موقف ألمانيا من الشعب الفلسطيني وحق إقامة دولته
شبكة المدار الإعلامية الأوروبية …_تسعى ألمانيا لأن توازن ما بين “التزام” تأريخي أمام شعب إسرائيل واليهود، وما بين دعم الشعب الفلسطيني في اقامة دولته، وهذا ما يمثل مهمة غير سهلة إلى ألمانيا. و في الوقت التي تدين فيها ألمانيا أعمال بعض الفصائل الفلسطينية باستهداف الداخل الإسرائيلي، هي أيضاً تعطي الحق إلى إسرائيل بالرد والدفاع عن النفس. وبينما تؤكد ألمانيا دائماً حق إقامة الدولتين، وترفض دوماً بناء المستوطنات، إلا أنها رفضت مشروع نقل السفارات إلى القدس الشرقية، وهذه مهمة صعبة، تجعل ألمانيا ان تكون أكثر حذر بتعاملها مع ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ألمانيا وإسرائيل – مصالح مشتركة
استغرق الأمر وقتاً طويلاً جداً حتى أقامت إسرائيل وألمانيا علاقات دبلوماسية رسمية، حيث كانت هناك في إسرائيل تحفظات كثيرة على إقامة علاقات مع “بلد الجناة” (في إشارة إلى فترة حكم النازيين و”الهولوكوست”). لكن مع مرور الوقت أصبحت هناك علاقات وثيقة جداً بين إسرائيل وألمانيا في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية.
الاستراتيجية الألمانية : يتم تأطير التأكيد على المسؤولية عن أمن إسرائيل بشكل متزايد من حيث الحاجة إلى توفير “ملاذ آمن” لليهود الإسرائيليين. يؤكد ذلك خطاب المستشارة ميركل أمام الكنيست عام 2008 حيث أعلنت أن أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من سبب وجود ألمانيا. وبالمثل، فإن وزارة الخارجية الألمانية، وكذلك مقترحات استراتيجية الجيش الألماني لعام 2016 ، الإشارة إلى “المسؤولية الخاصة” لحماية “أمن إسرائيل” و “الحق في الوجود” كأولويات استراتيجية للسياسة الخارجية والأمنية الألمانية.
استمرت شحنات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل مع تسليم غواصات من طراز دولفين، يعتقد أنها مزودة برؤوس حربية نووية في إسرائيل. بشكل عام، أثبت البرنامج أنه مفيد لصناعة بناء السفن الألمانية، حيث عوضت إسرائيل التكاليف بالإيرادات المكتسبة من المشتريات الألمانية من المعدات الإسرائيلية عالية التقنية، مثل الطائرات بدون طيار وغيرها مما يسمى بالتكنولوجيا الأمنية. كانت ألمانيا واحدة في العقد الماضي، من أكبر مستوردي هذه المعدات الإسرائيلية، في المرتبة الثانية بعد الولايات، وفقاً لتقرير تصدير الأسلحة نصف السنوي للحكومة. يستخدم الجيش الإسرائيلي على نطاق واسع التكنولوجيا “ذات الاستخدام المزدوج” من ألمانيا، مثل محركات الدبابات، وأجهزة الملاحة المساعدة، وأجهزة استشعار الأشعة تحت الحمراء، ويشارك مصنعو الأسلحة من كلا البلدين حالياً في التطوير المشترك لأنظمة أسلحة جديدة
والعلاقات على مستوى المجتمع المدني قوية بنفس القدر. مجموعة الصداقة البرلمانية الألمانية الإسرائيلية هي ثاني أكبر مجموعة في البوندستاغ بينما تحافظ النقابات العمالية الألمانية، وكذلك الجمعيات الكنسية والثقافية، على روابط واسعة مع نظيراتها الإسرائيلية. وفي تطور مثير للاهتمام، اتخذ حوالي ثلاثين ألف إسرائيلي – معظمهم من الشباب من المهنيين الأشكناز من الطبقة الوسطى – من برلين موطنا لهم في السنوات الأخيرة.
موقف ألمانيا من إقامة الدولة الفلسطينية
يتصف الموقف الألماني بالتعقيد والحساسية بالنسبة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تعقيدات الموقف الألماني تتمثل بعدّة زوايا أولها أن ألمانيا لديها نظرة انتقادية لسياسة الاستيطان الإسرائيلية، ولديها أيضا قلق من أوضاع حقوق الانسان في إسرائيل. كما أن ألمانيا أيضاً هي أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي، الذي يدعم بدوره الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً. ومن زاوية أخرى “فإن ألمانيا تعتبر أهم شريك لإسرائيل، بعد الولايات المتحدة، ولأسباب تاريخية هناك دعم ألماني لإسرائيل.
وفقاً لوزارة الخارجية الألمانية، تشكل الجهود المبذولة من أجل التوصل الى سلام عادل ودائم في منطقة الشرق الأوسط أحد المحاور الرئيسية في السياسة الالمانية الخارجية. ويعتبر بناء دولة فلسطينية ديمقراطية ومتصلة وقادرة على الحياة أمر جوهري لإحلال السلام طويل الأمد في منطقة الشرق الأوسط، فحل مستدام للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني يتواءم وتصور ألمانيا وشركائها يمكن الوصول إليه فقط من خلال مفاوضات تقود إلى حل على أساس دولتين: دولة إسرائيل ودولة فلسطينية ديمقراطية وقابلة للحياة تعيشن في أمن وسلام إلى جانب بعضهما البعض.
يتضح موقف ألمانيا من الاعتراف بالدولة الفلسطينية من خلال تصريح المستشار الألماني، أولاف شولتز عقب اجتماع مع الرئيس الفلسطيني في برلين في 17 أغسطس 2022 من أنه يرى أن الوقت ليس مناسباً للاعتراف بدولة فلسطينية، داعيًا إلى حل تفاوضي بين إسرائيل والفلسطينيين، قبل تغيير الوضع الحالي لفلسطين كدولة مراقب في الأمم المتحدة. وقال شولتز: “هذا ليس الوقت المناسب لتغيير هذا الوضع. يجب أن تستند الخطوات الأخرى إلى حل تفاوضي مع إسرائيل”.
الموقف الألماني الذي عبر عنه شولتز يبدو متناسقًا مع الموقف الأمريكي، الذي عبر عنه الرئيس جو بايدن بقوله إن خيار حل الدولتين هدف بعيد جداً. وكان قد عارضت ألمانيا إلى جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مشروع قرار تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبيه (87) صوتاً في 31 ديسمبر 2022 يطالب محكمة العدل الدولية إبداء “رأي استشاري” في مسألة الاحتلال الإسرائيلي لأراض فلسطينية، وتحديد “العواقب القانونية لانتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير” بالإضافة إلى إجراءاتها “لتغيير التركيبة الديموغرافية لمدينة القدس وطابعها ووضعها”، واعتماد إسرائيل تشريعات وإجراءات تمييزية لتكريس هذه السياسة غداة تولي بنيامين نتانياهو رئاسة حكومة هي الأكثر يمينية بتاريخ إسرائيل.
معاداة السامية
تعد معاداة السامية تهمة كبيرة في ألمانيا. هذا البلد المسؤول عن الإبادة الجماعية لليهود في أوروبا قبل ثمانين عاماً، والمسؤول عن معسكرات الاعتقال وإبادة ستة ملايين من اليهود. لذلك فإن الرأي العام في ألمانيا يتعامل بحساسية أكبر مع مسألة كراهية اليهود. وبالتالي، إنكار المحرقة ممنوع في ألمانيا، والشتم أو الاعتداء على اليهود يمكن معاقبته كجريمة تحريض، وكذلك حرق العلم الإسرائيلي في مظاهرة معادية لإسرائيل يعتبر جريمة يمكن ملاحقتها قانونياً.
يثور الجدل والخلاف في حال معاداة السامية المتعلقة بإسرائيل حول الفرق والحدود بين ما يسمى بانتقاد إسرائيل وكراهيتها أو كراهية اليهود. حاولت منظمة “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” وضع تعريف لمعاداة السامية، إذ يمكن أن تكون تجليات معاداة السامية موجهة لدولة إسرائيل أيضا.
تجدر الإشارة إلى أنه تم تبني تعريف “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” لمعاداة السامية من قبل الأوساط العلمية ومن الحكومة الألمانية والبرلمان الأوروبي أيضاً. ولكن هناك انتقادات أيضاً لهذا التعريف، وخاصة من الوسط الثقافي، حيث هناك من يخشى أن يتم تضييق مجال انتقاد إسرائيل. هناك تعريفات أخرى يمكن أن تساعد في معرفة معاداة السامية المتعلقة بإسرائيل، فبموجب قاعدة 3D يكون انتقاد إسرائيل معاداة للسامية إذا تم “شيطنتها أو نزع الشرعية عنها أو لدى ازدواجية المعايير”.
رفض ألمانيا منح تراخيص لتظاهرات مؤيدة لفلسطين
رفضت السلطات الألمانية في 13 مايو 2023 منح تراخيص لمظاهرات وتجمعات مؤيدة للفلسطينيين ببرلين بمناسبة ذكرى النكبة، وقالت الشرطة الألمانية إن هذه الفعاليات تتضمن دعوة إلى الكراهية، وتنكر حق إسرائيل في الوجود، وأشارت إلى صلات مزعومة بين التظاهرات وتنظيمات فلسطينية.
أعلنت الحكومة الألمانية في 17 أغسطس 2022، استدعاء رئيس البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في برلين للاحتجاج على تشبيه الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأعمال الإسرائيلية بالمحرقة، قائلاً إن “اسرائيل ارتكبت منذ عام 1947 حتى اليوم (50) مجزرة في (50) موقعاً فلسطينياً”، وأردف ” (50) مجزرة (50) هولوكوست”. وقال متحدث باسم الحكومة الألمانية: “من الواضح بالنسبة لنا، الحكومة والمستشار، أن الاضطهاد والقتل الممنهج لستة ملايين يهودي أوروبي جريمة لا مثيل لها ضد الإنسانية”، في حين عبر المستشار الألماني أولاف شولتز عن رفضه لتلك التصريحات بعبارات واضحة: “أي تهوين من شأن الهولوكوست هو أمر لا يمكن احتماله ولا قبوله بالذات بالنسبة لنا نحن الألمان”.
أصدر البرلمان الاتحادي الألماني – البوندستاغ – في 17 مايو 2019 قراراً أدين فيه حركة المقاطعة (BDS) باعتبارها معادية للسامية. ودعيت المؤسسات الحكومية في ألمانيا إلى عدم دعم أي أنشطة لحركة المقاطعة أو أي مجموعات “معادية للسامية وـ أو تطالب بمقاطعة الإسرائيليين والشركات والمنتجات الإسرائيلية”. وقد حظيت هذه الخطوة غير العادية للبرلمان بتأييد جميع الأحزاب السياسية بتوافق الآراء: أحزاب الاتحاد المسيحي (CDU و CSU) والديمقراطيون الاجتماعيون (SPD) والحزب الليبرالي (FDP) وحزب الخضر.
تقييم
– لعبت العوامل الاجتماعية والتاريخية أدواراً كبيرة في تشكيل سياسة ألمانيا الرسمية بشأن إسرائيل ـ فلسطين، حيث يُنظر إلى الصراع في المقام الأول من منظور مسؤولية ألمانيا تجاه إسرائيل كممثل قانوني وأخلاقي لليهود الذين وقعوا ضحية للنظام النازي. وتفهم هذه المسؤولية على نطاق واسع على أنها تجعل أي انتقاد للسياسات الإسرائيلية غير مقبول.
– تبعاً للخطاب الرسمي حول “القيم المشتركة” والمسؤولية التاريخية التي تؤطر العلاقات الألمانية الإسرائيلية، فإن دعم إسرائيل مبرر على المستوى المجتمعي بالحاجة إلى منع عودة معاداة السامية.
– لا تختلف ألمانيا في سياستها الخارجية الشاملة عن الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي. سياسة هي مزيج من “التحفظ” تجاه انتهاك السلطات في إسرائيل لحقوق الفلسطينيين، مع توطيد العلاقات الاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية مع إسرائيل. تورطت إسرائيل بقتل عدد من الصحفيين الفلسطينين وكذلك بانتهاكات صريحة ضد المدنيين، منها هدم البيوت ومصادرتها، إلى جانب بناء المستوطنات التي تتعارض مع اتفاق أوسلو والتفاهمات الفلسطينية الإسرائلية.
ـ بات مرجحاُ ان تستمر ألمانيا في سياستها الحالية في زمن شولتس الأشتراكي بالموازنة ما بين “التزام تأريخي أمام شعب إسرائيل وما بين حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولة المشروعة ـ القدس.
المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات