الفلاحون في دولة محمد علي باشا
زهراء أبو العينين
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ خلال فترة حكم محمد علي لمصر، عانى الفلاحون أشد المعاناة إما بفرض الكثير من الضرائب، وإما تهديدهم بسحب أراضيهم، علمًا بأنها لم تكن مملوكة لهم بالمعنى المعروف حاليًّا. فكان العامة يخفون النعمة ومظاهرها، إما للتهرب من دفع الأموال وإما خوفًا من الحسد وطلب الستر، خاصة لدى طبقة الفقراء والطبقة المتوسطة. وأصبحت هذه العادة لازمة للمصريين حتى إن محمد علي وصف الفلاحين باللؤم والمكر كذلك، فقد عانى الفلاح المصري من سوء المعاملة في الجيش؛ ما جعله يهرب منه أو يشوه جسده ليُمنع من الالتحاق به من الأساس.
وفي هذا التقرير نوضح كيف تفنن المصريون في إظهار فقرهم، وما تعرضوا له من جرَّاء سياسات محمد علي في تمليك الأراضي، وكذلك محاولاتهم الهروب من الخدمة في الجيش، والتي كانت مفروضة عليهم مدى الحياة.
التظاهر بالفقر قبل حكم محمد علي
في كتاب «المجتمع المصري تحت الحكم العثماني» سرد الكاتب مايكل ونتر قصة أحد الفلاحين ويدعى «الحاج صالح» من المنوفية، والذي أسس عصبة مملوكية تسمى «جماعة الفلاح».
نشأ الحاج صالح فقيرًا يتيمًا، وعمل لدى أحد أثرياء قريته، الذي لم يتوان عن رهن صالح لأحد أمراء المماليك حينما تعثر في سداد أحد ديونه. شعر الحاج صالح بالراحة عند سيده الجديد، ولم يوافق على الرجوع لسيده الأول في القرية عندما سدد دينه، وأصر على البقاء في بيت الأمير.
مع مرور الوقت، ازدهرت حالة الحاج صالح المادية، وحذا حذو أمراء المماليك في شراء المماليك والجواري وتزويجهم وشراء منازل لهم، وسعى في إلحاقهم للعمل في الأوجاقات (الوحدات العسكرية العثمانية) بكل الطرق المشروعة والملتوية (دفع الرشاوي)، وعمل على ترقيتهم في مناصبهم أيضًا، واشترى لهم مماليك بدورهم مما آل في النهاية إلى تكوين الحاج صالح جماعة شديدة البأس (جماعة الفلاح).
عُرف عن الحاج صالح حرصه وتوفيره للأموال، فاستطاع أن يُكوِّن ثروة كبيرة، وقيل إنه كان يُقرض أصحاب السلطة والنفوذ آنذاك. ورغم سلطانه وثروته، فإن مظهر الحاج صالح لم يكن ينبئ عما لديه، فكان يركب حمارًا، ولا يتبعه سوى خادم واحد، فكانت الظروف من حوله تجبره على إخفاء ما لديه من ثروة.
ويُذكر أن الحاج صالح توفي عام 1755، أي قبل بداية حكم أسرة محمد علي لمصر بـ50 عامًا تقريبًا، وهو ما يوضح أن إخفاء المصريين ثرواتهم كان أثناء الحكم العثماني لمصر وقبل بدء حكم محمد علي.
«ابن الفرطوس» أصل التسمية في عهد محمد علي
يقال لكل من يحطاط ويمكر «ابن الفرطوس»، ولكن هذا الاسم تحور في التراث الشعبي من قصة «المعلم فلتوس» صاحب أشهر واقعة إخفاء للأموال في عهد محمد علي.
حدثت هذه الواقعة في عهد محمد علي عام 1813 في القاهرة، حينما طلب 15 ألف كيس (يساوي تقريبًا 120 ألف جنيه إسترليني) من الأقباط العاملين في المجال المالي. قسم الأقباط الأموال المطلوبة على أنفسهم، وكان نصيب الواحد منهم أن يدفع تقريبًا 2200 كيس (18 ألف جنيه إسترليني).
وكان من بين هؤلاء الأقباط شخص كبير السن يدعى «المعلم فلتوس»، ادعى الفقر، ورفض دفع الأموال، وبعد مساومات كثيرة، قبل أن يدفع 200 كيس فقط (نحو 1600 جنيه إسترليني).
أرسل محمد علي تهديدًا إلى فلتوس، إلا أنه أصر على عدم الدفع، ولكن محمد علي أمر بضربه. وبعد 500 جلدة، ظل يقسم ويؤكد أنه لا يمكنه أن يدفع سوى 200 كيس، وهو ما جعل محمد علي يصدقه، ولكن ابنه إبراهيم باشا أصر على أن فلتوس لديه الكثير من الأموال، وأمر باستكمال الضرب.
بعدما تلقى فلتوس 300 جلدة أخرى، اعترف أن لديه المبلغ المطلوب دفعه، وسمحوا له بالعودة إلى منزله على أن يحضر الأموال بعد شفائه من آثار الضرب. وبعد مرور أسبوعين، أرسل محمد علي اثنين من رجاله للمعلم فلتوس لإحضار الأموال، فنزل معهم إلى قاع المرحاض، وجعلهم يزيحون حجرًا كبيرًا كان يسد حفرة على شكل ممر بداخله صندوقان من الحديد يحويان الكثير من الأموال.
أخذ الرجلان الأموال المطلوبة، وتركوا الباقي لصاحبها، ولكن فلتوس مات بعد تلك الواقعة بثلاثة أشهر حزنًا على أمواله وليس من آثار الضرب، ولم يتمكن رجال محمد علي من العثور على أموال فلتوس المتبقية بعد وفاته، فكان قد غيَّر مكانها إلى مكان آخر لا يعلمونه.
محمد علي يلغي الالتزام.. لكنه لم يُملِّك الأراضي للفلاحين
خلال عهد المماليك، عد السلطان سليم نفسه مالكًا لأراضي مصر، فكان بذلك صاحب الأرض لا يملكها بل يملك فقط حق الانتفاع بها. كذلك، فقد وضع المماليك أيديهم على الكثير من أراضي مصر، وقسمت باقي الأراضي بين الفلاحين والملتزمين، والأوقاف، بحيث ملك الفلاحون النذر القليل ينتفعون بها ويتوارثونها، ولكن هذا كان معلقًا على دفع الضرائب والإتاوات التي يأخذها الملتزمون، وهم الملاك الذين يأخذون القرى التزامًا أي يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه على أن يلتزموا بدفع نصيب الحكومة من الضرائب، كما جاء في كتاب عصر محمد علي» لعبد الرحمن الرافعي.
حينما أصبح محمد علي حاكمًا لمصر، ألغى نظام الالتزام بعدما تمكن من استخلاص أملاك المماليك لنفسه بعد مذبحة القلعة. ونزع محمد علي الأراضي من أيدي الملتزمين، وعدَّها ملكًا للحكومة أو كما يقول مؤلف الكتاب إنه عد جميع أراضي مصر ملكًا له، ووزعها على الفلاحين أطيانًا مؤجرة، بحيث يأخذ كل قادر على العمل ثلاثة أو أربعة أو خمسة أفدنة لزراعتها، وآلت بذلك حقوق الملتزمين وسلطتهم إلى محمد علي، وصارت علاقة الفلاحين بالحكومة مباشرة دون وجود ملتزمين.
حينما ألغى محمد علي الالتزام، كان يعد مثل إلغاء ملكية الأراضي، فلم تكن مصر قبل ذلك تعرف ملكية الأراضي بالمعنى المعروف، وإنما كان هناك ملتزمون فقط يدفعون ضرائب للحكومة مقابل حق الانتفاع، وبعد إلغاء الالتزام عد محمد علي الحكومة مالكًا لجميع الأراضي، وعدت الحكومة الفلاحين أُجراء عندها لهم حق الانتفاع بالأرض ما داموا يدفعون ضريبتها، ولو تقاعسوا تسحب الأرضي من تحت أيديهم. كما أن الأراضي لم تكن تمنح للورثة حقَّ انتفاع إلا بموافقة مشايخ البلاد، وهو ما جعل الفلاحين عرضة لأهواء المشايخ وتحكمهم.
طوال عهد محمد علي لم يتقرر حق ملكية الفلاحين للأراضي الزراعية، وإنما جاء هذا الحق في عهد سعيد باشا بموجب قانون سنة 1858.
ووفقًا لمؤلف الكتاب، لا يعد إلغاء محمد علي للالتزام مع عدم تقرير حق الملكية إصلاحًا، بل إن التعديلات التي أدخلها محمد علي في نظام الملكية لم تكن متفقة مع الصالح العام، فلا هو احترم الملكية الفردية، ولا هو اعترف بها، فإلغاء الالتزام مع عدم إنشاء الملكية الفردية معناه إلغاء الملكية وامتلاك الحكومة الأراضي الزراعية كافة. كما أن الذين عجزوا عن دفع الإتاوات والضرائب المختلفة التي فرضت على أملاكهم اضطروا إلى أن يتنازلوا عنها.
المزيد من الضرائب ترهق الفلاحين فيهجرون قراهم
قبل مسح محمد علي أراضي مصر عام 1813 وفرضه نظام الضرائب، كانت الحكومة تفرض الإتاوات على الفلاحين كلما احتاجت إلى المال. وكان محمد علي يستشير العلماء في فرض الضرائب، ولكن بعد السنوات الأولى من حكمه، بدأ يطلق يده في فرض ما يشاء من الضرائب والإتاوات كلما احتاج إلى المال، واستحدث ضرائب جديدة لسد العجز في ميزانية الحكومة.
أدت زيادة الضرائب والافتقار إلى الأيدي العاملة بسبب تجنيد آلاف الفلاحين في الجيش إلى تأخر الكثير من القرى عن تسديد الضرائب، وهجر الكثيرون أراضيهم وقراهم لهذا السبب. فقرر محمد علي أن تكفل القرى القادرة على سداد ضرائبها بسداد ضرائب القرى المجاورة المتعسرة في السداد، إلا أن هذه الطريقة جاءت بنتائج سيئة، فقد أدت إلى إفقار القرى المتيسرة نتيجة دفع الضرائب أضعافًا مضاعفة.
لحل تلك المشكلة، فكر محمد علي في نظام جديد يعرف باسم «نظام العُهَد» وفيه يعهد إلى الأعيان والمأمورين جباية الضرائب من بلاد بأكملها، على أن يكونوا مسؤولين عن الدفع من أموالهم الخاصة إذا لم يتمكنوا من جبايتها، ويشبه إلى حد ما نظام الالتزام، إلا أن المتعهد لا يستطيع أن يجبي إلا الضريبة المحددة، أما الملتزم فكان يجبي ما يشاء من الأموال.
كان المتعهد يتعامل مع الفلاحين بصفته دائنًا، فكان يسخره لجمع الضرائب، وإذا هجر الفلاحين أراضيهم، تجبرهم الحكومة على العودة حتى يستوفي المتعهد منهم ما دفعه عنهم. ونظرًا إلى مساوئ هذا النظام، ألغته الحكومة عام 1850.
لم يكتف محمد علي بفرض ضرائب على الأراضي فحسب، بل فرض على الفلاحين ضرائب على الماشية، تزداد قيمتها إذا كانت تباع للجزارين وتخصص للذبح، على أن تبقى جلودها ملكًا للحكومة، كما كان يجني ضرائب على النخيل تحدد قيمته حسب الصنف.
التاجر والصانع الوحيد.. محمد علي واحتكار المحاصيل
في أوقات الحصاد، كانت الحكومة تشتري المحاصيل كافة من الفلاحين بالثمن الذي تحدده طبقًا لنظام الاحتكار، وكانت في البداية تترك الحبوب حتى شملها الاحتكار أيضًا. كذلك كانت الحكومة تأخذ المحاصيل من الفلاحين العاجزين عن سداد الضرائب بدلًا من تحصيلها أموالًا.
كانت الحكومة تتولى بيع المحاصيل لتجار الجملة من الأجانب لتصديره للخارج، كما كانت أيضًا تصدرها لحسابها وتبيعها في دول أوروبا بأرباح كبيرة جعلها تحتكر معظم الحاصلات الزراعية في مصر بأكملها، وأصبح محظورًا على الفلاحين أن يبيعوها للتجار، وأصبح لزامًا عليهم بيعها للحكومة بالأسعار التي تقررها هي.
كذلك، فقد اضطر الفلاحون إلى شراء أقواتهم من الحكومة مرة أخرى، ولكن هذه المرة بأسعار أعلى مما باعوها به، مما تسبب في زيادة ضائقة الفلاحين.
لم يتوقف الاحتكار عند الاتجار في المحاصيل، بل سرى إلى احتكار الصناعة أيضًا، فأصبح محمد علي الصانع الوحيد في البلاد، محتكرًا صناعة أنسجة القطن والكتان والحرير، وصناعة الحصر والجلود واستقطار ماء الورد، بعدما كانت هذه الصناعات يتولاها الأفراد، ويتربحون من بيعها إلى أهالي البلاد ويصدرون بعضها.
أصبح الصناع عمالًا مأجورين، وفضل الكثيرون من صناع النسيج ترك الصناعة واتجهوا إلى الاشتغال بالزراعة، فانخفضت جودة المصنوعات في ظل نظام الاحتكار، فالصانع الذي لا يعمل لحسابه لا يتقن العمل مثلما يفعل من يعمل لحساب نفسه.
الفلاحون يهربون من الجيش لسوء المعاملة
حينما فكر محمد علي في إقامة جيش مصري، وضع في خطته أن تؤول المراتب العليا لمماليكه الخصوصيين، ويكون الضباط الأتراك في مراتب أدنى، بينما يشكل الفلاحون المجندون عامة الجنود. وفي حين التحم المماليك والأتراك سويًّا في مجموعة واحدة، ظهر التمييز جليًّا بين الجنود والضباط، في اللغة والامتيازات وفق ما جاء في كتاب «كل رجال الباشا» للمؤرخ خالد فهمي.
بسبب سوء المعاملة، وقلة الأجور، والإجبار على التجنيد مدى الحياة، كان الجنود يفرون من أماكن الخدمة كلما سنحت لهم الظروف، سواء كانت المعسكرات، أو المستشفيات العسكرية، أو السفن الحربية، أو أي مكان آخر.
وبسبب كثرة الهروب، أصبح البحث عن هؤلاء الجنود إحدى الوظائف المهمة للشرطة، مع تطبيق عقوبات كبيرة في حال العثور عليهم. كذلك، كان على المشايخ أن يلقوا القبض على أي متسرب من الجيش عند العثور عليه في القرى.
رغم المراقبة الشديدة وكل الأوامر والمراسيم التي وُضعت لمكافحة التسرب من معسكرات الجيش، لم تنجح السلطات في إيقاف سيل التسرب على مدى سنوات. ووفقًا للكاتب، كانت هذه الطريقة تعد دليلًا واضحًا على رفض الفلاحين في مصر جيش محمد علي والخدمة فيه.
«تشويه الجسد».. حيلة الفلاحين لنيل الإعفاء من الخدمة في الجيش
كان التسرب من الجيش وسيلة من التحقوا به للفرار من الخدمة، ولكن من لم يلتحقوا بعد كانت لهم طريقة أخرى لتجنب الانضمام لصفوف جيش محمد علي، ألا وهي «تشويه الجسد». وشَمَ البعض الصلبان على أذرعهم لإقناع ضباط التجنيد أنهم من الأقباط ولا يمكنهم الانضمام إلى الجيش، ولكن محمد علي قد فطن الخطة، وأمر بتجنيد الأصحاء سواء كانوا أقباطًا أم لا.
اضطر الفلاحون المطلوبون للتجنيد آنذاك إلى إزالة الأسنان الأمامية، كي يُستبعدوا كونهم غير قادرين على تعمير خراطيش البنادق، ولكن حينما ازداد عدد المقبلين على هذا الفعل، أمر محمد علي بتجنيدهم نظرًا إلى أن كتيبات التدريب لم تحدد الأسنان التي يمكن استخدامها لتعمير لبنادق، فيمكنهم بذلك استخدام أسنانهم الأخرى.
كانت وسائل التشويه الأخرى التي لجأ إليها الفلاحون أشد خطورة، فقد وضعوا سم الفئران في أعينهم كي يصابوا بالعمى، وحينما علم محمد علي كتب إلى المديريات أمرًا بمنع بيع سم الفئران تمامًا، أما بالنسبة لمن استخدموه بالفعل، فكان يُحكم عليهم بالسجن مدى الحياة.
وقد سجلت إحدى الحالات عن سيدة فقأت أعين رجلين أحدهما تسرب من الجيش، والآخر ابنها الذي ربما خشيت دخوله للجيش، وحينما علم محمد علي، أمر بإغراق المرأة في النيل، وإرسال المتسرب من الجيش إلى الإسكندرية بينما عفا عن الابن.
ونظرًا إلى أن أغلب من كان يفعل التشويه إما زوجة الرجل أو أمه، فقد أمر محمد علي بشنق من يثبت تورطها على مدخل قريتها لتصبح عبرة لغيرها، أما المشوهون فكانوا يرسلون للخدمة في ليمان الإسكندرية مدى الحياة، أو إلى مؤسسات حكومية أخرى.
لم تكن المعاملة السيئة هي الدافع الوحيد وراء كره الفلاحين الانضمام للجيش، ولكن كونه غير محدد بمدة زمنية كان أحد الأسباب الرئيسية. في البداية كان الجيش محددًا بمدة ثلاث سنوات، ولكن بعد ذلك لم يعد محددًا بمدة.
وبعد ست سنوات من هروب الفلاحين وتشويههم أجسامهم، أيقن إبراهيم باشا ابن محمد علي مدى التشابه بين الخدمة في الجيش غير محددة المدة وبين العبودية، فأرسل إلى والده محمد علي طلبًا لتحديد الخدمة بمدة معينة، فجاءت استجابة محمد علي بأن حدد مدة الجيش 15 عامًا للمجندين الجدد واعتبار من يقضون خدمتهم بأنهم قضوا 10 أعوام بالفعل.
Sasapost