الكرة المغربية تنجح فيما فشلت فيه السياسة –((صعود “العروبة الناعمة” وأفول “العروبة الصلبة”))
خالد الحروب
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_ في قلب الحماس الكروي احتلت العروبة الناعمة مشاهد التأييد العربي الجمعي للفرق العربية المشاركة في كأس العالم في قطر، وتنحت جانبا السياسة الصلبة وتنافساتها وتوتراتها، ولو بشكل مؤقت.
العروبة الناعمة تختلف مفهومياً عن العروبة الصلبة ، الأولى تشتغل في مساحات اللغة والإعلام والثقافة والرياضة والفنون والموسيقى، والثانية تنغمس في حقل السياسة.
العروبة الصلبة اشتملت في الماضي القريب على المشروعات الكبرى مثل، الوحدة العربية التي حملتها الناصرية والبعثية وسواها، واشتملت أيضا مشروعات أقل حجماً تبنتها هذه الدولة العربية، أو تلك وحامت حول الادعاء العلني أو المُستتر بتسنم القيادة الإقليمية أو العربية، وأحقية تمثيل العرب بشكل عام، أو تمثيل منطقة محددة من المناطق العربية (الخليج العربي، أو المغرب العربي مثلا).
راهناً بالإمكان القول إن السياسات للأنظمة العربية والمدمرة أحياناً ًوبعيدا عن جذور أسبابها أو ادعاءاتها، تقع في مكان ما تحت تعريف العروبة الصلبة، وحيث السياسة وجبروتها وبطشها تحتل قلب الفعل والاستراتيجيات المُتبعة.
نعرف أن هذا الشكل من العروبة، إن في صوره الغائية القصوى كالوحدة العربية، أو التنافسية والصراعية الأقل منها، تعرض لسلسلة إخفاقات كبيرة وتاريخية. العروبة الصلبة، أو القومية العربية، كما يجادل كثيرون تآكلت، وبعضهم يقول انتهت وماتت. الدلائل على هذا المآل تترى: التفتت، الصراعات العربية البينية، الفشل في العمل الجماعي، العلاقات السياسية المقطوعة، الاستقواء بالخارج، الاختراقات الإسرائيلية، وغيره كثير. كل ذلك تفاقم بشكل متسارع في العقود الثلاثة الأولى، وربما أمكن التأريخ لهذا التسارع في الانحلال بغزو صدام حسين للكويت والانهيارات المتلاحقة التي تلته.
عروبة ناعمة عابرة للحدود
بيد أن المفارقة الكبيرة أن هذه العقود ذاتها، أي التي شهدت الإحباطات الكبرى في ميدان العروبة الصلبة، صعد فيها ما يمكن وصفه بـ”العروبة الناعمة”، وهذا الشكل من العروبة يعني تكثف التفاعلات العربية ـ العربية على مستوى الناس والشعوب والمبدعين، وليس النخب السياسية البيروقراطية، وتعزز إحساسها بما هو وحدوي ومشترك من لغة وثقافة ومزاج ودين وتاريخ وهوية.
يحدث هذا التكثف التواصلي، أفقيا وعموديا، على الضد من كل المؤثرات والحقائق السياسية، المفرقة والمفتتة، التي انتجتها العروبة الصلبة، خاصة في العقود الأخيرة والهوس في توكيد الهويات الوطنية وتقديسها. الحامل الرئيس للعروبة الناعمة الذي يمدها بطاقة تجديدية هو الإعلام العربي العابر للحدود pan-Arab broadcasting الذي كرس ويكرس هذه العروبة من دون قصد، ومن دون أي تخطيط مُسبق.
ويتعمق وجه المفارقة هنا عندما نتذكر أن الإعلام العربي العابر للحدود، خاصة القنوات الفضائية المؤثرة، مملوكة بشكل مباشر او غير مباشر من قبل الحكومات العربية، التي لم يكن على أجندتها إنتاج أو تعزيز هذا النوع من العروبة ـ الناعمة، أو غيرها! فهذه الفضائيات وأشكال الإعلام العربي الأخرى، وكلها رسمي أو شبه رسمي، تأسست وأُنفقت عليها مئات الملايين لتلعب أدواراً سياسية تنافسية تخدم هذه الدولة أو تلك ووظيفتها الجوهرية تقع في قلب السياسة الصلبة.
لكن في خضم التنافس الشرس على استقطاب مشاهدين او مستمعين عرب من كل البلدان العربية أنتجت الفضائيات العربية وأوجه الإعلام الأخرى، خاصة الإعلام الاجتماعي، برامج ومواد إعلامية «عربية» أي تستهدف الناطقين بالعربية في كل مكان، سواء في الوطن العربي أو خارجه. وكان من ضمن هذه المنتجات الإعلامية دراما، وموسيقى، وفن، وبرامج مسابقات شعبية مثل “آراب آيدول” وسباق مواهب عربية في مجالات عديدة مثل برنامج “أمير الشعراء”، وغيرها كثير.
وإلى جانب ذلك، تسابق الإعلام العربي التابع لهذه الدولة أو تلك، في تبني مشاريع ثقافية في معظم المجالات الإبداعية، شارك ويشارك فيها عرب من الخليج إلى المحيط. ولم يتوقف هذا الضخ الإعلامي “الناعم” على مستوى عربي وعابر للحدود حتى في أسوأ اللحظات الانقسامية السياسية العربية. على ذلك، ظل منحنى “العروبة الناعمة” صاعدا رغم أفول منحنى “العروبة الصلبة”.
“الإعلام العربي العابر للحدود، خاصة القنوات الفضائية المؤثرة، مملوكة بشكل مباشر او غير مباشر من قبل الحكومات العربية، التي لم يكن على أجندتها إنتاج أو تعزيز هذا النوع من العروبة”
صعود “العروبة الناعمة” وأفول “العروبة الصلبة”
في كأس العالم في قطر تمظهرت هذه العروبة الناعمة في واحدة من أحدث تجلياتها وأكثفها في السنوات الأخيرة، وساهم في ذلك مشاركة منتخبات أربعة بلدان عربية لأول مرة في هذه البطولة. في قلب الحماس الكروي احتلت العروبة الناعمة مشاهد التأييد العربي الجمعي للفرق العربية المشاركة، المغرب، السعودية، قطر، تونس، وتنحت جانبا السياسة الصلبة وتنافساتها وتوتراتها، ولو مؤقتا.
الذين حضروا المباريات سواء في الملاعب الرياضية أو في أماكن تجمع المشاهدين بعشرات الآلاف رأوا جزائريين يهتفون بحماسة للفريق المغربي وانتصاراته، حاملين علم بلادهم إلى جانب علم المغرب، بعيدا عن النزاع الرسمي بين البلدين حول الصحراء الغربية. ورأوا يمنيين يناصرون الفريق السعودي بكل قوة، وكأنه لا حرب في اليمن تشارك فيها السعودية، ورأوا سعوديين وإماراتيين يؤيدون فريق قطر التي كانت تتعرض لمقاطعة من بلدان هؤلاء المشجعين في الأمس القريب، ورأوا عربا من كل الجنسيات يحملون الأعلام والقمصان التونسية في كل مكان. أما في سائر أنحاء الوطن العربي، من نواكشوط إلى المنامة، مرورا بطرابلس والخرطوم وبغداد وبيروت والقدس، فإن التغطيات الإعلامية قدمت شواهد لا تحصى على التأييد ذاته.
في مباراة المغرب مع بلجيكا التي فاز فيها المغاربة 2 ـ صفر، اشتعل المقهى، حيث تابعت المباراة، حماسا من قبل حضور غالبيته الكاسحة عربية، وفيه حضور مغربي قليل. كانت هناك أيضا طاولة حولها مجموعة من الأوروبيين. توجهت إليهم وسألت أحدهم، فرنسي في مطلع الثلاثينيات من عمره، عن رأيه في التشجيع العربي للمغرب، وفي ما إن كان كأوروبي سيشجع أي فريق أوروبي آخر (غير فرنسي) إذا لعب ضد فريق غير أوروبي. رد عليّ بأنه لن يشعر بأي حماس قريب من حماس العرب للفريق المغربي.
إلى جانب ذلك كله برز الحماس والتأييد المتواصلان لفلسطين، ليس فقط في المباريات التي ضمت بلداناً عربية، بل والأخرى أيضا. وقد ساهمت المساحة الجسورة التي أتاحتها قطر في هذا المجال للمؤيدين العرب في التعبير عن مشاعر فياضة وعميقة تجاه القضية التي يتوافق عليها أغلبهم، إن لم يكن كلهم. مشاهد التأييد لفلسطين يمكن ان تُوضع او تُفهم ضمن سياقات تحليلية مختلفة، لكن هنا يمكن رؤيتها من منظور تمدد العروبة الناعمة إلى مساحة سياسة يسمح بها الظرف الزماني والمكاني.
معنى ذلك، أن ما تنطوي عليه العروبة الناعمة من إمكانات أو احتمالات يصعب التكهن بها، لا رغبويا ولا تضخيميا، ولا أيضا استسخافاً أو تقزيماً. ما يمكن المغامرة بقوله هنا هو إن الاحتمالات الكامنة في العروبة الناعمة تظل مشروعاً مستقبليا مفتوحاً، وإن تجددها الموسمي يعني أنها عميقة ومتجذرة رغم صلابة الحدود السياسية وتعاسة حراسها.
“صلابة العروبة الناعمة، عروبة الناس العفوية والعميقة، التي تقف على النقيض من هشاشة السياسة الصلبة، سياسة النخب الحاكمة”
العروبة الناعمة ليست نتاج تخطيط ولا أيديولوجيا، ولا هي بالطبع هدف النخب السياسية الحاكمة، وموقعها الطبيعي والعفوي هو الشعوب ذاتها.
في انتفاضات الربيع العربي في سنوات 2010 و2011 تسارعت تحولات العروبة الناعمة وأخذت في بعض أشكالها صورا سياسية تبدت ليس فقط في التأييد الشعبي المتبادل والجارف للثورات التي أطاحت ببعض عتاة الاستبداد العربي، بل أيضا في التأثر والتقليد والخروج إلى الشارع.
لماذا خرج الناس في مصر وليبيا واليمن وسوريا عندما خرج التونسيون إلى الشارع وثاروا ضد زين العابدين بن علي؟ ما هي الكيمياء الخاصة التي تحول حدثا “محلياً” في هذا البلد العربي، أو ذاك إلى حدث “عربي” يحظى بالاهتمام والتأييد أو المعارضة، تبعاً لطبيعته، بشكل يفوق اهتمام أي جزء آخر من العالم به؟
جزء من الجواب على ذلك هو صلابة العروبة الناعمة، عروبة الناس العفوية والعميقة، التي تقف على النقيض من هشاشة السياسة الصلبة، سياسة النخب الحاكمة. على أنقاض فشل العروبة الصلبة ومشروعاتها تطور خطاب نخبوي ودولتي في العقود الأخيرة ينافح عن الدولة الوطنية بتطرف استرذالي لكل ما له علاقة بالعروبة، سواء أكانت صلبة أم ناعمة. هذا الخطاب جعل الحديث عن العروبة مثار سخرية، مستفيداً من ذيليته لسياسة منتفخة بظافرية بهلوانية، تفخر بسوئها لأن هناك ما هو أسوأ منها.
الخطاب الاسترذالي للعروبة لا يطرح أي بديل سوى الفراغ الكلي، ومنه الفراغ السياسي الذي يستدعي علاقات سياسية خارجية تدخلية وفوقية مع دول كبرى، ومنه أيضا فراغ ثقافي جوهره أيديولوجيا الاستهلاك والتقليد.
كل ما يقدمه الخطاب الاسترذالي هو تعزيز هذين الفراغين، السياسي والثقافي، وإغلاق احتمالات مستقبلات أفضل. ما تقدمه العروبة الناعمة هو فتح تلك الاحتمالات والإبقاء على الأمل.
قنطرة