عندما تبرق السماء

شاعرة الواحة خديجة عقيل الحمروني
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_ربطتني صداقة قوية بهذه الشابة المثقفة الذكية. كان تعارفنا في أحد أشهر الصيف لبضع سنوات خلت، لشدَّ ما أعجبني فكرها وأسلوبها وبساطتها، وأكثر ما دفعني للتقرب منها هو امتلاكها لمقدرة فذَّة في اقتلاع الأشواك!!
نعم الأمر قد لا يبدو ذا أهمية تُذكر، ولكنه هنا في بلدتي الصغيرة فالأمر مدعاة للفخر والتمايز أيضاً، حيث تمتلئ أجسام الناس بالأشواك بمختلف أنواعها، بدءاً من شوك “الخضراي” إلى شوك “العاقول” ذي الرؤوس المدببة الصغيرة، وحيث يتهرب الناس، جلُّ الناس من الجراحة ومن زيارة الطبيب، ولا يعلقون أهمية على مثل هذه العاهات. أما صديقتي هذه فهي لا تقوم بأي جراحة على الإطلاق، كل ما في الأمر أنها تلف قطعة من الشاش النظيف فوق قطعة  صغيرة من الشحم أو العشب على مكان الإصابة، بعد أيام تقل أو تكثر حسب نوع الشوك، يتورم المكان وبحركة بسيطة يقوم الجسم بقذف الشوكة خارجاً، فكل ما تقوم به هو تحفيز جهاز المناعة في الجسم ليعمل وينشط وينتبه للجسم الغريب فيقاومه ويطرده.
ولكن ما جعلني أصفُ مقدرتها بالفذَّة، ليس ما تقوم به من علاج قد يبدو بدائياً وبسيطاً لحدٍ كبير، إنما في إقناع سكان القرية باللجوء إليها رغم عقولهم المتحجرة، التي ترفض العلاج خاصة من شيء اعتادوا عليه مثل الشوك، إنهم يتعايشون معه، ولا يوجد جسم لأحدهم يخلو منه، بل إن وجود شوكة عظيمة لمدة تزيد على الثلاثين عاماً في قدم الحاج “الزروق” لأمرٌ يدعو للفخر وهو أكبر دليل في نظرهم على مسالمة الشوك وقداسته وعدم إيذائه لصاحبه، ولا زلتُ أرى أنَّ صديقتي هذه عظيمة، فقد أقنعت الحاج الزروق ذاته بالاستسلام ليديها الماهرتين، وتمكنت بالفعل من اقتلاع شوكته العتيدة رغم دهشة الكثير من شيوخ القرية، وضربهم كفاً بكفٍ تحسراً على عقل الحاج الذي أصابه الخبل. فلجوء الشباب والفتيات الصغار إليها أمر غير مستغرب، وغير ذي بالٍ، ولكنَّ لشوكة الحاج “الزروق” شأن آخر، فهي تمثل تاريخاً لا يمكن التخلي عنه بسهولة، كما أنَّ ذلك يعني أنّها ربما تتجرّأ غداً وتمد يدها إلى شوكة “العجوز الخرساء” كما يسمونها، ذات الساق العرجاء.
هكذا عرفتها وهكذا عرفها سواي، لا أحد يعلم متى انغرزت الشوكة في ساق هذه المرأة، البعض يقول أنها وُلِدت بها، والبعض يدَّعي أنها غرزت في ساقها وهي في المهد من قِبل قوى خفية، وأنَّ أمَّها قد حُذِّرت في النام من المساس بها، كي لا تحل عليها وعلى أهل القرية اللعنة السماوية، والمرأة لا تتكلم ولا أحد يعلم أصل الحكاية، ولكن ما هو واضح فعلاً أنَّ المرأة تعاني والعرج بساقها يزداد وضوحاً بمرور الأيام، حتى يكاد يتحول إلى شلل كامل، والشوكة طويلة عظيمة ممدة فوق عظم الساق اليسرى، واضحة للعيان ولا أحد يستطيع أن يمد يده إليها، إنها شوكة مقدسة محاطة بهالة من الإجلال والرهبة، يعتز بها الآباء، ويتوارث تقديسها الأبناء، والجميع يحذر من الاقتراب منها، ولا زالت الحكايات تُروى عن هذه الشوكة العجيبة، عن حفيدة المرأة التي حاولت مرة أن تقتلع الشوكة فتيّبست يدها وأصابها الخرس، وعن ذاك الشاب الغريب الذي زار القرية ذات عامٍ، وأحبها وآلمه ما يرى من حال تلك المرأة، فحاول أن يحث أهل القرية على مساعدتها ونبذ الخرافة، فالله لا يرضى بذلك ولا يوصي بإيذاء البشر، فكان مصيره أن طُرد من القرية وانهالت عليه الحجارة من كل جانب.
تذكرتُ كلَّ ذلك وأنا أتجه نحو منزل العجوز، وعندما وصلت رأيت الباب موارباً، تقدمتُ ببطء وهدوء في محاولة للنظر إلى الداخل، ولدهشتي رأيتها، صديقتي الشابة، بنفس الدُّربة والثقة تمارس عملها، لقد بدأتْ تعرف الطريق وتسير في الاتجاه الصحيح، رمقتها بنظرة مشجعة وتسللتُ إلى الخارج. وفي الساحة الصغيرة قرب المنزل كان رجال من القرية يشحذون سكاكينهم في عجلة، ويتقاطر العرق من وجوههم فيمسحونه بأطراف أكمامهم، فيما ينظرون بترقب ووجل إلى الغيوم التي غطت السماء.
كان صوت أحدهم مرتعشاً وهو يحث مجموعة من الصغار حوله على الاستعجال في جمع الحجارة قبل أن يفوت الوقت، وعلت صيحة من داخل المنزل، ثم خرجت صديقتي مهللةً، وهي تصيح: لقد نطقت العجوز، لقد صرخت، إنها تستجيب للعلاج. سوف تنهار الخرافة.
بدأت جموع الرجال الحاملين السكاكين والصغار بأحجارهم تتجه إلى المنزل، إلى حيث صديقتي تقف بثبات، وفي هذه الأثناء علا دويُّ الرعد، وأبرقت السماء، وبدأت قطراتٌ صغيرةٌ من الماء تلامس كفي المفتوحة. توقف الرجال في منتصف الطريق وهم ينظرون إلى السماء، وأَسْقطوا ما في أيديهم باستسلام، لقد فات الأوان، وانهال المطر بشدة…..
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_

Previous post “كوب ورقي”
Next post لم ارى فيك غضاضة