“العقيد بوتان” جاسوس نابليون الذي مهّد لاحتلال فرنسا للجزائر
شبكة المدارالإعلامية الأوروبية…_لعقودٍ طويلة عملت فرنسا في سرية كبيرة من أجل تجسيد مشروعها في احتلال الجزائر، فبعد أن فشلت حملاتها العسكرية المباشرة في القرنين الـ16 والـ17 بسبب قوة الأسطول البحري الجزائري، بدأت التفكير جلياً في إعداد الخطط المناسبة لشن عملية عسكرية ضد الجزائريين، وذلك عن طريق إرسال جواسيس إلى الجزائر لإستشراف الواقع العسكري والاجتماعي، من أجل تحديد اللحظة المناسبة للغزو.
كان من بين هؤلاء الجواسيس، العقيد بوتان، الذي قدم إلى الجزائر بأمرٍ من نابليون سنة 1808، من أجل هذه المهمة العسكرية غاية السرية.
وفي ظرف أشهرٍ قليلة، نجح هذا الجاسوس في اختراق الجزائريين، وجمع معلومات استخباراتية كبيرة، واضعاً بذلك مشروعاً لغزو الجزائر، أطلق عليه مشروع بوتان، الذي نفّذ حرفياً بعد 20 سنة من إعداده.
لماذا أراد نابليون احتلال الجزائر؟
كان اهتمام الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت بالجزائر جزءاً من سياسته لجعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة فرنسية، ومن أجل التفوق على منافسته بريطانيا في هذا الموقع الجغرافي الاستراتيجي، ففي وقت مبكر من عام 1798، كانت لدى نابليون خطة بإرسال بعثات استكشافية من أجل تدمير الإيالات العثمانية الثلاث الجزائر وطرابلس وتونس، وذلك بحسب موقع ouvroir الفرنسي.
استكملت هذه الخطة باحتلال الفرنسيين لكل من مالطا وجزيرة كريت وجعل ألبانيا محمية من قِبل فرنسا، وكانت كل هذه الخطوات تهدف إلى جعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة فرنسية، للتفوق على الغريم البريطاني، وضمان طرق التجارة بين مصر وآسيا.
لتسجيل تفوقٍ على بريطانيا في المتوسط، كان نابليون يدرك أهمية احتلال الجزائر قبل أن تستولي عليها بريطانيا، لذلك دعا إلى وضع خطط لمشروع بعثته إلى الجزائر.
فقد كانت الجزائر تمثّل نقطة استراتيجية مهمة تقع جبل طارق ومالطا التي يحتلها الإنجليز العدو التقليدي لنابليون، ومن أجل التعامل مع هذا الوضع، كان من الضروري على الإمبراطور الفرنسي التفكير في احتلال الجزائر الواقعة بين منطقتين تحتلهما القوة المنافسة للفرنسيين، خاصة أنّ الجزائر كانت تقع مقابل فرنسا على الضفة الإفريقية من المتوسط.
وضع على طاولة نابليون العديد من الخطط لغزو الجزائر، من بينها، الوثيقة المكونة من 42 صفحة، التي أعدها الأسير السابق في الجزائر، فرانسوا فيليب لو ماي، في عام 1800؛ وخطة شارل فرانسوا دوبوا ثينفيل، في عام 1801 بعنوان موجز العمليات في إفريقيا، لكنّ تلك الخطط لم تعجب الإمبراطور الفرنسي.
مع ذلك، ظلّ نابليون مصراً على فكرة الرحلة الاستكشافية للجزائر، فبعث سنة 1808، برسالة إلى وزير بحريته الأميرال ديكريس يطلب فيها إيفاد شخصٍ إلى الجزائر من أجل اكتشافها والإجابة على الأسئلة التالية:
هل يوجد ميناء على ساحل الجزائر يكون فيه سرب من قواتنا في مأمن من قوة متفوقة؟ ما هي الموانئ التي يمكن للجيش أن ينزل من خلالها؟ وكم عدد المنافذ المختلفة التي يمكن أن يحجبها العدو؟.. ما هو الموسم الذي لا يخاف فيه الطاعون ويكون الجو جيداً؟
اختار الوزير ديكر العثور قائد كتيبته العقيد بوتان، الذي كان يتميّز بتدريبه القوي وتجربته الثرية في الجوسسة، إذ سبق أن أُرسل في مهمة مماثلة إلى إسطنبول قبل سنة من ذلك.
العقيد بوتان جاسوس نابليون الذي وضع خطة احتلال الجزائر
وُلد الجاسوس بوتان في قرية لو لوروكس بوتيرو، بالقرب من مدينة نانت الفرنسية، وذلك في الأوّل من يناير/كانون الثاني 1772 لعائلة برجوازية، إذ كان والده مالك الأرض الثري الذي أصبح أول رئيس بلدية للقرية.
التحق بوتان بمدرسة Mézières الهندسية، ثم بمدرسة Metz العسكرية بين 1792 و 1793، حيث أنهى تدريبه برتبة ملازم ثانٍ.
بدأ حياته العسكرية في عام 1794، عندما أصيب أثناء حصار ماستريخت، وفي عام 1798 انضم إلى جيش نهر الدانوب في ماينز بألمانيا، وبعد عام من ذلك، تم إرساله إلى بازل للانضمام إلى الجيش السويسري.
في عام 1800 تمت ترقيته إلى رتبة نقيب في إيطاليا وفي عام 1804 انضم إلى جيش باتافيا ومعسكر أوترخت، وفي أكتوبر /تشرين الأوّل 1806، أسره الروس في راغوزا، حيث ظل في الأسر لمدة ثلاثة أشهر.
بدأ نجم العقيد بوتان في اللمعان مع المهمة العسكرية والدبلوماسية التي كلفه بها نابليون في أغسطس 1806، حين أرسله إلى إسطنبول من أجل مساعد الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، وهي المهمة التي ابلى فيها بوتان البلاء الحسن، بحيث منح وسام الهلال من قبل السلطان العثماني سليم الثالث.
بمجرد انتهاء مهمته في الأناضول، تم إرسال بوتان إلى الجزائر التي كانت تابعة إلى الدولة العثمانية، لكن هذه المرة ليس لمساعدة العثمانيين، ولكن لإعداد مشروع نابليون من أجل احتلال الجزائر.
تنكّر في عدة صور، ورسمّ خريطة الجزائر بدقة
في 24 مايو/أيار 1808، نزل العقيد بوتان بميناء الجزائر، متخفياً. وقد كان في استقباله القنصل الفرنسي دوبوا ثينفيل، الذي ادعى أن قريبه في مهمة تجارية، وذلك حسب مقالٍ أكاديمي بعنوان: “مشاريع الاحتلال الفرنسي للجزائر”.
طيلة 6 أشهر، تنكر بوتان في عدة صورٍ وأزياء من أجل رسم معالم مشروعه الاستعماري، فتارة تنكّر في زي صيادٍ وأخرى في زي متجوّلٍ، خصوصاً أن السلطات الجزائرية كانت معلنةً عن حظرٍ تجوال الأوروبيين في مدينة الجزائر.
كان اكتشاف المكان المناسب لإنزال القوات الفرنسية في الساحل الجزائري أوّلاً مهمة ركّز عليها العقيد بوتان، لذا كان يتردد على سواحل الجزائر بداية من منطقة “رأس ماتیفوا ” منتقلاً من البرج البحري إلى غاية استقراره على شاطئ سيدي فرج مكاناً مناسباً للإنزال.
وفقاً لمذكرة أكاديمية بعنوان: “مشروع بوتان ودوره في الاحتلال الفرنسي للجزائر”، كان سبب نجاح الجاسوس بوتان في مهمته، انشغال السلطات الجزائرية في صراعها مع باي تونس، ومع ذلك، أثارت تحركات الجاسوس الفرنسي شبهات الداي أحمد باشا الذي هدد بوتان بدفنه حياً إلى أن عاد لزيارة الأماكن الحساسة في الجزائر.
دوّن العقيد بوتان جميع ملاحظاته حول ميناء الجزائر وتحصيناته، بما في ذلك الطريق بين سيدي فرج والعاصمة في تقريرٍ أطلق عليه “الحصون والبطاريات الحربية في الجزائر”، وأرفقه بأطلس يضم خمس عشرة خريطة ومخططاً سرياً للمواقع والحصون الجزائرية.
وأوصى العقيد بوتان في تقريره بإنزال القوات الفرنسية في الجزء الغربي لشاطئ سيدي فرج، ووصف هذا الجاسوس الخطير أفضل طريقة للنزول، وذلك بمهاجمة المواقع الدفاعية في الجزائر وقوات الداي.
كما وصف بوتان مدينة الجزائر وتحصيناتها ومحيطها بالتفصيل، إذ قال:
يتكون سور الجزائر العاصمة من جدار قديم يبلغ ارتفاعه 11 إلى 12 متراً، تتوج بفتحات بها ثغرات وما مجموعه 214 حافظة مدفعية، تصطف عموماً على مسافات قصيرة بأبراج مربعة تقريباً، بدون نتوءات وبدون سعة […] الجزء العلوي بأكمله، أي أن ثلثي المدينة محظور على الأوروبيين؛ إنه نوع من الأعجوبة أن تمر عبر Porte Neuve. ومع ذلك، غامرنا بالسير في الشوارع، الأمر الذي أتاح لنا الفرصة لمشاهدة القليل من القصبة وشكل السور […] تشكل القصبة مثلثاً مشتركاً بين ضلعيه مع المدينة، والثالث المواجه للبحر به حفرة وسور شبيه بالباقي بل وأقوى.
احتوى تقرير الجاسوس بوتان أيضاً على ثلاثة أنواع من المعلومات: أولاً، المعلومات التي جمعها الجاسوس والتي تتعلق بالطرق التي زارها، ثم المعلومات التي قدمها القنصل الفرنسي وموظفوه، والتي تتعلق بشكل خاص بالحياة اليومية في مدينة الجزائر العاصمة ومحيطها المباشر.
أخيراً، البيانات المتعلقة بوصف مدن ومناطق الوصاية، والتي تم أخذها من عمل الدكتور توماس شو الرحالة البريطاني، بعنوان: الرحلات والملاحظات المتعلقة بعدة موانئ البربرية والشام، والذي كُتب في حوالي عام 1732، وتضمن جغرافية الجزائر العاصمة.
كشف أمره في جبل لبنان، ونفّد مخططه لاحتلال الجزائر بعد 15 سنة عن وفاته
بعد عودته من مهمته التجسسية في الجزائر في نوفمبر/تشرين الثاني 1808، تم تكليف العقيد بوتين بمهمة آخرى، وهي رحلة تجسسٍ إلى سوريا ولبنان سنة 1813، وهي المهمة التي لقى فيها الجاسوس بوتان حتفه، بعد أن كشف أمره في جبل لبنان وأعدم على يد أبنائها، وفي تلك المهمة، نسج بوتان علاقة مع الجاسوسة البريطانية الشهيرة الليدي هستر ستانهوب.
وبعد عشرين عاماً على صدور تقريره، و15 سنة على وفاته، أصبح تقرير بوتان مرة أخرى مرجعاً ودليلاً على إمكانية نجاح غزو الجزائر.
ففي عام 1830، تم اتباع تعليمات العقيد بوتان حرفياً عندما نزلت القوات الفرنسية في 5 يوليو/تموز من تلك السنة بشاطئ سيدي فرج، وبذلك سقطت الجزائر في فخ الاحتلال الفرنسي لمدة 132 سنة.
عربي بوست