تحطيم حماس.. وحجز مقعد لها على طاولة المصير المرّ!

ساري عرابي

شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_تتجه حماس لاستئناف علاقتها مع النظام السوري، دون كبير أوهام في أوساطها بأنّ هذه العلاقة ستعود إلى عهدها السابق على الثورة السورية، ليس فقط لأنّ حماس هي الطرف الوحيد في العالم، غير السوري، الذي دفع ثمناً للثورة السورية، انحيازاً منها عن سياسات النظام التي واجهت الجماهير العزلاء أوّل الأمر بالقوّة الباطشة، بل ولأنّ الحركة، من بين أكثر الفاعلين الشعبيين في الإقليم، بما في ذلك من يندرج في إطار المقاومة، لها حيثيتها الخاصّة، في أصل نشأتها وتكوينها ووجودها واستمرارها. فلم تكن في مسارها الطويل تابعة بما يجعلها تعيد تكييف نفسها بالكامل لتتواءم مع هذا الطرف أو مع ذاك، وليس هذا فقط في إطار صياغة العلاقات، بل حتّى في التحالفات هي ركن أساس، وليست ملحقا بأحد، ولا قوّة متقدّمة لأحد، ولا تستفيد وجودها ودورها من أحد.

وهذه هي سيرة الحركة منذ تأسيسها وحتى اللحظة، وتكفي، دليلاً على ذلك، مركزيتها في الصراع مع العدوّ، بوصفها القوّة الأكثر اشتباكاً معه، وإثخاناً فيه، على الأقل منذ انتفاضة الأقصى وحتى اللحظة، متخففة من حسابات الكلفة الباهظة التي يغرق فيها آخرون، فشخصيتها المقاومة مستفادة من ذاتها، وفعلها، لا من أيّ أحد كان.

من يقرأ خيارات حماس السياسية بمعزل عن هذه الحقيقة، سواء كان معارضاً لاستئناف علاقتها مع النظام، أم كان من النظام نفسه، فهو لا يضرّ إلا نفسه بالوعي الزائف إزاء هذه الحقيقة، ومثلها، السياق الشامل الذي تعيد فيه الحركة إعادة صياغة علاقاتها السياسية، وهو أمر ينبغي أن يكون مقدّراً من حركة تلتزم بالواجب الأخلاقي الأعظم بصدّ الهجمة الصهيونية عن الأمّة كلّها، لا عن فلسطين وحدها، وفي الوقت نفسه تتسم بالمرونة الكافية لتجاوز متاهات المرحلة السائلة التي تعبرها المنطقة، والتي فتحت الباب إليها هزائم الثورات العربية، بما في ذلك هزيمة الثورة السورية، وهزائم الإسلاميين على رقعة العالم العربي الممتدة.

هل يمكن بالفعل النظر إلى خيار سياسيّ لحماس كهذا، دون النظر من حولنا قليلاً، ونحن نلاحظ إخراج الإسلاميين من المشهد، سواء لعوامل القوّة التي غلبتهم، أم لأخطائهم التي أركستهم بين أنياب تلك العوامل؟ تكفي فقط النظرة إلى الهزيمة الشاملة للحركة الإسلامية بمختلف جماعاتها وتياراتها، من المغرب مروراً بتونس، فضلاً عن الواقع المصري الكاسح، واستدارات بعض الدول والحكومات التي مدّت جسورها إلى هؤلاء الإسلاميين من قبل، ثمّ عادت لتستدير عنهم نحو النظام الإقليمي العربي المتغلّب، بل نحو العدو الصهيوني.

وها هي استدارات قطر وتركيا ماثلة وواضحة، وها هي أماني الإسلاميين المصريين بتسوية مع نظام السيسي، نتيجة لذلك، ومن قبل مفاوضات قوى من المعارضة السورية مع النظام، في لقطة للمشهد العربي برمّته، أكثر بؤساً مما كان عليه الحال قبل العام 2011. فهل يمكن والحالة هذه النظر إلى خيار سياسي لحماس، يراقب هذا المشهد ويسعى ألا يكون أحد ضحاياه، وكأنه خطيئة أخلاقية مصفّاة، ومجرّدة من أي دافع سياسي معقول، ومن أي التزام أخلاقي تجاه شعبها وثغرها وقضيتها وأمّتها؟!

إنّ الهجوم على حماس، بمعزل عن ملاحظة الحقيقتين أعلاه، هو دعوة لانتحار جماعيّ. وكأنّ البعض، في غفلته عن تلك السياقات، وعن أن نقده بلغ حدّ الإسقاط والتحطيم، إنما يدعو حماس للانتحار، أو السقوط إليه في قاع الهزيمة، أو كأنه يسعى للخلاص من الحركة، ولكي تكون هزيمة شاملة، لا تبقي أحداً من الإسلاميين، أو من قوى الثورة والمقاومة الأكثر اتصالاً بهذه الأمّة!

وإذا كان يمكن فهم السوري المكلوم الذي قد لا يدرك أن حماس تتجرّع السمّ في خيار تلمّسته بعد النظر في الوقائع المذكورة أعلاه، وهو يحسب، معذوراً لإلحاح ألمه، أنها متواطئة على وجعه، فإنه لا يمكن تفهّم غيره، ولا إعذاره، ممن يملك الفرصة الكافية للنظر المتعقّل لهذه المشهدية بكلّ وقائعها، وهو جزء أصيل من حقيقة الهزائم القائمة، وقد لا ينفك عن التبرير لهذه الدولة أو تلك سياساتها التي قد تذهب أبعد مما ذهبت حماس، ثمّ يمكنك حينئذ أن تتساءل عن طرد المقولة الأخلاقية على الفاعلين كلّهم، حينما تجدها تحاصر حماس وحدها، في حين تتلمّس الأعذار لغيرها!

إنّ محاولة الحركة مواكبة التحوّلات الجارية، لتمرير هذه المرحلة الانتقالية، هو فعل أخلاقيّ رفيع، بسعيها للنجاة مما يدبّر لها ولقضيتها، بل ولأمّتها. وهنا ينبغي القول إنّ الحركة لا تنطلق في ذلك من دوافع ضيقة، أو من تفضيل دم على دم، كما يسود في خطاب اتهاميّ هو غاية في السفه والسخافة، ولكن من موقعها على ثغرها، ووعيها بالدور الصهيوني في تحطيم الأمّة، ومن ثمّ فهي تعتقد أنّ في نجاتها، واحتفاظها بأسباب القوّة، نجاة للأمّة كلّها، وقوّة للأمّة كلها، وما قد ينجم عن ذلك من خسائر لأطراف أخرى في الأمّة، فهي خسائر معنوية، يمكن تحمّله. فليست حماس التي أفشلت الثورات، أو أوقعت المقتلة في الناس، بل إنّها لمّا بدا لها بعد العام 2011 أنّها قادرة في مسؤوليتها الأخلاقية أن تمدّها فعلاً إلى مواقع أخرى في الأمّة؛ قد فعلت، لكن لما فشلت تلك المواقع، لم يكن أمام الحركة إلا العودة للبحث فيما تحفظ به نفسها، عبوراً لهذه المرحلة، لا لأجل نفسها، بل لأجل أمّتها، إلا إذا كانت القضية الفلسطينية لا قيمة لها في الأمّة، أو كان البعض فعلاً لا يدرك حجم العامل الصهيوني في مأساته الخاصّة حتّى لو لم يكن فلسطينيّاً!

بل إنّ السجال الداخلي في حماس، الذي طفا إلى سطح الملاحظة العامّة، دليل على الظلم الذي تعرّضت له الحركة طوال السنوات الماضية، لمجرد احتفاظها بعلاقات مع إيران، وإذا كان البعض سيزعم لنفسه أنه قد ميّز علاقتها مع إيران، عن علاقتها الساعية إليها الآن مع النظام السوري، فإنّ خطاباً اتهاميّاً عصابيّاً ظلّ يلاحق الحركة بسبب العلاقة بإيران، فلن يكون مستغرباً بعد ذلك أن يفرض هذا الخطاب حضوره الآن، متنكّراً للحقائق أعلاه، ومتنكّراً إلى أنّ هذا السجال الداخلي في حماس يدفع عنها تهم توثين القضية الفلسطينية، والتهم الرثّة عن تفاضل الدماء، ومما يعني أن متخذ القرار في حماس، الدافع نحو هذه العلاقة، يدرك العبء النفسي الذي سيحمله لا تجاه أوجاع السوريين فحسب، بل تجاه قواعده الحركية والتنظيمية، والعبء الذي سيحمّلهم إياه، مما يعني أنّ هذه العلاقة ليست نزهة، بقدر ما هي اختيار ناجم عن قراءة في تحوّلات المنطقة، له بدوره أكلافه وخسائره. أمّا نقد العقلاء، وإن كان مطلوباً في ذاته، فإنه يضيع في غمرة هذه العصابية.

هل يعني ذلك أنّ الخيار بالضرورة صحيح؟ ما ينبغي أن يكون محلّ اتفاق هو دقة القراءة لهذا المشهد، من هزيمة عامة تستوجب المرونة حتى لا تلتهم الجميع، ثم تبقى الموضوعات والتفاصيل وطريقة الإدارة والإخراج في قلب هذه القراءة محلّ نقاش وأخذ وردّ، بمعنى أنّه لن يكون لدى أحد في حماس مشكلة مع نقد خطوتها، أو النظر إليها بأنها لن تكون مفيدة، أو أن خطابها في طريقة إخراج الخطوة يلزمه صياغة مختلفة، ولكن المشكلة في إسقاط تلك السياقات كلّها، والسعي في إسقاط حركة هي ما تبقّى للحركة الإسلامية في العالم، وكأنّ هذه الحركة (أي حماس) لا تصدر في خياراتها إلا عن العمى الأخلاقي والعشى السياسي!

ما قيل في الأيام الأخيرة كثير، وقد يستدعي بعضه العودة للردّ عليه مفصلاً، لكن يبقى المهم أن نقول في هذه المقالة، إنّ مصلحتكم في الحفاظ على حماس، لا في إسقاطها، مهما بدت لكم خياراتها غير مفهومة، ولا شكّ أن العاقل الحريص المخلص، قادر على التمييز بين النقد، ولو في المجال العام، وبين الإسقاط والتحطيم!

عربي 21

Previous post حركة المواصلات والمظاهرة الوطنية في بلجيكا
Next post أين تيس الملكة الوكيل الهمام شينكن؟