الثور الوحشي في الشعر العربي القديم “
محمد محسن ((العراق))
البادية العربيَّة القاسية والبيئة الرمليَّة الحارّة لا ترحِّب بالضعفاء وتلفظ إلى الخارج كلَّ من يتراجع ويستسلم في هذا النزال، إنَّ صراع العربي بين الحياة والموت يحتّم عليه هذه القوة في النزوح للسيف أو الشعر، هذا الرحّال من صحراء إلى صحراء لا يعرف المهادنة والرحمة في الكلمات يناطح الأخطار حتى الموت ببسالة، لا يسمح بتحويل ذاته فريسة تنهشها كلاب الصيّاد الخائفة عند فجر القصيدة وغروبها الحتمي على ساحل الصراع من أجل الحياة والموت.
محمد محسن
(إنَّ الثور الوحشي له مكانة في الشعر الجاهلي تنطلق من معتقدهم بأنَّ الثور في الشعر الأموي أمره مختلف) هذا ما يعلل به عبد المجيد النوتي بمقدمته في كتابه الثور الوحشي عند النابغة وذي الرمة هذه الأسطورة عند العرب وهذه الرمزيَّة التي كانت رمزاً للخصب، وجزء كبير من المعتقد المتداخل في الشعر القديم حتى الحديث وانعكاس هذا الجين الوراثي وإلى أي مدى وصل تأثيره اليوم، غير أنَّ ذلك ليس عن قصة ما تلك الرمزيَّة الشعريَّة هي كمفهوم عربي قديم عن القوة كما في قول الجاحظ (ليس على أنَّ ذلك حكاية عن قصة بعينها).
الأسطورة والشعر العربي القديم؟
(تقول الأسطورة: في فصل الشتاء حيث البرد القارس هناك في الصحراء ثور وحشي مكتمل الذكاء والقوة يعيش وحيداً متفرداً غريباً آثر العيش بعيداً عن الحلائل بيد أنَّ الثور طاوي المصير جائع لأنه قلق ومتوجس يؤذيه الحر والعطش تبدأ محنة الثور بصوت رعد شديد الصخب وريح عاتية ثم مطر يتحول إلى سيل جارف.
بات على الثور أنْ يبحث عن ملاذ يقيه هذا الشرَّ، لم يكن هذا الملاذ سوى شجرة الأرطى نزل ضيفاً عندها.
تشتدّ الأزمة بنزول البرد، يا له من ليل طويل أرخى سدوله على الثور ليبتليه بالهموم صار لسان حال الثور يناشد الليل مع امرئ القيس:
ألا أيها الليلُ الطويل ألا انجلِ بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ
إلا أنَّ أزمة أخرى تنتظر الثور وهي الصياد وكلابه)
من هنا ينطلق العربي بالصراع في حرب لا تنتهي مفروضة عليه بداعٍ أو بدون داعٍ الذي يعبر عن قلق الجماعة وخوفهم.
الشعر ذلك الصعلوك الذي لا زوج له ولا ولد مثل الثور الوحيد الذي فرضت عليه الطبيعة حرباً دائمة لا مناص منها ويجب الدفاع عن الشرف والهروب عارٍ كما يعبر عن ذلك النابغة بقوله:
فبات كأنه قاضي نذورٍ شرى الله ينتظر الصباحا.
الثور في الشعر الحديث؟
يبحث الشاعر العربي الحديث في الصراع ذاته تارة ينطلق من الخوف والقلق وتارة ينطلق من الحب وتارة من العدم ألا أنَّ المختلف ليس المواجهة أو الهروب إنما عدم الاهتمام بالبرد القارس ولا بكلاب الصياد ولا الرمال يا ترى ماذا يصيد من خضير الزيدي في ديوانه (حب يتعدى خاتم الكلمات) الذي لم يبقَ لديه غير الكتابة إلى صديقته في الجنوب البريء حيث يزاوج الأشياء ويظللها يلعب بالثور الخاص به في كلِّ اتجاهات البلل كأنه يشعل النار ويطفئها لغضب الثور وفرحه ويبقيه في مكان غريب كالعادة يأبه قرون الجماعة
من أحد مقاطعه:
عن الجنوب البريء:
لنستمع للشجر وهو يظلل النار
ونكتب عن أحمر الشفاه
وهو يبلل الجسد.
لنكتب صديقتي
فوق المرايا تتزاوج الأشياء
في مكان قصي وغريب
كأنها حصاة وبعض رمد.
لكن أصالة لمع تعترض في ديوانها الأول (التفاتة نحو نغمة خافتة) الثور لا يريد الموت لا يريد الاستسلام هو محارب قديم لكن ليس بشجاعة القرون بل بشجاعة العناق لا يريد من الجسور سوى أنْ تحمله نحو المعنى لا الأسى تلك الأشياء أجمل من الضفاف تقف بوجه كلاب الصياد تؤثث صحراءها الخاصة من جسرٍ يدور عليه جوهر المعنى وتنفي الضفاف لن تعبر كلاب الصياد ولن تحصل زوجته على وجبة اليوم المنتظرة.
من أحد مقاطعها: الشّابُ الذي تسلّقَ حافّةَ الجسرِ
لم يكنْ يريدُ أنْ يموتَ
كان يريدُ أنْ يعانقَهَ أحدُهم
ليتأكّدَ
أنَّ الجسورَ قد تنهارُ
في غيابِه،
وأنَّ الهاويةَ
أبعدُ
من الضّفةِ الأخرى.
يحدُثُ أنْ تولّدَ الأشياءُ
أشياءَ أخرى
أجملَ منها.
هكذا صارتِ الجسورُ
أجملَ من الضّفافِ.
أما صالح رحيم فيسوق الثور إلى صحرائه الخاصة بعربته الجوالة يحتجّ على تلك الحنجرة التي تهرأت من الخيبات والفقد في صراع النشيج من يشتري من يشتري كل شيء أيها الأصدقاء لا تنزعجوا أيها الجيران ألم تتعبوا من النوم عليكم أنْ تصحوا باكراً كل حياتنا فجر هذا بالضبط ما يخاف منه الثور هو الفجر والغزوات العربيَّة قبل طلوع الشمس لذلك يقوم صالح في إحدى قصائده من ديوانه (ريشة لطائر منقرض) بالاقتراب من خبايا الوحش الكامن بالحنجرة الذي انهال الرمل على هذا الصوت نتيجة مطر المعنى
من أحد مقاطعه:
إنك بحاجة إلى حنجرة قويَّة
لا تتأثر بمدى ما تفرضه عليها من صياح،
لكي تمرّر بضاعتك بيسر..
وكلّ ما لديك يعتمد تسويقه
على مقدار ما تتمتع به من صراخ،
وصوتك الشجي هذا
صوتك المبحوح
بدأ يسبب إحراجاً للجيران
الباعة الذين هم أصدقاؤك
الذين بدأوا يشفقون عليك..
إنك بحاجة إلى حنجرة جديدة
غير تلك التي تحولت إلى مقبرة للكلمات،
لا تتحدث بأطرافك
تخلص من هذه العادة،
الأطراف لا تعبر بالضرورة عما يدور في رأسك
الأطراف أحياناً يخونها التعبير..
تأخذ دور المطر هدى الغول في ديوانها (لغتي المتطرفة) تهطل على صحرائها الخاصة بمعيَّة الحب تلقن البيئة القاسية درساً بالجمال وتصر على أنَّ الثور رمز القوة بإمكانه أنْ يحبَّ أيضاً وينتقل في عوالم صحرائه من بطن الحوت إلى الغابة تعلمه المعنى هنا بعيداً عن الرمال تأخذ شموخه بلف عواطفه كالتبغ وتحرق الليل الذي يخشها الثور على صدر الصياد لتهرب كلابه بعيداً
تقول في أحد مقاطعها:
يتهاطل الغزل مني
يقع في عمق المحيط
يستقر في بطن حوت..
أقول أحبك
لكن أفواه الغابة
تفترس صوتي..
أنفق طاقة أصابعي
في رتق شراعٍ
من رسائلي لك
أُسدلهُ على غيابك
يا لعواصفك الشرهة
تأكل الأخضر
واليابس فيّ
تعاقر نخلات واحتي
التي تغتسل فيها
كل ليلة مقمرة
يُحصد فيها قمحي
تمضغه رحى الأشواق
تذروه في أذن وجنتيّ
ينسكب صداه في قلبي
أعود بكمشة ورق
هل تكفي لصنع لفافة تبغ
كي تحرق صدرك؟
يختم السعيد عبد الغني في ديوانه (حزن الشرق) البرزخ الشعري الذي تشكل به هذا الثور العربي في المخيال الوجودي الأول ينتقل به من كل معانيه الأرضيَّة إلى السماء واللحظة الأولى والمصيبة الأولى يسأل بهذا الثور عن الشر الذي ينتظره وهو لا يعلم بالضبط هل هناك شجرة أرطى سماويَّة يستريح بظلها لتفكير لا لتصليح خوفه لو كان له خيار حتماً لن يفكر لكن من لا خيار له سيشرع بالتفكير ويشهد السماء كيف تخلق ثوره وترميه بالمصائب
يقول في أحد مقاطعه:
فاتر ألوح وماكر
يواريني في بنان الصب اللا موصوف
ويمضي ويشهدني وأنا أخلق
بإدراكه المجهول يلفقني للأدراج في الشر.