(( عيدُ البِدعة وأشياء أخرى ))

Read Time:3 Minute, 40 Second

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية/غادة الطبيب

إن لم تكن قد زرتَ ليبيا من قبل، ولم تعرف منها وعنها سوى ما تراه في وسائل الإعلام العالمية والمحلية ربما، فعليك أن تتمهل وأن تُعيد النظر وأن ترى بعين طفل ذاك الكم الهائل من الجمال والسحر الذي يختبئ خجولاً خلف الموت والحرب والدمار والنفط والسياسة !
ليبيا أجمل وأبهى وأحلى من تلك الصحراء التى تتدفق ذهباً أسود ومن تلك المليارات التى يتصارع عليها البعض.
إن لم تكن قد زرتها فقد حان الأوان، أوان تفتح الياسمين الطرابلسي.
أوان المالوف والحَضرة من الزاويتين الصغيرة والكبيرة ، أوان حلوى الشاكار التى تفترش ازقة المدينة القديمة كجواهر خرافية لخليفة عباسي أو أميرة اموية أسيرة ، فما بين سحر الابيض الممسوس بالوردي الدافئ ومابين الاخضر الزمردي والأحمرِ القانِ والأصفر البراق تتفجر نكهات حلوى الشاكار وتتناثر حباتها لآلئ تزين أفواه الكبار قبل الصغار.
هنا تتربع رائحة (( الوشق)) فوق الزواريب والازقة الضيقة وتفترش عتبات الدكاكين المليئة عن بكرة ابيها بالتوابل والبخور والعطور والفواكه المجففة والسلع القادمة ممّا وراء البحار، تماما كدأبها منذ قرون، أمشاط عاجية وخشبية لضفائر الصبايا الليبيات المختبئة خلف الحجاب ومُضغة من (( اللوبان)) الأبيض النقى لأفواههن العذبة التى تغنى حبا في الحضرة النبوية وخواتم فضية لأصابعهن التى تصنع من غبار الطحين الابيض والسمن والزبد والعسل حلويات احتفاءا بالمولد العظيم .
هذا الوجه الذي لن تراه على شاشات التلفزيون وهذه المشاهد التى لن تكلف قناة تلفزيونية نفسها ، عناء نقلها للعالم لكى يرى ليبيا بعيون ساكنيها .
الآف يجوبون شوارع المدينة المفروشة بالسلع والبضائع كبازار خرافي ضخم هارب من قصة في ألف ليلة وليلة غير ملتفتين لمن يحاولون ثنيهم عن مراسم الفرح حباَ في نبيهم ودينهم فهذا هو تعبيرهم عن الحب وللحب ألف وجه في مدينة تصحو وتنام على الحب .

حلويات منوعة


وجوه ترسم الابتسامة ملامحها رغم شقاء الأيام وبضع دريهمات مختلسة من أشهر تكدسها (( اللّا)) في حقيبتها الصغيرة كى تخرجها وتمنح الفرح لأطفالها لُعباً وفساتين وحلوى ودمى وحلويات احتفاءا بال((الميلود)) بكسر ميم الحزن وضم لام الألم وتسكين دال الدمار.
سيمرّ اليوم خفيفا كنسمات اكتوبر الباردة ، مزدحما بالنزهات والمواعيد واللقاءات العائلية في بيوت الاجداد ، ستمتلأ ازقة ليبيا بصوت (( الخط ولوح)) وضجيج الدربوكة ورائحة الشمع الذائب في ايادي الصغيرات بفساتينهن الملونة وأصواتهن الرقيقة كاغاريد العصافير وهن يترنمن…
هذا قنديلك ياحواء … يشعل من المُغرب لتوا
هذا قنديل وقنديل … فاطمة جابت خليل
هذا قنديل الرسول … فاطمة جابت منصور
والقنديل هو عصا مغزولة من قماش الخيشة والقطران وبعض الاوراق، تُشترى خصيصا للذكور من الصبيان تطلق رائحة زيتية محببة عند اشعال النار فيها، تراقبها الفتيات بانبهار وهن يمسكن درابيكهن الصغيرة مختبآتٍ خلف أمهاتهن بينما الجميع يراقب طقوس اطلاق (( نجوم الليل والخط ولوح ووهج (( الميش)) الفضي ويرسلن امنياتهن رفقة (( نجوم الليل )) وهى تنطلق صوب السماء كالحة الظلمة مطلقة فيها انواراً بسبعة ألوان زاهية تحاكى فساتين الصغيرات.


في بيوت الاجداد تُعاد صياغة الحكايات وتنبعث روائح الطبيخ(رشدة الكسكاس) القادمة من بلاد فارس كما يقال ، عجينة رقيقة من الدقيق، خيوط بيضاء ناصعة فوقها البصلة واكداس اللحم والحمص، طعام المولد الذي سيجتمع عليه الصغار والكبار ، الرجال والنساء في تقليد بديع برئ يمتد لسنوات إن لم يكن لقرون .
تنام ليبيا هذه الليلة على صوت المدائح وتستيقظ على رائحة (( العصيدة )) بالرب والزبدة والعسل والسمن ، قُبة ذهبية منمقة تتلمظ الافواه لمرآها وتبتسم الشفاه لمذاقها، تجلس اللاّ على قطعة سجاد صغيرة وبين يديها القدر النحاسي والعصا الخشبية التى ندعوها (( المغرف )) تحول العجين المتكتل الى عجين ناعم مابين الذهبي والأبيض ، تنتظره القصعة الفخارية لكى يتحول فيها إلى قبة لامعة مزينة بما لذ وطاب من رب التمر والعسل الذهبي الذي تخبأه في دولاب خشبي عتيق وكأنه كنز ثمين .


طقوس صباح الميلود بعصيدته ومالوفه وافطاره وتهانيه، طقوس يدعوها البعض بدعة ويدعوها جُلٍ الليبيين احتفالا واحتفاءاَ بمولد سيد الخلق أجمعين .
هذه ليبيا التى لن تراها إن لم تزرها ، ليبيا التى تحول ابسط الأشياء لمهرجان ملون غنى بالفرح والحب، تنتهز الفرصة الضئيلة لكى تطلق الأغانى من معقلها وتحول الشوارع إلى لوحة كبيرة يحتار ناظرها من فرط بهائها وحسنها.
هنا عالم من الصوت والضوء والضجيج، المالوف في باب الجديد والاربع عرصات وسوق القزارة و صوت ام كلثوم يتسرب من مسجل عتيق بجانب فرشات الكتب في بداية شارع عمر المختار.
أشجار الميلاد والفوانيس في شارع الوادي وحلوى غزل البنات والايس كريم على عربات صغيرة وكبيرة تُزاحم البشر وتدعو الاطفال للتذوق، بهجة تملأ نهار العيد.
إنه العيد وكل يومٍ يختلس الفرح والبهجة والهدايا والحلويات في نظر الليبيين عيد ، حتى لو بدا للبعض بدعة فهو عيد.

مصطلحات .
الميش ، خط ولوح ، نجوم الليل /مسميات لانواع من الالعاب النارية.
العصيدة/ اكلة تقليدية ليبية تصنع من الدقيق والماء والزيت على النار وتأكل برب التمر او العسل او الزبد.
الشاكار /حلوى تصنع من السكر وعسل الجلوكوز والالوان الصناعية وهى حلوى تقليدية قاسية .
غادة الطبيب

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %
Previous post المقاتلات البلجيكية تحلق بسماء اوكرانيا
Next post إلغاء ضريبة القرض لشراء منزل ثاني ببلجيكا