يا نار الجريدة.. يا دخانها…

Read Time:4 Minute, 7 Second

نعيمة الطاهر
مشهد داخلي…

المكان منزل لأسرة من مدينة غريان، قبل أكثر من 40 سنة مضت. الزمان: ما بين العصر والمغرب)…

المنزل يعج بالنساء و(الحوش صبايا مليان)، المناسبة عرس لواحدة من بنات العائلة، الحركة دؤوبة ومستمرة، أصوات الحاضرات تداخلت بين تبادل للسلام والسؤال عن الحال، وأصوات زغاريد (ترن) وضحكات صاخبة تملأ جوانب المكان فيما تتردد عبارة: (العقبال بنياتك)، (عقبال الفرح عندكم)، (حضرني فرحك)، ومن جوانب الحديث يستطيع السامع أن يعرف أنها ليلة حنة العروس.

العروس تجلس في إحدى غرف البيت لا تغادرها، وقد ارتدت حولي حرير غالبا ما يكون قديم نوعاً ما ولونه (بودري)، تحيط بها صديقاتها المقربات، اللاتي ينشغل بعضهن في ترتيب (بتات) العروس والبعض الأخر بدأن في “شوط دربوكة حامي” تعلو فيه اهزوجة: ”لبس البودري ما احلاه.. كل بنية تتمناه“…

فيما تتساءل إحداهن بصوت عالِ: ”توا البتات هذا مش غدوة بيقوموه الرجالة؟ يعني غير اتعبوا في أرواحكم، بيقضوه تاني راهو!“.. تتساءل واحدة من البنات: ”شني بيقوموه؟“.. ترد أخرى: ”يعني يقدروه بالفلوس“…

هنا تدخل واحدة من قريبات العروس، وتطلب من (الصبايا) أن يسارعن في مساعدتها في حمل عدة (برم القنديل).. تتسابق الصبايا في الخروج من الحجرة، وفي يد كل واحدة منهن شيء تحمله، فهذه تحمل قماش أبيض يشترط أن يكون من بدلة عربية قديمة، والثانية تحمل عصاة (غالباً ما تكون جزء من عصاة مكنسة) وواحدة تجري لتأتي بسكرية السكر، والرابعة تأتي بتبسي صغير به زيت زيتون، وتتسابق جميعهن للخروج إلى (اللايدة) أو ما يعرف بجنان المنزل.

مشهد خارجي…

في منتصف اللايدة هناك صحبة من نساء كبيرات في العمر جلسن في انتظار المطلوب، تصل الصبايا تباعاً وتضعن ما يحملنه بين يدي الجالسات.. تأخذ إحداهن القماش الأبيض وتبدأ في جعله شرائط رقيقة، تتلقفها باقي النساء ويبدأن في برمها، فيتحول كل شريط إلى فتيلة.. تستمر تلك العملية فيما ترتفع عقيرة الجالسات بالغناء الخاص بعملية برم القنديل:

والصلاة دايمة على النبي بو فاطمة
والصلاة والسلام على النبي خير الأنام
والصلاة يامن حضر على النبي سمح البشر…

وفيما ترتفع الزغاريد تشق عنان السماء، تتولى واحدة من النساء وضع العصاة في قطعة قماش بها حفنة من السكر يتم ربطها وتلف بشرائح القماش وفي نهاية العصى تلف مجموعة من الفتائل وتروى بزيت الزيتون.. وفيما تهتم بقية النساء كبيرات السن ببرم القنديل ترتفع عقيرة باقي النساء بترديد الأغاني الخاصة بهذه الطقوس:

يا نار الجريدة يا دخانها
ويا وحش الوديدة على جيرانها
يا نار الجريدة تشعل من بعيد
يا وحش الوديدة على خوها الوحيد

تنتبه واحدة من النسوة وتنده على واحدة من (الصبايا): ”تعالي، امشي شوفي العروس تبكي وإلا لا“.. تنطلق تلك الفتاة مسرعة وتعود بالخبر اليقين: إيه تبكي تبكي، عندها تتنهد تلك السيدة وتردف: ”إيه الحمد لله خلي تصب المطر“.. في ذات الوقت ترتفع عقيرة جوقة النساء مرددة على لسان أم العروس:

أنا ما عطيتك بوك اللي عطاك
هونه في السقيفة يسمع في بكاك.

تاتي واحدة من الصبابا بـ “قمجة العروس” وقد ادخلت فيها عصاة طويلة حتى بانت مفرودة وتبدأ في الجري في نطاق المكان سبع مرات، فيما تلاحقها البنات وصغيرات النساء في جو من المرح والسعادة، وعند اكتمال سابع شوط يتم تعليق القمجة في واحد من الشبابيك وتبقى معلقة حتى فجر اليوم التالي…

تنتهي مراسم برم القنديل، ويصبح جاهزاً ليتم إشعاله فيما بعد، وتتجمع الصبايا في حلقة كبيرة، فيما ترن الدربوكة وهن يرددن في مرح:

يا بنية كان جيتي لامك
مشكورة ما حد يذمك
جوهرة والجوهر غالي
ما نعطوها للي يوالي
غرسناها غرس التفاح
عيطناها لناس ملاح
سلم بوها اللي رباها
للناس الزينين عطاها

تستمر هذه المظاهر الجميلة حتى تحين ساعة إشعال القنديل وتتولى ذلك أكبر نساء العائلة سناً، وتجدها وقد أمسكت به وكأنها تحمل شعلة مميزة، وأيضاً تنطلق عقيرة النساء بالغناء، هذه المرة (زوز بزوز)، زوز يشيعوا الصوت، وزوز يواطوه…

ترا شيعوا القنديل فوق السقيفة
نشبح الغالي وتوصيفه
صونه ونجيه
ترا شيعوا القنديل فوق العلالي
ونشبحوا زول الغالي
سلم زويله
وإن تجعلك شجرة خضراء فيك القماري
يربح البايع والشاري هيا عروسة
وإن تجعلك شجرة خضراء يهزوك الارياح
ويقيلوا فيك الصلاح هيا وديدة

يستمر الاحتفال بليلة حنة العروس، إلى أن تشرق شمس يوم جديد، لتجد أمامها النساء صاحبات الخبرة في صناعة (الخًلط) قد سبقن شروقها، لتجهيز المطلوب، حيث يتم تحميس القمح (الطعام)، الذي سبق نقعه في الماء وتصفيته جيداً، فيصبح (قلية) ثم يتم دعكه بالماء المضاف إليه السكر، حتى تكتسب حبيبات القمح الطعم الحلو، وتضاف إليه كمية من (القضوم) وهو حبات خضراء صغيرة تتميز بطعمها اللاذع ومذاقها الزيتي، وتكثر أشجارها الكبيرة في منطقة الجبل الغربي، وإلى جانب ذلك الزبيب والكاكاوية (المقلية) والحمص المحمص، وحلوة الحمص، وسبول العبيد (الفوشار)، بعد خلط المكونات جميعها يوضع (الخلط) في (قفة) سعف كبيرة ويتم تبخيره على (العرضاوي) وهو نوع من البخور الشعبي يتم تجهيزه من مكونات (العلاقة) التي تأتي مع مكونات (الكسوة)، العرضاوي لابد أن يكون حاضراً في جلسات غناء العرس:

الليلة حوشنا ضاوي
طلقنا فيه العرضاوي

بعد أن يصبح (الخلط) جاهزاً يحفظ في كيس كبير من القماش، ويوضع جنباً إلى جنب مع أكياس الزميطة والبسيسة التي لا يخلو منها (بتات) أية عروس في غريان، وقد تم إحلال أكياس القماش محل (المزاود) جمع (مزود) التي كانت تصنع من جلود الماعز.

لا ترافق الزميطة والبسيسة والخلط العروس عند ذهابها إلى بيت الزوجية، ولكن تقوم الأم بأخذها معها عند ذهابها صحبة نساء العائلة لزيارة العروس يوم الثالث، حينها تقوم أم العريس بتوزيعها على الأهل والأقارب والجيران والأحباب.. وتعيش الوديدة في تبات ونبات وتبقى حكاية الجريدة ونارها راسخة في ذهنها.

العقبا ليكم ياحضار
يدور الفرح ودار بدار

شبكة المدار الإعلامية الأوروبية…_

Happy
Happy
0 %
Sad
Sad
0 %
Excited
Excited
0 %
Sleepy
Sleepy
0 %
Angry
Angry
0 %
Surprise
Surprise
0 %
Previous post حُقُولُ الملح
Next post احتفاءً بالأبيض والأسود