woman in black dress standing on grass field

عيشة قنديشة… حكاية مغربية عن “رعب الإغواء”

حسن الأشرف

شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_لا توجد شخصية شعبية تاريخية في الذاكرة التراثية للمغاربة أكثر غموضاً من عائشة قنديشة أو (عيشة قنديشة)، فمن اعتبرها جنية مرعبة إلى مجرد أسطورة خرافية، تقف في المنتصف مجموعة ثالثة تؤمن بأنها شخصية حقيقية لسيدة قاومت بضراوة جنود البرتغال .

ويختلف المؤرخون والمهتمون في شأن حقيقة عيشة قنديشة، هل كانت بالفعل جنية وساحرة شمطاء ترعب من يراها في المغرب , أم “قديسة” بالنظر إلى جهادها ضد الاحتلال البرتغالي، خلال القرن الخامس عشر؟ لكن يتفقون جميعاً على أنها شخصية حفرت في ذاكرة المغاربة بالفعل.

وتكاد تتقاطع قصة قنديشة التي لا تزال إلى اليوم خالدة في التراث الشعبي المغربي مع أساطير خيالية أخرى في مناطق مختلفة بالعالم، منها “النداهة” بمصر مثلاً و”أم الدويس” ببعض بلدان الخليج و”صاحبة الفم الممزق” باليابان.

جنية شريرة

يحتفظ التراث المغربي بمن يرى أن قنديشة تنتمي إلى عالم الجن المظلم المحاط بكثير من الأسرار، وكانت تشتهر بأسماء مختلفة منها “بغلة المقبرة”، إذ تظهر في مقابر الموتى على شكل أنثى البغل أو “مولات المرجة” أي صاحبة المستنقعات.

وترتبط الأسطورة الرائجة “بغلة المقبرة” حول ظهورها للبعض مثل امرأة فائقة الجمال، غير أن لها قدمين تشبهان حوافر البغال أو الجمال، الشيء الذي يدخل الرعب في نفوس الناس.

أما أصل تسمية “مولات المرجة” أو “مولات الواد”، فيعود إلى الأسطورة التي تقول إن قنديشة كانت “جنية” تظهر فقط قرب المناطق المائية من وديان ومستنقعات وبحار، وأنها كانت تتسيد هذه الأماكن خصوصاً في الليل.

وتضيف الذاكرة التراثية الشعبية للمغاربة توابل أخرى إلى هذه القصص، من قبيل أن عيشة قنديشة هذه كانت سيدة بارعة الجمال تتربص بالرجال، وتحاول فتنتهم وإغواءهم، فإذا بلع أحدهم الطعم ووافقها وذهب معها إلى وكرها، ضاجعها ثم انقضت عليه لتقتله شر قتلة، فتقتات من دمائه ولحم جسده.

هذا التراث الشعبي المتداول يكمل بأن قنديشة كانت تتسم بنقطة ضعف وحيدة على رغم جبروتها وقوتها سواء في الإغواء أو القتل، تتمثل في أنها كانت تخشى من اشتعال النار، وهو ما حصل مع رجال أرادت أن تغويهم وتنفذ خطتها، غير أنهم عمدوا إلى إحراق عماماتهم أمامها بعد أن رمقوا شكل قدميها اللتين تشبهان حوافر جمل، فهربت “الجنية لا تلوي على شيء”، وفقاً للأسطورة.

هذه القصص والحكايات تداولها الناس منذ عقود قديمة، وكان بإمكان كل شخص أن يزيد أو ينقص في متنها ليحولها إلى أسطورة لا تصدق حتى أصبحت قنديشة كائناً خرافياً يصعب التصديق بوجوده، وصارت بمثابة فزاعة يخيف بها الكبار الأطفال الصغار من أجل إسكاتهم أو إرغامهم على الذهاب إلى النوم مبكراً.

الكونتيسة

في الجهة المقابلة، هناك من اعتبر عيشة قنديشة شخصية حقيقية عاشت في القرن السادس عشر، وأن أصلها يعود إلى المورسيكين بالأندلس، بينما لقب “قنديشة” أصله كلمة “كونتيسة” أي الأميرة بالنظر إلى أصولها النبيلة.

تفيد الرواية الثانية الرائجة بأن هذه السيدة كانت شخصية معروفة بمقاومتها جنود الاحتلال، إبان التوسع البرتغالي للمغرب الذي دام زهاء قرن، وبدأ منذ سنة 1415 ميلادية، وكانت شراستها في مواجهتهم سبباً في الاشتهار بأنها جنية وليست من بني البشر.

وتقول رواية مقاربة أخرى إن هذه السيدة كانت تصطاد جنوداً من الجيش البرتغالي، وتغريهم جنسياً بالنظر إلى جمالها وقدها الممشوق، وإنها كانت بعد ذلك تنهي حياة هؤلاء الجنود بطريقة شنيعة قرب الوديان والمستنقعات.

ولا تخلو هذه الرواية التراثية من “توابل أسطورية” أيضاً، إذ يحكى أن عيشة قنديشة هذه كانت في يومها الذي تتصيد فيه الجنود البرتغاليين، تنتعل حذاءً مثل أقدام الحيوانات، بهدف التمويه على الجنود البرتغاليين، حتى لا يعرفوا وجهتها.

وتعزو هذه الروايات المنتشرة قيام الكونتيسة بهذه الأفعال ضد جنود البرتغال إلى رغبة شخصية في انتقامها منهم بعد أن قتلوا زوجها وأفراد أسرتها في الأندلس.

ويبدو بشكل جلي كيف تتقاطع روايتا عيشة الجنية المرعبة والمقاومة للجنود البرتغاليين، خصوصاً من حيث الإغواء بالجمال وفتنة الأنثى، وأيضاً بقتل خصومها قرب الوديان، لكن لا يوجد مؤرخ واحد يؤكد هذه الروايات الشعبية المنتشرة في الذهنية التراثية للمغاربة.

اهتمام أكاديمي

لم يكن الخيال الشعبي المغربي وحده الذي اهتم بشخصية عيشة قنديشة، سواء باعتبارها جنية وأسطورة خيالية أو شخصية حقيقية من لحم ودم، بل استأثرت أيضاً باهتمام ومتابعة مؤرخين ومفكرين وأكاديميين مغاربة وأجانب.

وقد أفرد القاضي العباس بن إبراهيم السملالي كتاب “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام”، مشكلاً من عشرة أجزاء، لعديد من الأعلام الذين حلوا بمنطقة مراكش، وذكر من بينهم عيشة قنديشة، وقد نعتها بكونها ولية صالحة ومتصوفة.

وفق هذا المؤرخ فإن عيشة قنديشة ليست جنية أبداً، ولا مقاومة للجيش البرتغالي كما يروج، لكنها سيدة ذات صلاح ووقار، وكان الناس يزورونها للتبرك بها، وكانت تقرض الشعر الزاجل للحديث عن الجفاف وهيمنة الأشرار وقلة الأخيار.

من جهته اهتم الفيلسوف وعالم الاجتماع الفنلندي إدوارد أليكساندر ويسترمارك، المتوفى في سبتمبر (أيلول) 1993، بموضوع عيشة قنديشة، بخاصة أنه أقام في المغرب نحو سبع سنوات متنقلاً بين القبائل والمناطق المختلفة.

ودبج هذا العالم الفنلندي مؤلفاً مهماً عن المغرب انطلاقاً من تفسيراته في شأن عدد من الظواهر الاجتماعية والدينية المثيرة للجدل، ومنها ما ألفه بخصوص عيشة التي أقام مقارنة بينها وبين آلهة الحب القديمة (عشتار).

عالم الاجتماع الفرنسي الأصل المغربي المولد بول باسكون بدوره اهتم بهذا الموضوع في مؤلفه عن أساطير ومعتقدات المغاربة، وحكى كيف أن أستاذاً جامعياً ينحدر من دولة أوروبية حاول تحضير بحث عن عيشة قنديشة، غير أنه اضطر لأسباب غامضة إلى حرق كتبه بعد تعرضه لحوادث غامضة، وفق ما رواه باسكون.

روايات ومسرحيات

ألهمت عيشة قنديشة باعتبارها أسطورة تراثية تجمع كل العناصر المشوقة من غموض وإثارة وخيال وشيء من الواقع والتاريخ، عدداً من الكتاب والروائيين والفنانين والرسامين إلى تمثيل هذه الشخصية أو جعلها محوراً لأعمالهم الفنية.

في مجال الرواية والأدب، تطرق الكاتب المغربي الراحل عبدالمجيد بن جلون إلى موضوع عيشة قنديشة في مجموعته القصصية “وادي الدماء”، حين صورها سيدة مقاومة للاستعمار الأجنبي بقتل الجنود بطريقة ماكرة من دون أن يتم القبض عليها لتتحول إلى بطلة تراثية خالدة.

أما الروائي مصطفى لغتيري فقد كتب عن قنديشة في روايته “عائشة القديسة”، بصفتها شخصية تاريخية تحولت في الخيال الشعبي والتراثي إلى جنية خطرة وقاتلة، لتخلد كإحدى أشهر الأساطير في الذهنية الجمعية للمغاربة.

وحاول لغتيري في كتابه الروائي أن “يحرر” القارئ من ربق التبعية للأسطورة الرائجة بقوة في شأن قنديشة الجنية، كما حاول أن يغلب في الرواية الفكر التنويري على الفكر المستند على الغيبيات والأساطير الخرافية.

من جانبه، تطرق الروائي المقيم في هولندا مصطفى الحمداوي إلى عيشة قنديشة في روايته “الكونتيسة” الصادرة عام 2019، مستلهماً عجائبية الحكايات التي تتناول أفعال وأوصاف هذه الشخصية المثيرة للجدل والسجال عبر تاريخ المغرب.

وتحولت قصة لجواد العادلي عن قنديشة بعنوان “هواجس بعد منتصف الليل” إلى فيلم من إخراج محمد العليوي، فيما قدم عبدالكريم برشيد مسرحية بعنوان “عيشة قنديشة أو الجنية التي أرادت أن تصبح إنسية”. وقدم مسرحيون عرضاً بعنوان “شكون هي عيشة (من هي عائشة)”، علاوة على تناول الفنانة التشكيلية الفرنسية آناييس آغميل تيمة عيشة قنديشة في لوحاتها الفنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Previous post سجل “ذاكرة العالم” يدخله “جبل عكمة” السعودي
Next post استقالة وليد جنبلاط