القدر..استبقتنا الأيام.. لا تحلو اللحظة الا بذكراهم .. ولا تنتعش الروح الا بسيرتهم.. 

هذا بيت جدي..اسمع نحيبه.. وبكاءه..

رحم الله جدي..ورحم الله أبي.. 

ورحم الله زمانا عرفتك فيه.. وأياما  قاسمتك العيش فيه.. ورحم الله من سيدك واقامك من جد ووالد وعم وخال..

وياااارب .. اجمعنا بأحبتنا … ومن سكن هذا البيت العريق ممن لهم حقا علينا..

واجعلنا ممن يدخلون من باب رحمتك..

شبكة  المدار الإعلامية  الأوروبية …_  

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %
tired woman sitting on the bed Previous post ابنة الحزن… سيدة الوجع.
people crossing the street at night Next post تخفيض إضاءة الطرق في بلجيكا