خفايا الحس الشاعر ودلالاته في بعض نصوص الشاعرة / هدى عيسى الغول 

 بقلم عائشة أحمد بازامة -شاعرة وقاصة من ((بنغازي))

هدى عيسى اسماعيل الغول مواليد: مدينة درنة بكالوريوس اقتصاد تكتب النثر والهايكو  والقصة القصيرة  والمقالة ,نشرت نصوصها في عدة مواقع وصحف ومجلات  عربية ودولية  بالإضافة إلى مساهمتها ببعض  النصوص مع نخبة من كتاب وشعراء عرب  ضمن كتب عربية ودولية من أهمها كتاب الكتروني بعنوان ( أنطلوجيا الهايكو العربي) الصادر عن دار مومنت البريطانية عام 2019  ..

صدر لها مؤخرًا  باكورة أعمالها الشعرية 

كتاب ( لغتي المتطرفة )   

       تكتب قصائدها  صورة ،صورة، إنّها انعكاس لروح شعرها وفكرة مفاهيمها،لكل لفظ وكلمة تتفرس نبوءة النص ، إحساسها جزء من الصورة  تعبر عن إنسانها بما يجول في تصويرها لفكرة تحيلها لدلالات حسيّة عالية هي على هذا الأساس لابد أن تكون كلماتها منطوية على نفس الدلالةالحسيّة في ذهننية  التداول للغة المعينة . نجحت الشاعرة في التواصل بوصفه مهمتها الرئيسة للغتها  والتي لا تتحقق بمفردها ولطالما لها دلالات الحس المشبع بالعاطفة التي ينقلها -هذا الحس- لأذهان المتلقين ،لها تجربة خيالية مجازية  تبرز في الصورة الشعرية المختارة مختلفة المعنى التي تضفي عليها دلالاته مزيداً من التفرد، الذي لا يقارب ولا يقارن  فيه مع شعراء النثر، من ذات الجيل، دلالية الحس متمايزة عن ذات علاقة تناظرية تستشرف كثير الأمل رغم ما يعتريها من رماد تحته نار. إذاً الصورة الشعرية في قصائدها تتكون من اتحاد تام حسي ولغوي ،وهو أول انطباع دون كلل يستقبله المتلقي ويكون لها كثير الصور الدلالية والرؤى الذاتية،وليس بالضرورة أن تتوافق مع الغاية في الأساس لخلق القصيدة الذي تنشئه في ذهنية المتلقي لأنّ الحس فيها ليس كالمتعارف عليه بل يحمل رؤى جديدة يخالها القاريء ويستنتجها للمرة الأولى،وهنا تكمن قيمة تصويرها ودلالة الحس،وإذا ما وضعناها تحت عنوان المعنى اللغوي الحسي الذي لا يعني المعنى الحرفي  للكلمة الذي تنشأ منه كلماتها ، إنما شمل الإحساس والإيحاء وهذا يقودنا إلى لغتها الشاعرة وكيف تعمل بهدف الارتقاء بالحس الجمالي نحو المتلقي المتفتح والمتهيء  لتلقي ما يعتمل من كل قصيدة لأجل بلوغ غاية يشاركها احساسه بعامل الجذب المدهش المنغلق في الاحساس والإيحاء.

  قصائدها تعبيرية تركز على اهتمامها بما تختزله من صور واخيلة وطاقة إيجابية  رغم ما فيها من حزن لكي ترتقي بالحنين لأعلى درجات الاحساس،والوجدان فتفيض إحساساً ووجداناً جياشاً لا نستدرها الطاقة الحرفية  فقط وإنما تتظافر معها عوامل سياقية موسيقية  وحركات تقصي الأيروتية عن بعد، والرموز التعبيرية ومواقع اختيار الدهشة  كجزء من اللغة ،كذلك الإيحاءالذي يمثل روح الشعر .

      مسعى نصوصها هو أن تنقل التأثير الحسي العاطفي لتجربة متنوعة رغم وحدة البنية .

   لأول وهلة نتصور أنّ الإيروتية  هي الأبرز في هذه الأبيات لكنّي قرأت ما بين السطور وأجتهدت في تأويل ما استطعت تأويله . من النادر جدًا أن أتصور إحساس شاعرة في لحظة تصويرها لدورة الكأس في خلق مزاجية النفس الشاربة ،فالصورة التي رسمتها الزاخرة بالحس وباللذة في تلك اللحظة هي التقاطة حميمية مذهلة أوردتها في أعلى درجات الحس الذي يبدو في كلماتها المنبعثة من شفتيها ،صورة خيالية أقرب ما تكون للحظة التوهان حين رشفة الكأس  وأشهى ما تكون في لذّة تلك النشوة ، إحساسها بالكلمة جعلها تتخذ لها دلالة كأس الشراب واستعارة الشفاه وتشبيهها بالعنب، هذه الاستعارة مكنتنا من تقريب حسها بقوة الكلمة من خلال ما كتبت بحس مرتفع الخيال اختارته من عوالم مناقضة وغير مألوفة وهنا خلق المجاز طوفاناً طاغياً لتأثير الكلمة التي تخرج من الشفاه بتصوير مشوق يقحم المتلقي إلى دهشة  واستفهام  وانطلاق لعوالم النشوة بخيال مطلق أقرأوا قصيدتها :

((شفتاها بنات العنب 

يدعوني رجلُ منتصفِ الليل إلى نخبهِ

لم تأتٍ مهيأة كؤوسي 

عائمة

توزع خبز الحنين 

زبائنها أبناء الريح

يرتشفون اندلاقها 

يتجشَّؤُونَ.. حرقتها 

راقصة

شفتاها بنات العنب 

تطقطق دأب نبضي

ينسدل جفني حين استكانها

تمرني يد الرجل

طرية

تنقش رتوشها فوق رمالي 

يستقطب ما زاغ مني

يحتسيني من لساني

دفقة واحدة.))

وتستطرد في عتاب محموم وحسَ عال  همّها في شحذ  الهمّة وتنادي شعرها بنهي ألاّ يجاري ما دأب عليه غيرها  من الشعراء وتستحث الفكرة بقوّة أو تستميلها  نحو شعورها الدافق .

    هذا الإحساس صورته في لحظات الإرتعاشة الفعلية للمجاز حين تولد القصيدة وما تحدثه من ارتباك وارتعاد ظاهرها طقطقة الأصابع وباطنها هزّة الروح واشتعالها وغليانها كالقِدر  وحمم البراكين . وهذا منتهى الدقة والقوّة في تصوير الإحساس بحاجة القصيدة إلى الإنبعاث في لحظة من لحظات  التشبث العميق بمجريات بعثها قوية هادرة تسحب الحبيب إلى قريها،أنّها تدخر كل قوّتها الشبيهة بالزلزال وستستخدم كل الأمور المتعلقة  بجذبه في مودّة مرتدّة  حتى توشم به في تجرد حسي دائم الإرتباط .

لنتأمل الأبيات التالية :

((المران الذي يمارسه الشعراء

خيجلس بهامشي 

يطقطق أصابعه 

يتثاءب

يلوي عنقه يمينا وشمالا 

يحدق السراب..

بعيدا 

أفتح شبابيكي 

يحاول الهواء يمسكني 

تتخللني بنات الضوء

نسمات توقد شموعها 

تغلي قدوري 

تفيض بحمم سكوتي

أفترش علب مكياجي 

امتطي سراحتي 

تنحنح ذاكرتي 

اهز رأسي مرتين 

أقفز نحوك برشاقة 

أسحبك 

تجيء متموجا  مندفعا 

تتسلق حوائطي  

ترتطم بسقفي

يلتقمك فمي

أسيل عرقا 

لا تسعفني المناديل 

لا تدثرني العُطوف 

آتي مجردة 

اشي بك 

كلما لاطمني  زلزالٌ

       أو

وشمتني سلافة.) 

   هنا فيما يلي  صوت الضمير الغائب غلب على سردية القصيدة ،خالت الشاعرة الشتاء كاتباً كتب على نافذتها صوته صورة مركبة وكيف يكتب الصوت ؟ استعارت الفصل والشهر واستعارتهما للكاتب ترتب عليها صورة خلفها صورة  وقد يكون حبيباً،أو تاريخاً يؤرخ به لتلك المحبة،ذِكر الشهر دلالة زمانية على حدث ما،ضمنته لهذا النص ليكون مفتتحاً لإحساسها بفعل الزمن وماله من قيمة حسية عالية في حالتها استطردت بعدها بتدرج إحساسها بالطريق،ربطت بين الزمان والمكان  باسلوب سلس لاستشراف المستقبل فيما وراء تلكم الدلالات، هذا الاسترسال الرائق حاكى فترات  ترحال في طرق عديدة لانتقال مشاعرها بلهفة الوصول ،عددت طرق حسيّة في خيالات غير متوقعة تتصيدها وليست في حقيقة واقع الطرقات   وليست في حقيقة الواقع عموماً. وقد نجحت في توظيف لفظة ( طريق) في صور جميلةطوت تفكير المتلقي بين كل طريق كما تطوى المسافات وأحيت احساسه بكل طويةطريق وأخرى،دفعت به لإحساسها بالطريق لأنّها مسار الحيوات فهي دلالة ماض وحاضر ومستقبل،وهنا تكمن براعة اختيار الإستعارة لبث ما يعتمل في النص من إحساس لنواصل التأمل فيما ذكرنا في النص التالي: 

((يكتب كانون الثاني 

بصوته على نافذتي 

وكأن شذاك 

قد غرس

أقاحيه بقلبي

لألقاك على الطريق  

طريق كفوف

الصبايا المخضبات

بالربيع 

طريق 

العاكفين

على وجه الله

القاطنين 

بأروقة التجلي 

طريق هؤلاء

الذين 

قذفتهم الشوارع 

خلفها 

طريق البغايا

الذي لوته 

الأيادي  القصيرة 

طريق ضباب 

المخمورين 

الغارقين بالموت 

البطئ 

طريق أريج الرمال 

حين التفاتة 

الحنين نحو

الوطن 

طريق 

وشم أمازيغي

تسلكه الذواكر

نحو أساطير 

ملتهبة 

سأحبك على

طريق يصوغه

المطر بمقلتي

عندما تقتاني 

غيمةٌ كانونية)) 

ترتفع وتيرة الإحساس بمنحى صوفي هاديء تحفزه مشاعر ملتهبة دفينة تنضح بالحنين للبوح نحس أنّها تستصرخه بداخلها بنداء عالي الإحساس بجدواه لكنه قد يخذلها فتعاتبه عتاباً يحمل ما يجيش به الحب الذي يبحث عن المزيد،الحب الذي يستصرخ أذن تصغي لنبضه وروح تعيشه بعنفوانه. التقطت صورة الجبلين كناية عن حبيبين انفلت صمتهما فأحال الزمن إلى جليد ،،، تصوير قوي جمع بين دلالات كثيرة اجتمعت معاً في خيال ناطق بإبداع جميل ، تفرد بأخيلة حسية مارقة اخترقت مساحات النص بجنون ممسوس ببديع الشعر ، في هذا النص ارتقت الشاعرة بجاذبية مثلى للغة واشتركت معها بيئتها المعاشة في صياغة الحس فأخذت تبني حسها بملامستها للمكان الذي تعيشه وهنا تمطرنا بجمال تلك البيئة التي غمست ريشتها الجمالية ورسمتها لنا في نص أراه قوي ببلاغة التصوير والخيال وهكذا هو الشعر . الإحساس بالحب والحنين للبوح منغمساً بالاحساس بجمال المكان. 

تنتقي الشاعرة النفي جواباً للنداء الصارخ  الذي يستنهض بوحها بالحب الذي تبحث عنه في مسارب النفس إذ تنفي ذلك الآخر الذي لا ينصت فلا أذن له ولا عيون تخترق نظراتها لذلك الدم الذي يغلي في العروق . وتتم النص بصورة مجردة ابتعدت عن الخيال لتضعنا في الواقع المحسوس وكأنها استراحة المحارب لقياس مدى التأثر بالمعاش فلا روح تشفق عليها . ولا حبيب في الضفة الأخرى يمسك بيدها المرتعشة و( المرتعشة ) هي لقظة  صفة توضح لنا حالة الحب الذي تحسه وقد وردت لتؤكد مدى الإحساس بالآخر الذي يعذبها عدم تجاوبه لهذا الحنين النازف الذي تأتي دلالة الضماد لتوضحه وقد نزف فلا شيء إلاّ هو  لينقذها من هوس الحنين والشوق والتوق للحب    هذا الحس العميق بالخيبة  صورته بأبدع ما يمكن فيما ذكرنا سالفاً،وآنفًا :

يا عطر البوح الخبيء

ما الذي نحّاك عن 

دهاليز الصمت  المسدودة ؟

تُكسر جرارك 

عند انفلاتة همس

بين جبلين

تُبعثر الأحايينُ

جليدًا على رأسيهما 

لا آذان هنا تلتقم 

صوتي 

لا أعين تُلقّن أزيز 

دمي

لا روح تُشفق على وحشتي

لا رَجُل يمسك با رتعادة يدي 

لا شيء هنا 

إلا الضِماد  

يرتشف نزيفي 

تصر الشاعرة على ندائها  للبوح وتنعته بالبرود وتعاتبه بسؤال حرون ،سؤال يجمع إحساساً قوياً بالقهر والخيبة فهروب البوح كالملح في العين وكالشوك في الدرب ينتج عنه الملل في انتظاره ، وتجدر الإشارة هنا استمرار البيئة والمكان في جذب صورها للنص لتدهش المتلقي بهذا الإختيار للرد على ما تحدثه عدم الجدوى وعجز القلم واللسان عن البوح من تصرفات وحوادث  وقد أوردت تحول ذلك الإحساس إلى صورة قد تحمل الخيال وتحيله في إيحاء جميل بالواقع بما فيه من غرابيب وعناكب وتتناسل الصور التي تعمق الإحساس بخيبة حصولها على رد فعل من الآخر لحنينها للبوح مما يؤكد جزالة الحس بقوة الشوق الذي ينشده النص        

أيها البوح البليد

مالذي اقحمك

في ملح عيني

تهرب

الأطلال 

تقذف أشواكها 

في دروبي

أهش أعشاش

فوق الغرابيب

أفض خيوط العناكب

تنكش حجارةَ

الوجع 

المسفي على

كتفي  

تسل ألسنتك

في قلبي 

يخفق وميضك

حين دجى 

تفتل طينك

وتنثره

فوق بياض 

اسقفي

يواصل النص النداء هنا باستعطاف، وتتغير اللغة من عتابها وقوّتها إلى هدوئها لتضفي على عجز القلم واللسان  الغيوث والغيث هو مبعث الحياة بما له من قدرة الري وانعاش الحياة تناديه بلطف ليخبرها ويجيب عن سؤالها  وكأنّها تدعوه في محكمة  نصية شهودها القلم والشفاه واللسان ليشهدا بإحساسها القوي الذي تعرض عديد المرات لتعنيف الشوق والحنين ليشقيانها  ويعذبانها .   

أيها البوح 

المغيث 

أخبرني 

كم مرة 

اسلمت فيها 

خاصرتي

لخيزرانة 

الحنين ..؟  

  ما نخلص إليه أن النص الشاعر عند هدى الغول ترتفع فيه وتيرة الحس في خفايا سطوره وكلماته بصنوفه العديدة المترامية والمتنوعة . وقد نجح النص في التجلي بإحساس متفرد الأخيلة والصور الموصلة بين حس الشاعرة والمتلقي.

شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post حروف عاصيات
pexels-photo-3806749.jpeg Next post بلجيكا ومطالب زيادة الأجور