كيف تغيّر العالم في عام 2022 على وقع حرب أوكرانيا؟
أحمد مولانا
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_لم تكد تداعيات جائحة كورونا تهدأ نسبياً بعد أن وجّهت ضربات عميقة للعولمة وسلاسل التوريد ونهج الاعتماد المتبادل بين الدول، حتى جاءت حرب روسيا على أوكرانيا لتلقي بظلالها على المشهد الدولي، إذ تبددت حقبة السلام الأوروبي التي دامت آخر 30 سنة، وشرعت الدول الأوروبية بقيادة ألمانيا في عملية تسلح غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فيما نشرت اليابان خلال شهر ديسمبر/كانون الثاني الجاري، استراتيجية جديدة للأمن القومي، وأخرى للدفاع الوطني تنص صراحة على الاستعداد لحرب مع الصين وروسيا. أما إدارة بايدن، فقد نشرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي استراتيجيتها للأمن القومي، فيما نشر البنتاغون استراتيجيته للدفاع الوطني، وأكدا على أن السنوات العشر المقبلة حاسمة في إعادة تشكيل النظام الدولي.
وفي المقابل يتعمق التعاون العسكري الروسي الإيراني، حتى وصل حد تقديم طهران طائرات مسيّرة لموسكو لمساعدتها في الحرب بأوكرانيا، كما انضمت إيران خلال العام الجاري إلى “منظمة شنغهاي للتعاون” التي تعمل كثقل جيوسياسي مضاد للنفوذ الأمريكي، فيما يشهد الشرق الأوسط إعادة بناء نظام أمني إقليمي جديد، يتسق مع توجهات أمريكا بتخفيف بصمتها العسكرية في المنطقة، وتوجيه الجزء الأكبر من مواردها إلى منطقة المحيط الهندي-الهادئ التي تعتبرها استراتيجية الأمن القومي الأمريكي بؤرة الصراع على قيادة العالم ومركز الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين.
اقتصادياً، يعيش العالم اضطرابات مالية وحالة غموض فيما تواجه العديد من الدول مخاطر عميقة تصل حد الإفلاس، فقد ساهم ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بعد حرب أوكرانيا في ارتفاع معدلات التضخم، حتى تجاوز التضخم في أمريكا حاجز 8% بعد أن كان في حدود 2% فقط خلال العقد الماضي، وهو ما دفع البنك الفيدرالي الأمريكي لرفع معدلات الفائدة بهدف خفض التضخم، ما يهدد بدخول الاقتصاد العالمي في ركود.
الصدمة الأمنية تضرب أوروبا واليابان
إن الغزو الروسي أدى إلى صدمة أمنية ترددت تداعياتها في أنحاء العالم، وهو ما عبرت عنه استراتيجية الأمن القومي الياباني عبر ما خلاصته (أن الأنشطة العسكرية الروسية أدت إلى زعزعة أسس النظام الدولي، وهددت الأمن الأوروبي. كما أن التغيير أحادي الجانب للوضع الراهن بالقوة في أوكرانيا، يمكن أن يتكرر على يد الصين مع تايوان، وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فيما أدى ضعف قدرة الردع الأوكرانية إلى الفشل في ردع الهجوم الروسي. وبالتالي فلكي تحمي كل دولة نفسها، ينبغي أن تمتلك قدرات عسكرية قوية تستعد من خلالها لمواجهة السيناريو الأسوأ).
هذا المنظور الياباني، هو نفسه المنظور الألماني الذي عبر عنه المستشار شولتز في مقال نشره بالعدد الأخير من دورية شؤون خارجية “فرون أفيرز”، حيث أكد على أن العالم يمر بنقطة تحول تاريخية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وأضاف أن بوتين حطّم بنية السلام الأوروبية والدولية، لكنه شدد على أن برلين عازمة على أن تصبح الضامن للأمن الأوروبي، وهو ما تطلب إجراء تعديل في الدستور الألماني لتأسيس صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو يهدف لإعادة تسليح الجيش الألماني، فضلاً عن التجهيز للوصول بالإنفاق العسكري إلى عتبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي الألماني.
وقد انعكس الصراع الجيوسياسي الغربي مع روسيا على خريطة نقل الطاقة في القارة الأوروبية التي استوردت في عام 2021 نحو 39.7% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، رغم التحذيرات الأمريكية بأن الاعتماد على الغاز الروسي، سيعضد نفوذ موسكو على القارة الأوروبية. فمع بدء حرب أوكرانيا، فرض الاتحاد الأوروبي عدة حزم من العقوبات ضد روسيا، ما دفعها لمطالبة الدول الأوروبية بدفع مقابل الغاز بالروبل الروسي أو مواجهة خطر قطع الغاز، وهو ما تم بالفعل، وصولاً إلى وقف ضخ الغاز عبر خط غاز نورد ستريم1 بحجة حاجته للصيانة قبل أن يتعرض لاحقاً لتفجيرات، فضلاً عن قرار ألمانيا عدم منح شهادة اعتماد لخط نورد ستريم2 رغم الانتهاء من بنائه، وبالتالي أصبحت أوروبا في مأزق لتعويض الغاز الروسي، في ظل أن البدائل المتاحة تتطلب وقتاً أطول وكلفة أعلى، وتفاقمت الأزمة حتى وصل متوسط السعر الشهري لفاتورة الغاز في أوروبا خلال أغسطس/آب الماضي إلى 235 يورو لكل ميغاوات ساعة مقابل 32 يورو عام 2019، وهو وضع يهدد الاستقرار الاقتصادي ومستويات المعيشة في القارة الأوروبية.
تداعيات الحرب تصل جنوب القوقاز
امتدت تداعيات الحرب في أوكرانيا لتلقي بظلالها على جنوب القوقاز ، فعقب فرض عقوبات غربية على روسيا، ونزوح الشركات الأوروبية والأمريكية من الأراضي الروسية، تراجعت حركة النقل بين الصين وأوروبا عبر روسيا، وتوقفت إمدادات الغاز الروسية لأوروبا، فبرزت أهمية أذربيجان كمورد بديل للغاز، وجرى الاتفاق على زيادة سعة خط “تاناب” لنقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا من 16 ملياراً إلى 32 مليار متر مكعب، كما ازداد الاعتماد في النقل البري بين الشرق والغرب على الممر الأوسط الذي يمر بأذربيجان وتركيا وبحر قزوين، وهو ما يقوض مخططات إيران الخاصة بتفعيل الممر الشمالي الجنوبي الذي يربط روسيا والهند مع أوروبا عبر الموانئ الإيرانية.
أدت تلك المستجدات إلى ارتفاع حدة التوتر بين إيران وأذربيجان وصولاً إلى تنظيم كل منهما لمناورات عسكرية على الحدود المشتركة، فيما صرحت طهران على لسان كبار مسؤوليها بأنها لن تتسامح مع أي تغييرات في الحدود الجيوسياسية وفي الممرات التاريخية لجنوب القوقاز، وأنها تعتبر ذلك خطاً أحمر.
التداعيات في العالم العربي
في ظل إعطاء واشنطن الأولوية للتنافس مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتصدي لروسيا في أوروبا، فقد تراجع الانشغال الأمريكي بشؤون الشرق الأوسط، وهو ما يتجلى في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي نصت على أن واشنطن ستعمل على التحول من استراتيجية “تقودها الولايات المتحدة، ومدعومة من الشركاء” إلى استراتيجية “يقودها الشركاء، ومدعومة من الولايات المتحدة .
تطبيقاً للنهج الأمريكي الجديد، تدفع واشنطن باتجاه تبني مشروع للدفاع الصاروخي المشترك بين دول الخليج وإسرائيل ومصر والأردن والعراق للتصدي الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة الإيرانية، كما بدأت فعلياً في تنفيذ مشاريع أخرى لتعزيز الأمن البحري في المنطقة الممتدة من قناة السويس إلى البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق هرمز، بواسطة القوات البحرية المشتركة التي تشارك بها قوات من 33 دولة بقيادة واشنطن، وبإشراف مباشر من مقر الأسطول الأمريكي الخامس في البحرين.
أما التداعيات الأعمق والأخطر لحرب أوكرانيا على العالم العربي، فهي المرتبطة بالأمن الغذائي والوضع الاقتصادي في عدة دول عربية تعتمد على استيراد الغذاء والسلع الأساسية من الخارج دون أن تكون لديها وفرة مالية، مثلما هو الحال في مصر وتونس، ففي ظل ارتفاع أسعار الغذاء، واختناق سلاسل التوريد، وصعوبة الوصول لأسواق الديون مع رفع البنك الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة، وانتشار الفساد، وغياب الحكم الرشيد والمحاسبة، نزح 20 مليار دولار من سوق الدين المصري خلال العام الجاري، فيما بدأت الحكومة في بيع أصول الدولة وفق مخطط يهدف لبيع أصول بما يعادل 40 مليار دولار على مدار السنوات الأربعة القادمة، وذلك لسداد أقساط وفوائد الديون وتمويل فاتورة استيراد السلع الأساسية، وهو ما يعني تفاقم الأزمة مستقبلاً والدخول في نفق مظلم قد يؤدي إلى موجة جديدة من الاحتجاجات المجتمعية، فضلاً عن انتشار معدلات الهجرة غير النظامية والجريمة ونسب الطلاق.
في انتظار عام 2023
بينما تتصارع الدول الكبرى على الموارد الاقتصادية ومناطق النفوذ والتقنيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية وتقنيات الفضاء وعلوم الكم، بهدف تطوير صناعاتها وقدراتها العسكرية والاقتصادية، تتصارع دول أخرى على ما يسد رمق مواطنيها، وتعاني من انهيار الخدمات الصحية والتعليمية، وتداعيات التغير المناخي على مصادر المياه والموارد الزراعية، ولكن في المحصلة، فإن انهيار النظام الدولي في منطقة ما سيعرضه للخطر في نهاية المطاف في مناطق أخرى وفق ما تشير له استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، وإن لهيب القصف في أوكرانيا تمتد شظاياه ليصل إلى جنوب القوقاز والعالم العربي والقارة الإفريقية وغيرها من مناطق العالم، ويرجح أن يزداد الأمر ضراوة عام 2023 في ظل تربّص القوى الكبرى ببعضها البعض، وشحذهم لمخازن أسلحتهم، وتكثيفهم للتصنيع العسكري، وتعميقهم للتحالفات البينية، والاستعداد لما يبدو أنها حرب كبرى على الأبواب، تهدف لتشكيل نظام دولي جديد بما يخدم مصالحهم ويقصي منافسيهم.
عربي بوست